قضايا وآراء

التطبيع من بيريز والفلول القدامى.. إلى نتنياهو والفلول الجدد

ماجد عزام
1300x600
1300x600

بعد توقف لسنوات، عادت عجلة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل للدوران من جديد. هذه المرة تبدو المسيرة مغايرة، وعلى قواعد أسس مختلفة تماماً عن تلك التي عايشناها في تسعينيات القرن الماضي؛ مع انطلاق عملية التسوية في مدريد.

ظهر مفهوم التطبيع بشكله المعاصر والجدي مع شيمون بيريز، وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، ثم رئيس الوزراء والرئيس فيما بعد، وارتبط مباشرة بمؤتمر مدريد واللجان التفاوضية العربية الإسرائيلية، الثنائية والمتعددة، التي انبثقت عنه واستضافتها دول عديدة في مشارق الأرض ومغاربها، من روسيا إلى كندا، وناقشت قضايا مختلفة، مثل اللاجئين والمياه والاقتصاد والأمن الإقليمي. استندت العملية برمتها إلى فكرة أو معادلة الأرض مقابل السلام، أي انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها بعد النكبة الثانية (حزيران/ يونيو 67)، مقابل التوصل إلى اتفاقات سلام نهائية مع السلطة الفلسطينية والدول العربية المنخرطة في الصراع؛ وفق قرارات الأمم المتحدة 242 و338، واعتبار التطبيع عملية موازية ومصاحبة لها.

بيريز أمعن في الترويج لمفهومه المتغطرس للتطبيع، الذي كان بالنسبة له وسيلة لخلق ما أسماه الشرق الأوسط الجديد؛ عبر التزاوج بين العقل اليهودي والمال والثروات الطبيعية البشرية العربية، ووصل مرة إلى حد القول إن القيادة الإقليمية للشرق الجديد يجب أن تكون لإسرائيل بصفتها الدولة الأقوى، بعدما كانت لمصر في الستينيات ثم للسعودية في السبعينيات والثمانينات.

 

هؤلاء لم يمانعوا في التفاوض والصلح والاعتراف بعد العجز والفشل والهزيمة في الميدان أمام اسرائيل، ولكن بشرط الحد الأدنى المقبول فلسطينياً وعربياً، كما اتضح في مدريد، وحتى في المبادرة العربية نفسها فيما بعد


شركاء بيريز في التسوية والتطبيع كانوا الفلول القدامى من الحكام العرب الذين جاؤوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية أو حكموا أنظمة استبدادية باتت متشابهة، سواء كانت ملكية وراثية أو جمهورية وراثية. هؤلاء لم يمانعوا في التفاوض والصلح والاعتراف بعد العجز والفشل والهزيمة في الميدان أمام اسرائيل، ولكن بشرط الحد الأدنى المقبول فلسطينياً وعربياً، كما اتضح في مدريد، وحتى في المبادرة العربية نفسها فيما بعد، أي الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وفق قراري 242 و338، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس ولو على 22 في المئة من فلسطين التاريخية. أي أن التطبيع على علاته كان مرتبطاً مباشرةً بإنهاء الصراع، والتوصل لاتفاقات سلام نهائية مع الفلسطينيين والدول العربية المحتلة أراضيها، والمنخرطة في عملية التسوية والمفاوضات مع إسرائيل.

مع انتهاء حقبة مدريد وفشل عملية التسوية مع الفلسطينيين (جوهر العملية) ومفاوضات كامب ديفيد الثانية، واندلاع انتفاضة الأقصى، ثم انهيار واندثار حزب العمل الذي قاد العملية من الجانب الإسرائيلي، واختراع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أهود باراك لقاعدة أن "لا شريك تفاوضي فلسطيني لإسرائيل"، وبالتالي لا بد من البحث عن خيارات أحادية إسرائيلية وفق مصالحها الحيوية، وهي القاعدة التي تبناها شارون أولاً عبر حزب كديما، ثم استغلتها أحزاب اليمين المتطرف اى قاعدة لا شريك للتهرب من عملية التسوية نفسها لصالح فكرة إدارة الوضع الراهن بأقل الأثمان بدلاً من حلّه.

طوال عقدين تقريباً من هيمنتها على السلطة، لم تُعر حكومات اليمين أي أهمية للتطبيع وفق مفهومه القديم المتعارف عليه؛ لعدم امتلاك الإرادة لدفع الثمن المقابل الذي أصرت عليه أنظمة الفلول القدامى في الدول العربية، ولو في حده الأدنى المتمثل في اتفاقات سلام وفق قرارت الأمم المتحدة ومعادلة الأرض مقابل السلام.

التعبير اليميني الأفضل عن تجاهل التطبيع وإزاحته عن جدول الأعمال، كما عملية التسوية نفسها، كانت فكرة الجدران الحدودية العازلة التي أقامتها حكومات اليمين المتعاقبة مع كافة الدول العربية: جدار حدودي مع الأردن وآخر مع مصر، وثالث مع لبنان، ورابع حتى تحت أرضي وبحري مع غزة، إضافة إلى الجدار الفاصل في الضفة الغرببة، والذي كان التعبير الإسرائيلي الأبرز - ربما - عن طي فكرة التسوية والحدود المفتوحة مع السلطة والدول العربية وفق نظرية بيريز، لكن بعد التوصل إلى اتفاقات سلام نهائية.

