قضايا وآراء

النقابة والإفراط في التسييس بعد الثورة التونسية

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600
إضراب عام جديد ينفذه الاتحاد العام التونسي للشغل الخميس (22 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري). هو ثالث إضراب عام للمركزية النقابية بعد الثورة، ورابع إضراب عام في تونس منذ استقلالها عن المستعمر الفرنسي في العام 1956.. إضراب عام وحيد طيلة 55 عاما، حصل في العام 1978، ثلاثة إضرابات عامة في سبع سنوات من عمر الثورة..

معطيات وأرقام تكشف لوحدها عن أن اتحاد العمال الذي كان يعطي اعتبارا في سياسته للحكومة، ويحسب خطواته معها كثيرا، وظل طيلة 23 عاما من حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي خاضعا خضوعا تاما للسلطة، وخاصة في قيادته المركزية التي لم تدعُ إلى أي إضراب عام، ووجد في الثورة التي حررت التونسيين من الاستبداد فرصة لاستعراض عضلاته، وفرض نفسه حاكما على الحكومات، ومتحكما في الحياة السياسية، فأغرق الثورة التونسية في المطلبية المجحفة، بما يوشك أن يوقع البلاد في دوامة اقتصادية يخشى التونسيون أن تقود بلادهم للإفلاس.

حسابات السياسة ومكرها

إلى جوار عبث الاتحاد ليست الحكومة مبرأة من العبث السياسي الذي تعيشه البلاد. فقبل موافقة البرلمان على التعديل الحكومي دخل رئيس الحكومة يوسف الشاهد في مفاوضات ماراثونية مع اتحاد الشغل، وتوصلا لإلغاء الإضراب في القطاع العام، الذي كان مقررا يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.. قدم الشاهد تنازلات كبيرة لم يجد النقابيون بدا أمامها من إلغاء الإضراب العام.. لكن الشاهد الذي تنازل من قبل رفض اليوم، بعد تجديد شرعية حكومته أمام البرلمان، تقديم تنازلات جديدة..

إن التضخم الذي بلغ 8.1 في المئة وتسبب في تهرئة المقدرة الشرائية للتونسيين، وخاصة الطبقة الوسطى منهم، واتُّخِذ مبررا لزيادة رواتب موظفي القطاع العام في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يصلح هو ذاته مبررا لزيادة رواتب العاملين في قطاع الوظيفة العمومية، وهو أمر جعل العاملين في هذا القطاع يتساءلون: لماذا تزيد الحكومة في رواتب القطاع العام ولا تزيد في رواتبهم هم؛ بما يحقق المساواة بينهم وبين نظرائهم، بما أن التضخم يطحن القدرة الشرائية للجميع ولا يؤثر على قطاع دون آخر؟ 

لا أحد يعرف ما يدور في رأس رئيس الحكومة، لكن الظاهر أنه إلى جانب ضغوط صندوق النقد الدولي بعدم زيادة الرواتب، فإن الرجل يضيق ذرعا باتحاد العمال، ويعرف أنه سيتصادم معه اليوم أو غدا، بسبب الخلاف الكبير بين الحكومة والنقابة حول قضايا كثيرة؛ أبرزها إصلاح الصناديق الاجتماعية المهددة بالإفلاس، وحجم كتلة الأجور التي باتت ترهق ميزانية الدولة، والتعامل مع صندوق التعويض. ويرغب يوسف الشاهد في وضع اتحاد الشغل في مواجهة مع الرأي العام، الذي بات ضائقا صدره من كثرة الإضرابات التي تعطل مصالح الناس وتضر باقتصاد البلاد.

ولا ينسى رئيس الحكومة المملوء فرحا بنجاحه في تجديد شرعية حكومته في البرلمان؛ أن اتحاد الشغل قد عمل طويلا مع خصمه وغريمه حافظ قائد السبسي، منسق حزب نداء تونس، ومع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، الذي حاول إقالة الشاهد وفشل في تحقيق مبتغاه. وبما أن انتخابات العام 2019 هي الموجه لتصرفات معظم السياسيين التونسيين، فإن الشاهد قد يكون بدأ حملته الانتخابية مبكرا بصراع مفتوح مع اتحاد الشغل. ويعرف الشاهد أن التونسيين الذين يكتوون بنار الأسعار والتضخم، يحمّل قطاع واسع منهم اتحاد العمال نصيبا كبيرا من المسؤولية عن الوضع السيئ الذي يعيشون في ظله، حتى بات بعضهم يحن لما قبل الثورة.

