كتاب عربي 21

التحديث والسياق الفكري

شريف أيمن
1300x600
1300x600
انطلقت عملية التحديث الإداري بمصر مع حكم محمد علي لها، وبسبب التأخر الثقافي والحضاري الذي لحق بالدولة العثمانية وولاياتها، كانت أوروبا هي وجهة التعلّم والتحديث، إذ تزامن مع التأخر العثماني تطور أوروبي كبير في عمليات التصنيع، وتطور علمي بطبيعة الحال، ومن هنا اتجه محمد علي إلى أوروبا ليأخذ الجانب التطبيقي والإداري، لكن الذاهبين إلى هناك منذ ذلك الوقت وما بعده؛ لم يكتفوا بنقل العلوم، بل نقلوا معها الإطار الفلسفي الذي تشكّلت منه هذه العلوم.

كانت العلوم الأوروبية في مكانة متأخرة، وساهم الاطّلاع على التراث اليوناني في نقد الواقع والأفكار، كما ساهم علماء مسلمون في ترجمة كتب أرسطو، بعدما كانت السيادة الثقافية لكتابات أفلاطون، ومن ثَم مهّدت هذه الترجمات للمجتمعات الأوروبية أن تطّلع على جانب إضافي من الثقافة اليونانية. وشكّلت هذه المرحلة إرهاصات ما سُمّي بالإصلاح الديني في أوروبا، وهي المرحلة التي ازدهرت على يد الراهب مارتن لوثر في أوائل القرن السادس عشر، خاصة مع ترجمة الإنجيل إلى لغات قومية؛ سمحت للمجتمعات أن تطّلع على الإنجيل بشكل مباشر ودون وساطة روحية، ما أحدث شرخا في العلاقة بين المجتمع وقيادات كنسية استغلت نفوذها الروحي في خداع البسطاء. ومن هنا، انتشرت الدعوة اللوثرية في أرجاء أوروبا، وتشكّلت ملامح المذهب البروتستاني.

كانت الدعوة اللوثرية تهدف إلى الحد من سلطان الكنيسة على الأفراد، والفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، مستندا في ذلك إلى ما اعتبرها الأصول المسيحية.. "أعْطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متَّى21: 22). ولقيت دعوته صداها بسبب السلوك المنحرف للقيادات الكنسية، ومهّدت أفكاره لمبدأ الفصل بين الدين والدولة. وأصبحت العلمانية واقعا سياسيا بعد وفاته بقرن، عقب تجربة مريرة من الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت؛ بدأت عام 1618 وانتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648. وأقرت المعاهدة من ضمن ما أقرت؛ وجود ثلاث طوائف في الإمبراطورية الجرمانية" "الكاثوليكية واللوثرية والكالفينية". والملاحظ هنا أن "أصولية البروتستانت" والعودة إلى نصوص الإنجيل اعتُبرت "إصلاحا دينيا"، في حين أن الأصولية الإسلامية والعودة إلى أصوله تعتبر "تطرفا". وهذه المفارقة ناشئة من النظر إلى نتيجة العودة إلى الأصول، ومدى ارتباط هذه العودة بالشأن العام من حيث تواجدها فيه أو ضبطها له.

انطلقت النهضة الأوروبية بعد الحد من سلطة الكنيسة، وتحررها من القيود الثقافية والسياسية والاقتصادية التي فرضتها المؤسسة الدينية. وأصبح الفصل بين الدين والمجال العام سببا للنهوض في الثقافة والوجدان الغربييْن، وأصبح هذا التصور المعرفي من ركائز ما اقتبسه الذاهبون من المنطقة إلى أوروبا للتعلّم.

