قضايا وآراء

جدل "الكريسماس" في كل عام

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

كثيراً ما تكون الأسئلة أدلَّ في رصد توجھات الناس وطرائق تفكيرھم من الإجابات، فالأسئلة ھي ثمرة التراكم المعرفي و مؤشر الأولويات المھيمنة على العقل، فليس كل الأسئلة سواء، إذ إن ھناك أسئلة وجيھة تستفز النشاط العقلي وتستحثه لمزيد من الإنتاج العلمي والعملي، وھناك أسئلة محبطة ليس لمشقة الإجابة عنھا بل لأنھا تكشف الفجوة الواسعة في خرائط الاھتمام و طرق التفاعل مع الحياة، لذلك يذكر المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد في أحد كتبه أنه كان يبادر أي صحفي يرغب في عقد مقابلة معه بسؤاله: "ھل لديك أسئلة وجيھة؟".

إذاً لا يصح أن يقال ھذا سؤال وذاك سؤال، وأن ينتظر الإجابة عن أي سؤال، فھل يستوي أن يسأل سائل عن طرق تطوير النظام القضائي لتقوية روح العدل وحماية القانون من أساليب الالتفاف والمخادعة، وأن يسأل سائل عن حكم قول صباح الخير! إن السؤال كاشف الاھتمام، فالأول ثمرة ھيمنة قضية العدالة على نفس صاحبھ، بينما السؤال الثاني ثمرة تشوش تلقائية الفطرة وعفويتھا. 


ھذه ھي معضلة الجدل الفقھي العقيم الذي يثار في نھاية كل عام مع حلول عيد الكريسماس في العالم المسيحي: ما حكم تھنئة المسيحيين بأعيادھم؟ فيذھب فريق إلى التحريم ويذھب فريق آخر ميسراً إلى الإجازة راصداً عدداً من الأدلة والشواھد الفقھية التي يعزز بھا رأيه. 


ومع التقدير لأصحاب الرأي الميسر على الناس إلا أن المشكلة أعمق من تلمس الأدلة والشواھد لإثبات إجازة التھنئة، فجوھر المشكلة ھو أن تكون ھذه القضية في دائرة المفكر فيه في عقولنا، وفي المساحة الكبيرة التي تحتلھا من اھتماماتنا. إن الإنسان في حالته الفطرية يتعامل ببساطة و لا يخطر بباله أن تكون ھذه المسألة قضية نقاش.


إن مشاركة الإنسان لأخيه الإنسان في مشاعره ھي من البداھة مثل مساعدة الناس بعضھم بعضاً في شؤون الحياة، يفعلھا الناس بدافعھم الفطري دون حاجة إلى تقعيد وتأصيل ينزع من الحياة بساطتھا و سلاستھا. 


ھذا النوع من النقاشات الرائجة في الساحة الفقھية يكشف عن انفصال الفقه عن حركة الحياة، وفي مسعىً من المدرسة الفقھية للمحافظة على شرعية وجودھا فإنھا تضخم المسائل الصغيرة وتوحي للناس بخطورة ھذه القضايا و مركزيتھا و تخترع لكل مسألة من مسائل الحياة أحكاماً ومحددات وضوابط وتأصيلاً وتقعيداً يجب على المسلم الإحاطة بھا كي لا يضل عن سواء السبيل، وھذا الفعل يلجأ إليه أصحابه بطريقة لا واعية ضمن آليات النفس الدفاعية خوفاً من تجاوز الناس دورھم وتآكل شرعيتھم.


لقد سمعنا مئات الأسئلة مثل حكم استعمال الانترنت، وضوابط دخول فيسبوك وحكم الجلوس على شاطئ البحر وحكم استعمال مكبرات الصوت، وقصة الآداب والأحكام والضوابط عموماً تعني تأخر الفقه

عن حركة الحياة، فالآخرون يبادرون وينسجون نظم الحياة، ثم نأتي نحن من بعدھم لنخلق لأنفسنا تميزاً متوھماً ونرقع آراءنا وأفكارنا لنقول إن لدينا ھويةً خاصةً بنا و لنحمي مفاھيمنا القديمة أننا دار الھداية و الإسلام وأن العالم من حولنا بكل منجزاتھ وإبداعاتھ ھو عالم الكفر! 


ھل يحتاج الدين حقاً إلى كل ھذه المساحة الضخمة من الأحكام والآداب التفصيلية؟ ألا يكفي أن نقول إن الدين ھو دعوة إلى العدل والحكمة والرحمة والصلاح والإحسان ليعرف الناس بعد ذلك سبيلھم بميزان الأخلاق الذي أودعھ الله فيھم! إذاً كيف نفھم أن بعض الناس في زمن النبي محمد صلى الله عليھ وسلم كانوا يأتون إليھ فيبين لھم الدين في كلمة أو كلمتين: "قل آمنت بالله ثم استقم"، ثم ينطلقون بعد ذلك في شعاب الحياة غير مثقلين بأسفار من الشروح والتفاصيل؟! 


إن الذين يصنعون الحياة لن تتسع أوقاتھم للمسائل الصغيرة، فالذي يلتحق بركب الحياة و يكرس جھده لإقامة العدل ونشر الرحمة و الإحسان إلى الخلق والتعاون مع الأمم على البر والتقوى سيكون عملياً أكثر في التعامل مع محيطھ، و سيتبادل التھاني مع صديقه وزميله و جاره المسيحي واليھودي لأن ھذا الفعل ھو مقتضى الحياة الطبيعية، أما المنشغلون بجواز التھنئة أو تحريمھا فإن ما يدل عليھ انشغالھم ھو حالة الفراغ الفكري التي يعيشونھا وغياب الإنتاج الحضاري و الانفصال عن حركة الحياة.


لقد أكد القرآن على المبادئ الكبرى لتكون نبراساً ھادياً لنا في حركة الحياة، فقرر في آيات محكمات أن أصل العلاقة مع غير المسلمين ھو البر والقسط والإحسان: " لا ينھاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم أن تبروھم وتقسطوا إليھم إن الله يحب المقسطين"، لكن التعنت والإصر والأغلال أنتجت أحكاماً مناقضةً لھذا الھدي القرآني فقررت هذه الأحكام أن العلاقة بيننا وبين العالمين ھي التباغض والتنافر وقلة الذوق والأدب، فيھنئوننا ھم بأعيادنا ويشاركوننا في مناسباتنا دون أن نبادلھم ھذه المجاملات والملاطفات، فإن جادلت أصحاب ھذه الآراء بأن القرآن أولى أن يتبع قالوا لك إن أفھام الفقھاء مستمدة من القرآن، وھو ما يعني حسب منطقھم أن القرآن يدعو إلى الشيء وعكسھ، لكنھم عملياً يقدمون أفھام البشر التي قيلت في ظروف زمنية محددة دون أن يمنحھا أحد العصمة و الإطلاق على كلام الله المحكم الذي لا يأتيھ الباطل من بين يديھ ولا من خلفھ..


أفلا يعقلون!

0
التعليقات (0)