كتاب عربي 21

هل يحرقون ثورة تونس بولاعة البوعزيزي؟

محمد هنيد
1300x600
1300x600

بنفس الأداة التي أضرم بها البوعزيزي ـ رحمه الله ـ النار في جسده وفي جسد الأمة النائمة وأيقظ بها الجماهير المسحوقة تحت سياط الاستبداد أُشعلت النار في جسد الصحفي عبد الرزاق الزرقي في ولاية القصرين بتونس. نفس الأداة ونفس المشهد ونفس الولاعة لكن السياق كان مختلفا تماما بل ومتناقضا كليا في أهدافه مع ما كان الشهيد البوعزيزي يعبر عنه. المشهدان متقابلان ولا يكادان يختلفان في الظاهر لكن الأمر في باطنه متنافر شديد التنافر. فالسياق هو غير السياق والهدف هو غير الهدف والفاعل الحقيقي هو غير الفاعل بين المشهدين.

مشهدان مختلفان
 
في المشهد الأول كان الشهيد محمد البوعزيزي يصور حالة شعب في قمة اليأس والإحباط ولم يكن أحد يعلم بما يخطط له أو ما ينوي فعله. لقد كانت حركته على عنفها ترمز إلى مدى اليأس والقمع الذي وصلت إليه تونس في عهد الطاغية بن علي فكانت النار أداة الخلاص الوحيدة من حالة الموت وانعدام الأفق الذي وصلت إليه جهات برمتها في تونس. 

لقد كانت حركة البوعزيزي حركة عفوية فلا أحد كان يتصور أو يتوقع المدى الذي تبلغه حركة عفوية مثل حركته، فقد أحرق الكثيرون أنفسهم قبله وبعده في دول عربية كثيرة لكن حركة البوعزيزي وحدها هي التي شكلت الكتلة البشرية العابرة للحدود لترسم الفعل الجماهيري المذهل الذي أسقط أكثر من طاغية ولا يزال.

 

كانت حركة البوعزيزي حركة عفوية فلا أحد كان يتصور أو يتوقع المدى الذي تبلغه حركة عفوية مثل حركته،

أما ما حدث بالأمس في ولاية القصرين معقل الثورة مع ولاية سيدي بوزيد وكذلك معقل الحرب على الجماعات الإرهابية، فقد كان فعلا أمرا مدبرا بليل. لقد أظهرت الصور الأخيرة من مكان الحادث كيف نسق شخصان إحراق الصحفي المغدور بعد أن تم استدراجه إلى ساحة الجريمة في ميدان الشهداء، إذ تظهر صور الفيديو كيف تم إشعال النار من الخلف بشكل لم يكن يتوقعه الضحية وكيف استدار المسكين نحو مصدر الشرارة وهو يشتعل كعمود من نار.

 

إقرأ أيضا: بعد فتح تحقيق.. هل انتحر الصحفي التونسي أم أحرقوه؟
 
بسرعة البرق وما إن وقع الإعلان عن الحادث حتى انبرت المجاميع الإعلامية المرتبطة بالثورة المضادة إلى إعلان الثورة الثانية وإلى إعلان ميلاد البوعزيزي الجديد الذي سيسقط الدولة والحكومة والثورة. نفس الأبواق انطلقت في حملة "التجويق الإعلامي" لإعلان ثورة ضد الثورة وإلى إشعال فتيل الحريق الجديد الذي يراد له إحراق ثورة البوعزيزي بنفس الولاعة.

 

نشاط للثورة المضادة
 
لكن لابد لفهم الحركة الأخيرة من تبين السياق السابق لها وهو سياق يلقي بضوء كاشف عليها أو على ما أريد بها. فقد تهاطل على تونس في الآونة الأخيرة جمع من رؤوس الثورات المضادة عربيا إذ زار تونس عراب الانقلاب المصري نجيب ساويرس والتقى قيادات رفيعة في الدولة، كما رحّلت تونس في الآونة الأخيرة رجل أعمال مصري بعد انكشاف نشاطاته المشبوهة التي تمس بالأمن القومي وتهدف إلى نشر الفوضى في البلاد بغية التحضير لانقلاب يصطبغ بصبغة الاحتجاجات الاجتماعية على غلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية للمواطن.
 
