قضايا وآراء

تونس: تعديل وزاري يعيد الاعتبار للدستور

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600
بعد انتظار دام أسابيع، أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد تعديلا وزاريا شمل 18 منصبا حكوميا، بينها 13 وزيرا، أحدهم يهودي الديانة، وخمسة كتاب دولة.. وقال الشاهد في تصريح له: "قمنا بالتحوير الوزاري لإضفاء فعالية ونجاعة على العمل الحكومي، وتحملت المسؤولية في ذلك كرئيس حكومة وفق الصلاحيات التي منحها لي الدستور". وأضاف أن التحوير غايته "تسوية الملفات الاقتصادية والاجتماعية، ولوضع حد للأزمة السياسية التي تمر بها البلاد، وذلك بعد القيام بالمشاورات الضرورية".

الناطقة باسم رئيس الدولة الباجي قايد السبسي ردت بأن رئيس الجمهورية غير موافق على التمشي، الذي انتهجه رئيس الحكومة بخصوص التحوير الوزاري.. في حين اعتبر حزب نداء تونس التعديل انقلابا سياسيا على رئيس الجمهورية أخطر من الانقلاب المسلح، وأنه يذكر بانقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة العام 1987.

ذاك بعض جديد الساحة السياسية التونسية هذه الأيام.. جديد يدفع الساحة السياسية إلى تطورات متسارعة قبل عام من الانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية المقررة في 2019.. انتخابات تفهم في سياقها وحدها، دون سواها.. كل الحركات والمبادرات السياسية، وعلى رأسها تعديل الحكومة، وعرضها على البرلمان؛ لاستمداد الشرعية.. شرعية شكك فيها رئيس الدولة وحزبه، حزب نداء تونس، الذي يجد نفسه خارج الحكم، لأول مرة بعد أربع سنوات من قيادته للبلاد.. قيادة دفعت بتونس في أتون أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة، تجاهد الحكومة للخروج منها دون أن تتمكن من ذلك حتى الآن.

خبراء الدستور

خبراء القانون الدستوري لا يرون ضيرا في ما قام به رئيس الحكومة، معتبرين ذلك من أبجديات الصلاحيات التي أعطاه إياها دستور البلاد.. أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، وهو أشهر أساتذة القانون الدستوري في تونس، قال لوكالة الأنباء الرسمية إن "رئيس الحكومة يوسف الشاهد ليس مجبرا على أن يتشاور مع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي في تعيين أعضاء حكومته، والتشاور يقتصر على وزيري الدفاع والخارجية فقط، كما ينص على ذلك الفصل 89 من الدستور". وبما أن رئيس الحكومة ترك الدفاع والخارجية دون تغيير، فالتعديل الوزاري في نطاق صلاحياته الدستورية.

وأضاف قيس سعيد: "الخلاف بين قرطاج (مقر رئيس الجمهورية) والقصبة (مقر رئيس الحكومة) هو خلاف سياسي، وليس هناك أي مانع دستوري على الإطلاق في أن يعلن رئيس الحكومة عن إدخال تحوير بدون استشارة رئيس الجمهورية". وقال: "الإشكال السياسي قد يتعقد أكثر لو يرفض رئيس الجمهورية التوقيع على الأمر الرئاسي لتعيين الوزراء الجدد، أو يؤجل موكب أداء القسم دون تحديد لموعده، فأعضاء الحكومة مطالبون بأداء اليمين أمام رئيس الجمهورية عملا بأحكام الفصل 89 من الدستور"..

فهل يفعلها رئيس الجمهورية ويرفض التوقيع على الأمر الرئاسي بتعيين الوزراء الجدد؟ كل شيء في السياسة وارد.. ولكن الرئيس سيجد نفسه في حرج شديد، وخاصة إذا نالت الحكومة ثقة واسعة من قبل البرلمان، يتوقع أن تكون بأكثر من 130 نائبا برلمانيا من أصل 217، فسيكون رئيس الجمهورية ساعتها في عزلة سياسية حادة، وربما يضطره ذلك لاستقبال الوزراء الجدد في حفل أداء القسم.. قسم سيكون على القرآن الكريم، وربما على التوراة أيضا من قبل وزير السياحة الجديد، اليهودي التونسي روني الطرابلسي.

الضارة النافعة

منذ أن وضع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي قدميه في قصر قرطاج؛ وهو يعمل على الالتفاف على الدستور الذي وضعه الآباء المؤسسون للديمقراطية التونسية، وجعلوا نظام الحكم أقرب للنظام البرلماني منه للرئاسي. فالرئيس مدعوما بالأغلبية النسبية، التي حصل عليها حزبه في انتخابات مجلس الشعب عام 2014، حرص، رغم أنف الدستور، على استعادة النظام الرئاسوي الذي عملت تونس على الانعتاق منه بعد ثورتها في العام 2011، جاعلا من نفسه محور العملية السياسية في تونس؛ يعين رئيس الحكومة ويقيله متى شاء، ويمهد لقراراته الكبرى بحوارات خارج البرلمان، حتى إذا تم الاتفاق في "قرطاج 1" أو "قرطاج 2"، وجد البرلمان نفسه مضطرا ليوقع على ما يتفق عليه السياسيون خارجه.