أبعد من المطالب النقابية.. إنها السياسة

دعوة حزب العمال الشيوعي، الذي يقوده حمة الهمامي، الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية المعارضة، قواعد حزبه للتعبئة وإنجاح الإضراب العام، تكشف أن الأمر أبعد وأعمق من مطالب نقابية مشروعة.. فما علاقة حزب شيوعي بإضراب النقابة؟ إنها السياسة تحشر أنفها في مطالب العمال وتختفي وراءها. وليست السياسة جديدة على الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعرف نفسه بأنه أكبر من نقابة مطلبية، وأنه منظمة وطنية تهمها قضايا السياسة الكبرى في البلاد.. لكن الاتحاد بعد الثورة تجاوز القضايا السياسية الكبرى لينخرط في صغائرها، حتى يوشك أن يصبح حزبا سياسيا أكثر مما هو نقابة.

يعرف التونسيون جميعا أن معظم القيادات المركزية لاتحاد الشغل هي قيادات يسارية من أنصار حزب العمال الشيوعي وأنصار أحزاب الجبهة الشعبية عامة.. ويعرفون أن مطالب العمال تكاد تكون مجرد غطاء وذريعة لتدخل الاتحاد في الشأن السياسي اليومي، وفي طريقة الحكومة في تسيير شؤون البلاد. وسبق لقيادي نقابي كبير، صار لاحقا وزيرا، أن هدد كل حكومة تتجاهل قوة الاتحاد بأن الاتحاد سيستخدم ماكينته لفرمها.. وقد فعل الاتحاد ذلك مع حكومة الترويكا.. أرهقها بنحو 35 ألف إضراب قطاعي وإضرابين عامين.. حتى أسقطها.

كذلك لو كان اهتمام الاتحاد منصبا على خدمة قواعده النقابية، لما دخل في اصطفافات سياسية صغيرة مع هذا الحزب ضد ذاك، بل ولما أقحم نفسه في صراع هذا الجناح ضد ذاك داخل حزب نداء تونس.. لقد رضي الاتحاد أن يكون كبش نطاح لصالح رئيس الجمهورية ونجله في إقالة رئيس الحكومة.. وفشل في تحقيق أهدافه، ويثأر اليوم من الحكومة ورئيسها، عبر إضرابات ترهق المواطن وتضر بالاقتصاد.

ولا تتوقف السياسة التي تمارسها النقابة عند الإضراب العام في الوظيفة العمومية.. التعليم ساحة أخرى من ساحات الضغط النقابي على الحكومة.. أطفال هم تلاميذ المدارس تتخذهم النقابة رهائن عندها لتساوم بهم الحكومة.. ذلك ما يكرره أولياء التلاميذ وقطاع واسع من الرأي العام التونسي.. نقابة التعليم تقرر الامتناع عن إجراء الامتحانات.. والتوتر يبلغ ذروته بين النقابة ووزارة التعليم.. إنه التوتير وتعفين المناخ السياسي استباقا وتمهيدا لشهر كانون الثاني/ يناير المعروف بشهر الاحتجاجات في تونس.. شهر شتوي بارد يتوقع أن يكون ساخنا سياسيا العام القادم الذي بات على الأبواب، استعدادا وتدخلا في انتخابات عامة يتوقع أن تجري في آخره.

النهضة ومنشار النقابة

لم يهاجم الأمين العام لاتحاد الشغل السيد نور الدين الطبوبي، على هامش تعبئته العمال للإضراب العام، الحكومة وحدها.. سبّق النهضة عليها، متهما إياها بأنها والحكومة تشوهان الاتحاد وإضرابات العمال.. قال الطبوبي إن نشطاء النهضة يشوهون الاتحاد.. لم يجد تصريحا واحدا من أي قيادي من النهضة، التي اعتادت أن تؤكد دائما احترامها للاتحاد وسعيها للعمل معه، فاتخذ المواقف الشخصية لقواعد الحركة ليهاجمها، متناسيا أن صفحات الاتحاد على فضاء التواصل الاجتماعي، وحتى جريدته الورقية، لا يغيب عنها في أي يوم أو أسبوع وجبات السب والترذيل التي توجه للنهضة، وكأن المشرفين على الجريدة وصفحات التواصل الاجتماعي نشطاء يعبرون عن آرائهم الشخصية، لا عن رأي أكبر منظمة نقابية في البلاد.

إنه منشار النقابة يستلذ تقطيع لحم النهضة، ثم يحتج على قواعدها كيف تنتقده، وكأن الاتحاد مقدس من المقدسات التي يجب أن لا يطالها النقد أو الاحتجاج.. فالنقد والاحتجاج حكراعلى النقابة وحدها، ولا يجوز لأحد منافستها فيهما.. إنه التسييس المفرط تغرق فيه نقابة العمال دون أن تدرك خطر ذلك عليها وعلى البلاد بأسرها، فالرأي العام التونسي بات يضيق بها ذرعا.. والنقابة تخسر أنصارها كل يوم، وفضاءات التواصل الاجتماعي باتت فيها صورة النقابة قرينة الفساد والصعلكة والإضرار بالثورة.
التعليقات (0)