قضايا وآراء

صناعة أوراق اللعبة... تركيا مثالا

1300x600
1300x600
(في السياسة: لو لم تكن لديك أوراق فعليك أن تصنعها)

هذه الجملة طالما أسمعتها لقادة المعارضة المصرية، وزملاء العمل السياسي في مصر منذ سنوات، ولطالما طالب السامعون بأمثلة على مقولتي. في السطور القادمة نضرب مثالا لمن يملك الإرادة وقرر أن يصنع أوراقا ينزل بها إلى مضمار السياسة الدولية.

لعدم الإطالة، فلن أخوض كثيرا في تركيا ما قبل العدالة والتنمية، ولكن باختصار فإن تركيا ما بعد الجمهورية هي تلك الدولة المستأنسة الوظيفية التي أُريدَ لها أن تكون رقما في معادلة الهيمنة الغربية في عالم ما بعد سايكس- بيكو، ودولة وظيفية وخط دفاع متقدما للغرب بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة.

وظلت تركيا في هذا المقام حتى بعد سنوات من حكم حزب العدالة والتنمية الممتد منذ أكثر من ستة عشر عاما، لكن الحزب الذي تمكن - إلى حد كبير - من مفاصل الدولة، لا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016، وتورط دول إقليمية وحليفة، بدأ حقبة جديدة في تاريخ تركيا.

لم يكن الغضب الناتج عن محاولة الانقلاب هو الدافع الحقيقي وراء تغير استراتيجية الإدارة التركية تجاه العديد من القضايا المحلية والإقليمية والدولية، كما أن إعادة ترتيب أوراق الأمن القومي التركي، وما يستتبعه ذلك من خيارات التعامل مع الدول المرتبطة بعلاقات وشركات، بات محل دراسة وإعادة تقييم، فلا ثوابت في السياسة، وهي قاعدة كافية لتغيير موقف الإدارة التركية مع المعطيات الدولية ورغبتها في تشكيل علاقات ندية تكافؤية إلى حد ما مع دوائر علاقاتها الدولية.

وكانت البداية مع إنهاء نظرية مهندس العلاقات الدولية التركية في حزب العدالة والتنمية، أحمد داود أوغلو، التي طالما أخرجت تركيا من دائرة الفاعل المؤثر في المحيط الإقليمي والدولي، فلم تعد نظرية "صفر مشاكل" تصلح مع الظرف الدولي ولا الخطر الداهم الذي يحيط بتركيا العدالة والتنمية، فقد كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة عن الوجه القبيح لمن كانت تركيا تعدهم حلفاء.

وعلى هذا الأساس، فقد كانت سوريا هي الهدف الأول، لتكون تركيا رقما صعبا في معادلته، بعد أن كانت تكتفي بالدور الناعم المتمثل في استضافة اللاجئين، والذي استفادت منه في المرحلة الجديدة كورقة تلاعب بها الغرب، ولا سيما ألمانيا في فترة محاولات الأخيرة الضغط على تركيا ما قبل الانتخابات الرئاسية وتعديل الدستور في تركيا، ثم استخدمت ورقة سوريا في وجود حقيقي أبقاها في مساحة لا بأس بها؛ يمكن التفاوض عليها في مباحثات الحل النهائي، ومن ثم تقطع الطريق على الأمريكي الذي تخلى عن الجيش الحر المدعوم من تركيا لصالح وحدات حماية الشعب الكردية الذي يعد عدوا خطرا وأداة أمريكية لتهديد الأمن القومي التركي، وهو ما يتجلى الآن في العملية التي تعد لها تركيا في شرق الفرات، وهو ما يعني أن الورقة السورية باتت خنجرا في خاصرة المصالح الأمريكية في سوريا، لا سيما بعد التقارب التركي - الروسي، وتعاقد تركيا على منظومة الدفاع الجوي الروسية "أس 400"، والتي بها تقول للغرب إن معادلة التبعية قد انتهت.

وقد استفادت تركيا من التنافر الأمريكي الغربي بعد محاولات أمريكا ابتزاز أوروبا المستمر لدفع تكاليف الدفاع، مما جعل تركيا تسعى لتقارب حذر مبني على المصلحة مع كل من فرنسا وألمانيا، ومستفيدة منهما لوقف التهور الروسي المحتمل فيما لو انفردت روسيا بتركيا.

ورقة القس الأمريكي المتهم بالتجسس في تركيا كانت ورقة مهمة في رفع العقوبات الأمريكية عن تركيا؛ لعبت بها تركيا في وقت استشعرت بنزيف اقتصادها بعد الضربة التي لا يمكن إنكارها من ساكن البيت الأبيض، والتي سبقتها بقليل أوامر للشركات الكبرى بسحب استثماراتها من تركيا، حتى تؤثر العقوبات بشكل مباشر على الاقتصاد التركي ومن ثم على رجل الشارع، لكن الإدارة التركية استطاعت استخدام مؤشر المواطنة لصالحها بتصعيد الخطاب الشعبوي، لتجد لنفسها ظهيرا يساندها في أزمة صوّرتها على أنها حرب ضد القومية التركية؛ في خطاب وجداني يدغدغ مشاعر التركي التي تعرف الإدارة التركية سر خلطتها.

وجاءت جريمة الصحفي السعودي المغدور داخل قنصلية بلاده في إسطنبول كورقة أهديت إلى تركيا من غير ذي حكمة، فاستفادت منها - ولا تزال - في صراع تضرب به عدة عصافير في وقت واحد: الأمير الصغير الذي نحى منحى يورط العلاقات التركية – السعودية، وحليفه الأمريكي (الهدف الأول، ورأس البلاء) لإظهار الإدارة الأمريكية بمظهر تاجر البندقية الجشع وسبب كل الشرور.

أما الصين، فهي ورقة تلعب بها تركيا الآن لتحويل قواعد اللعبة، ولتكون مركزا بعد أن كانت هامشا، فالمستقبل الاقتصادي الصيني على المدى البعيد يلوح بآفاق لا يراها إلا ذو نظر، ومشروع الحزام والطريق إنما هو تجل للمشروع الصيني القادم بسرعة، ويسرع من تلك الخطى تصميم الرئيس الصيني على إنفاذه في أقرب وقت، وستكون تركيا بوابته.

هذا غيض من فيض من أمثلة سعت تركيا الجديدة لصنعها لنفسها، لتخلق لنفسها مكانا بين الكبار، في عالم لا يعرف إلا لغة القوة، وقوة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية هي المصالح، وكلما قويت المصالح قويت أوراق لعبك فلن تهزم.

(فإن لم تكن لديك أوراق لعب، فعليك أن تصنعها بنفسك).
التعليقات (0)