 

 

اندلاع الثورات العربية التي أطاحت بأنظمة الفلول القدامى الحاكمة لبلادنا منذ الاستقلال، لم تختف فقط مصطلحات التطبيع عن الأجندة الإسرائيلية، وإنما حتى فكرة التسوية نفسها ولو نظرياً

في هذه الفترة اندثر واختفى تماماً مصطلح التطبيع، وزال عن الأجندة السياسية والإعلامية اليومية، واقتصر الأمر على اتصالات أمنية أساساً مع مصر والأردن، الدولتين اللتين تقيمان علاقات علنية واتصالات أمنية واقتصادية، لكن مستترة ومحدودة مع بعض الدول العربية.

مع اندلاع الثورات العربية التي أطاحت بأنظمة الفلول القدامى الحاكمة لبلادنا منذ الاستقلال، لم تختف فقط مصطلحات التطبيع عن الأجندة الإسرائيلية، وإنما حتى فكرة التسوية نفسها ولو نظرياً، حيث زعم رئيس الوزراء الدائم في العقد الأخير نتنياهو أن ليس من الحكمة التوصل لاتفاقات مع أنظمة ساقطة، أو في طريقها للسقوط، زاعماً أن الثبات السكون هو الخيار الأفضل لبيئة متغيرة ورمالها متحركة. بدا الأمر في جزء منه تعبيراً عن نظرية اليمين في إدارة الصراع، وليس حله، واعتبار أن كلفة الإدارة أقل كثيراً من أثمان التسوية النهائية مع الفلسطينيين والدول العربية.

 

 

غير أنه مع تعثر الثورات، وشيوع وانتشار الثورات المضادة المدارة من العاصمة الإماراتية، أبو ظبي، وعودة أنصار ومؤيدي الفلول القدامى للحكم، لكن بثوب جديد عبر الفلول الجدد، خاصة في مصر أكبر دولة عربية، وما تركه ذلك من انعكاس على المشهد العربي والإقليمي برمته، عاد مصطلح التطبيع للظهور مرة أخرى، وبشكل متسارع حتى، ولكن بأسس مختلفة تماماً عن تلك التي روّج بيريز لها زمن مدريد- أوسلو في تسعينيات القرن الماضي.

 

 

عاد مصطلح التطبيع للظهور مرة أخرى، وبشكل متسارع حتى، ولكن بأسس مختلفة تماماً عن تلك التي روّج بيريز لها زمن مدريد- أوسلو في تسعينيات القرن الماضي


التطبيع في منحاه الجديد يسعى لعكس المسيرة كلها عما كانت عليه في عملية التسوية السابقة، ولم يعد التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين والدول العربية الأخرى شرطا له، إنما بات التطبيع نفسه جزءا من سيرورة معاكسة تزعم السعي للتوصل في النهاية إلى تسوية ما للصراع المركزي في فلسطين.

قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس في لحظة غضب للنظام المصري؛ إن الأنظمة الساقطة (أي الفلول القدامى) كانت تعتبر القضية الفلسطينية عنصرا مركزيا في همومها وسياساتها الخارجية وحتى الداخلية، وعنصراً مهماً لأمنها واستقرارها، وأن الأمر اختلف مع أنظمة الفلول الجدد التي تعتبر القضية وسيلة لتحقيق مصالح ومكاسب سياسية ضيقة لها، ولم تعد تعتبرها حتى شرطاً للعلاقات مع إسرائيل، أو أي طرف آخر في إشارة للإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب.

 

لم يعد التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين والدول العربية الأخرى شرطا له، إنما بات التطبيع نفسه جزءا من سيرورة معاكسة تزعم السعي للتوصل في النهاية إلى تسوية ما للصراع المركزي في فلسطين

الشاهد أن ما نراه الآن من تسارع في وتيرة التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، وحتى إسلامية، هو نتاج المفهوم الجديد؛ تطبيع يبدو مجانيا لإسرائيل وبدون ثمن، دون عملية تسوية وسلام مع الفلسطينيين، تطبيع يتجاوز القرارات الدولية والمبادرة العربية نفسها، تطبيع تسعى إسرائيل من خلاله إلى شطب القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، تمهيداً لتصفيتها فيما بعد من خلال صفقة القرن، أو حتى بدونها، عبر الأمر الواقع الذي تحاول فرضه في - أو بين - الضفة وغزة.

وقصة العداء لإيران، رغم سياستها المدمرة في الدول العربية، ليست سوى حجة أو ذريعة؛ لأنه لا يمكن مواجهة إيران بالفلول الجدد الداعمين لنظام الأسد، أحد أهم ركائز الهيمنة الإيرانية، وقبل ذلك وبعده، لا يمكن مواجهة إيران بإسرائيل بأي حال من الأحوال، كون تل أبيب لم تمانع لحظة هيمنة طهران أو احتلالها لأربع عواصم عربية، وإنما ترفض فقط تموضعها الاستراتيجي في سوريا، والأهم أنها - أي تل أبيب - تستخدم الشماعة الإيرانية لتحقيق تطبيع نتنياهو الذي يجعل حتى من تطبيع بيريز، سيئ الصيت، هدفاً بعيد المنال.

 

التعليقات (0)

خبر عاجل