الإشكال الذي ساقته تلك الأفكار متعلق بنفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي وقانوني وروحي للمؤسسة الدينية في أوروبا قبل عصر الإصلاح، وللتحرك في تلك المجالات، كان لا بد من التخلص من ذلك النفوذ، في حين أن المؤسسة الدينية الإسلامية ليس لها أي سلطان على أفرادها، بما في ذلك السلطان الروحي. فللمسلم أن يأخذ بأي رأي ديني وصل إليه أحد المجتهدين، وللمسلم أن يرفض قبول أي إجحاف يمكن أن يقع بحقه من عالِمٍ ديني أو مؤسسة دينية، دون أن يوقعه "مجرد الاختلاف" في"الحرمان" من الاستظلال بمظلة الدين، بل دون أن يوقعه في حرج شرعي تترتب عليه عقوبة أخروية، إن كان اختلافه مستندا إلى رأي أحد المجتهدين. ولا يمكن لأحد أن يحتكر تفسير النص الديني، بل هو متاح لكل أحد امتلك أدوات فهم النص والاجتهاد فيه.

إذاً، هناك فرق بيِّنٌ بيْنَ الإطار الفكري الذي خرجت منه أطروحات الثقافة الأوروبية في تواجد الدين في الشأن العام، وبين دور وطبيعة الدين الإسلامي، وانحراف تفسيره أو إعطاء عالم الدين سلطة تفوق ما حدده له النص الديني؛ يستوجب رفض ذلك دون رفض الدين ككل. فالنص الديني، والتشريع الديني كذلك، مرتبطان بوجدان المسلمين، خاصة ذلك التشريع المرتبط بالمذاهب الأربعة؛ إذ يحترمه المسلمون في شتى بقاع الأرض لتوافقه مع سماحة الدين ويُسره.

وهذا الاحترام ليس مقصورا على المسلمين، بل تعداه إلى القانون الفرنسي الذي يحتل مكانة بارزة بين القوانين العالمية. وآية ذلك، أن الخديوي إسماعيل عندما أراد مواكبة التشريع المصري مع الغربي، كلف الشيخ "مخلوف المنياوي" بدراسة القانون الفرنسي، ليقف الشيخ مع نصوص القانون مادة مادة، وألّف كتابه: "المقارنات التشريعية.. تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الإمام مالك". وهذا الترابط ناشئ من وجود المسلمين في الأندلس، وكان المذهب السائد فيها هو المذهب المالكي. وقد تأثّر الأوروبيون بابن رشد، وهو مالكي المذهب. وقد اهتدى بنفس الهدي الشيخ سيد عبد الله علي حسن، وأصدر كتابه عام 1947، وكان مقارنة بين القانون المدني الفرنسي والمذهب المالكي. وقد نبّهنا الفقيه القانوني المستشار طارق البشري إلى الكتاب الأول، وبيان الإفادة الغربية من الحضارة الإسلامية، لكن الغربيين يستنكفون عن بيان هذه النِّسبة إلى الإسلام، فينسبونها إلى الأصول اليونانية.

إن المراد من ذلك الحديث بيان أن هناك وصلا وقطعا - وفقا لتعبير أستاذنا البشري - ينبغي أن يجريان عند الأخذ من الحضارة الغربية.. قطعٌ لما يخالف ثقافتنا من الفكر الفسفي الغربي، ووصلٌ للمعرفة الغربية بحضارتنا الإسلامية، فنأخذ ما يفيدنا ونعزل منه ما يتصادم مع ثقافتنا، ليتسق السلوك مع الفلسفة والفكر، فيسهل انهضامه في السياق الحضاري للمنطقة. كما أن تصور ارتباط التحديث والتطوير بمجافاة الدين تصور غير صائب؛ إذ دائما ما تمثل المسائل المعنوية دافعا للتقدم والتطوير. والدين من أرقى الأمور المعنوية وأكثرها دفعا للحماسة، لكن ما نشهده في الخطاب العلماني العربي خلاف ذلك؛ باصطدامه مع المجتمع ومحاربته، لسياق غير موجود أصلا فيما يشبه محاربة طواحين الهواء بدلالتها النفسية والعقلية.
التعليقات (0)