في نفس الإطار أيضا كُشفت مجموعات ممولة خليجيا تعمل في سياق ما سمي بالسترات الحمراء المرتبطة رأسا بقصر الرئاسة في قرطاج وتهدف إلى استنساخ النموذج الاحتجاجي الفرنسي لتعطيل المسار الانتقالي وضرب المسار الثوري. وهي المجموعات التي تزامنت حركاتها مع التصعيد الاحتجاجي الذي يقوم به "الاتحاد العام التونسي للشعل" من أجل إشعال الشارع ولعب دور قيادي في إسقاط الحكومة والدفع بالبلاد نحو المجهول. فقد حشدت المنظمة النقابية كل قوتها وخلاياها في جهات البلاد من أجل تأجيج الصراع الاجتماعي وتعطيل الدروس وضرب عجلة الإنتاج وإفشال المشهد الانتقالي.
 
إن نجاح ثورة تونس رغم كل المصاعب لا يزال يؤرق القوى الإقليمية العربية، وخاصة الخليجية منها، ولا يزال يمثل كابوسا للنظام الرسمي العربي بما هو الوكيل الشرعي للمنظومات الاستعمارية العالمية ولقوى النهب الدولية التي ترى في تحرر الشعوب وفي ظهور التجارب الديمقراطية العربية خطرا كبيرا عليها وعلى أطروحاتها ومصالحها. لهذا السبب لا تزال هذه القوى تعول على جيوب النظام القديم من أجل إجهاض التجربة التونسية وإلحاقها ببقية التجارب العربية وخاصة منها المصرية لكي يتم طي صفحة الثورات العربية إلى الأبد.

 

نجاح ثورة تونس رغم كل المصاعب لا يزال يمثل كابوسا للنظام الرسمي العربي بما هو الوكيل الشرعي للمنظومات الاستعمارية العالمية

إن إحراق المصور الصحفي عبد الرزاق الزرقي يمثل حلقة أخيرة في المسار الذي يستهدف رأسا الموعد الانتخابي المقبل، وهو موعد سيسمح بتجديد المشهد السياسي وبترسيخ مسار الانتقال الديمقراطي وتكريس تجربة الانتخابات لتصبح تقليدا تونسيا قائما لا يمكن التنازل عنه أو الانقلاب عليه.
 
تونس لا تزال إذن لم تعبر إلى برّ الأمان ولا تزال التهديدات الداخلية والخارجية منها قائمة وليست الأخبار الواردة بين الفينة والأخرى عن مجموعات إرهابية هنا وأخرى هناك يمثل إشارات متباعدة عن حجم التهديد الذي يستهدف البلد برمته ويعمل على إسقاط المسار في الفوضى والتخريب والعنف. لكن من ناحية ثانية لا يزال الشعب التونسي واعيا بحجم التحدي ولا تزال قواه الحية متشبثة بالمكسب الثوري وهي لا تزال تؤمن بأن الصراع مع النظام القديم وأذرعه الدولية والعربية والمحلية لم ينته بعد.

إن مدينة القصرين التي شكلت مع مدينة سيدي بوزيد مسقط رأس ثورة الحرية والكرامة بقيت مستهدفة إلى اليوم سواء بالعمليات الإرهابية المشبوهة أو بالاغتيالات ونشر الفوضى والاقتتال من أجل أن يتم حرق الثورة في مهدها. فاختيار المدينتين لهذا الغرض ليس اعتباطيا وإنما يستمد رمزيته من رمزية المدينتين في المخيال الشعبي التونسي باعتبارهما مركزي الاحتجاج الشعبي والغضب الجماهيري منذ عقود. فقد عانت المدينتان من التهميش والاحتقار والفقر والبطالة من قبل النظام بشكل جعلهما خزانا لا ينضب للاحتقان والتمرد.
 
لقد فشلت إلى اليوم كل النوايا والمخططات لإشعال الحريق التونسي وذهبت كل الأموال التي صرفتها قوى الثورة المضادة في الخليج بهدف إسقاط التجربة التونسية التي، وهي تنجح اليوم وتصمد أمام كل جحافل الانقلاب، ترسم الطريق أمام الشعوب العربية في صناعة نموذج سياسي واجتماعي يتخلص تدريجيا من إرث الاستبداد ويؤسس لمرحلة عربية جديدة ستكون حتما مخالفة لما قبلها.

 

إقرأ أيضا: احتجاجات في 8 دول عربية بالتزامن مع ذكرى "الربيع العربي"


التعليقات (0)