غير أن تلك الهيمنة التامة لرئيس الجمهورية على الحياة السياسية بدأت بالانخرام منذ أن أخذ حزبه بالتفكك والتشرذم والانقسامات المتتالية، تحت قيادة نجله حافظ قايد السبسي، وهو سياسي فاشل، لا ينافسه أحد على المرتبة الأخيرة في استطلاعات الرأي. هنا كانت الساحة تنتظر من يقول للرئيس كفى.. فكان الشاهد جاهزا، ووجد في حركة النهضة سندا له.

رئيس الجمهورية، الذي سبق له أن أعلن حين كان رئيسا للحكومة عام 2011 أنه لا يحكم إلا وحده ولا يقبل شريكا في الحكم، لم يفهم الوضعية الجديدة، ولم يدرك أن المشهد السياسي قد تغير جذريا عن عام 2014، وخاصة بعد الانتخابات البلدية الأخيرة، التي حل فيها حزبه ثانيا، وبمسافة كبيرة فاصلة بينه وبين حركة النهضة. وحاول إقالة رئيس الحكومة، فجمع الأحزاب والمنظمات المهنية والنقابية الكبرى في قصر قرطاج لتحقيق المهمة..

هنا وقفت حركة النهضة وقالت: لا.. قالت إن البلاد عرفت ثماني حكومات في سبعة أعوام بعد الثورة، وأن المطلوب لم يعد تغيير الحكومات، بل أن تعطى الحكومة فرصة للاستقرار ولتغيير الواقع.. وهنا أعلن الرئيس إنهاء التوافق بينه وبين حركة النهضة، ودخل معها في حرب غير مباشرة، مستخدما قوى اليسار ممثلة في الجبهة الشعبية، التي بات همها الوحيد حل حركة النهضة، بزعم أنها حركة إرهابية، حتى تجد الجبهة فرصة للفوز في انتخابات من دون الإسلاميين.

عاد نظام الحكم إذن إلى طبيعته؛ نظاما شبه برلماني.. الصلاحيات الرئيسية فيه للبرلمان ولرئيس الحكومة باعتباره ممثل السلطة التنفيذية، وعادت الخلافات السياسية تحسم في البرلمان لا خارجه.. ولم يعد بوسع رئيس الجمهورية أن يحكم ويتحكم في كل شيء في وقت لا يعطيه الدستور إلا صلاحيات محدودة، قياسا بما يعطيه من صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الحكومة.

تمرد الابن فهاجم أبوه الجيران


تمرد رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهو قيادي ندائي معروف، على حزبه نداء تونس، فلم يجد الحزب من رد سوى مهاجمة غريمه وشريكه السابق في الحكم، حزب حركة النهضة، معتبرا أن الحكومة الحالية هي حكومة النهضة بامتياز، وأن النهضة نفذت انقلابا على الرئيس وحزبه، مستخدمة رئيس الحكومة لتحقيق أغراضها في الهيمنة على أجهزة الدولة، وأن النداء لن يسكت في مواجهة ذلك..

وكان حزب النداء قد أعلن قبل أيام أنه يبحث إمكانية تشكيل حكومة دون إشراك حركة النهضة فيها.. إعلان رد عليه رئيس النهضة الشيخ راشد الغنوشي بالقول: "من يستطيع تشكيل حكومة من دون النهضة فليفعل".. لكن النداء المشتت المتهالك أعجز من أن يقدر على ذلك.

اليوم، تم التعديل الحكومي، ووجد حزب نداء تونس نفسه خارج الحكومة.. حتى وزراؤه فيها، وهم ستة وزراء وكاتبي دولة، لم يستجيبوا لطلبه بالانسحاب منها، ما يعني فقدانه التام للقدرة على ضبط قياداته وقواعده المتمردة عليه، فضلا عن فقدانه لأهم مواطن قوته: وجوده في السلطة.. وضعية جعلت قياديا سابقا في حزب النداء يسخر من حزبه قائلا إن بوسع الحزب وأمينه العام سليم الرياحي، المطلوب من الحكومة الليبية بسبب مزاعم باستيلائه على أموال ليبية، تشكيل حكومة منفى في ليبيا.

النداء حزب تشكل ليحكم، ومن ثم فهو غير قادر على العيش خارج الحكم.. فمغانم الحكم وتوزيع المسؤوليات على الأنصار والأتباع هي ما يشد به النداء ما بقي من قياداته وأتباعه إليه.. وأزمات الحزب المتفجرة وصراعات أجنحته يرجح أن تتفاقم اليوم أكثر بعد أن وجد الحزب نفسه يتيما مفطوما عن مغانم الحكم.. لكن تهديد الحزب بأنه لن يسكت أمام ما يجري، وحديثه عن انقلاب سياسي أخطر من الانقلاب المسلح، يجعل التونسيين يحبسون أنفاسهم مما قد يقدم عليه رئيس الجمهورية وحزبه من ردود لا يعرف أحد غايتها ومنتهاها.
التعليقات (0)