قضايا وآراء

من "السّوّاح"إلى "آل الشّيخ".. علمانيّة الإسفاف وجاميّة البذاءة

محمد خير موسى
1300x600
1300x600

فراس السّوّاح مفكّرٌ وكاتبٌ علمانيّ سوريّ جاوز من العمر 77 سنة، وله عشرات الكتب في في الميثولوجيا وتاريخ الأديان وعلم مقارنة الأديان، من أشهرها "مغامرة العقل الأولى؛ دراسة في الأسطورة"، و"إخوان الصفاء؛ مدخل إلى الغنوصية الإسلامية"، و"دين الإنسان؛ بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني"، و"موسوعة تاريخ الأديان".

لكن يمكننا القول دون مبالغة بأنَّ منشوره القصير جدّا الذي كتبه قبل أيّام تسبّب له بشهرةٍ لم تحقّقها له كلّ كتبه، حيث أصدر عبر صفحته الشّخصيّة "الفرمان" الآتي قبل حذفه بعد سيل الانتقادات والاستهزاء الكبير، وهذا نصّ "الفرمان السّوّاحي":

"تعميم: أنا لا أقبل طلبات صداقة من المحجّبات، حجابُ الرّأس يعني حجاب العقل".

أمَّا عبد اللطيف آل الشّيخ، فهو وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودي، وقد ظهر كذلك في أيّام منشور السّواح عن الحجاب، لكنّه ظهر في مناقشة رسالة ماجستير في الشّريعة الإسلاميّة لأحد الباحثين؛ يشنّع عليه ثناءه على العلّامة محمّد الحسن الددو الشّنقيطي، قائلا إنه لا يستحق لقب "شيخ"، والأفضل القول عنه "شخ".

كما شنّع على الباحث إعجابه بسيد قطب وذوقه الأدبي ووصْفَه "بالأستاذ"، قائلا بغضب: إن سيّد قطب "إرهابيّ كبير".

وهنا تفتّقت مواهب وزير الشّؤون الإسلاميّة بقوله: "إنَّ عبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم وفريد الأطرش لديهم ذوقٌ أدبيّ أكثر من سيّد قطب"!!

وقد يبدو الأمران للوهلة الأولى أنّه لا رابط ولا علاقة بينهما، لكنّ رابطا وثيقا يجمع بين المنطقين وبينَ المنهجين؛ فالابتذال باسم العلمانيّة الذي تدفّق من كلمات السّوّاح، والبذاءة باسم الجاميّة الذي استحوذ على ‏مناقشة آل الشّيخ؛ يعبّران عن ‏الإسفاف الذي يلبس ثوب الفكر والأكاديميّة، والاستبداد المتلفّع بحريّة الرّأي والتّعبير.

إنَّ أهمَّ ما يجمع هذين النّموذجين اللذين يعبران عن شريحة واسعةٍ في كلا الطّرفين هو الاتّفاق على تسفيه المخالف والانتقاص منه، ومعاداة الفكرة التي لا تتوافق معهم ومحاربتها، واتّخاذ الإسفاف الأخلاقي منهجا في التّعبير عن ذلك.

 

أهمَّ ما يجمع هذين النّموذجين اللذين يعبران عن شريحة واسعةٍ في كلا الطّرفين هو الاتّفاق على تسفيه المخالف والانتقاص منه


يتّفق الطّرفان العلمانيّ والجاميّ أيضا في استخدام الورقة الأيديولوجيّة لتصنيف النّاس بناء عليها، ثمّ البدء بمهاجمة التّصنيفات المخالفة بقصد إهانتها بطريقةٍ فجّةٍ تثيرُ الأحقادَ وتزرع الكراهية وتمزّق النّسيج الاجتماعي، وتجعل النّاس يستلّون سكاكينهم في وجوه بعضهم بعضا تحت عنوان الانتصار للفكرة، وما هو إلّا انتصار للأحقاد المعشّشة داخل أنفسهم.

فالسّوّاح بمهاجمته للمحجبات، ووصفهن بأنّهن محجوبات العقل، يعمد إلى إهانة المرأة بوصفها إنسانا قبل أن تكون مسلمة، ويصادر حريتها في اختيار ما تلبس؛ هذه الحريّة التي يتغنّى بها السّواح لا يصلح تطبيقُها إلّا في اللباس الذي لا تعبر به المرأة عن هويتها.

وهذه الإهانة البالغة تأتي في سياق تصنيف النّساء إلى محجّبات وغير محجّبات، والانتقاص من كرامة صنفٍ دون الآخر، ممّا يساهم في بعث الكراهية بين الصّنفين اللذين اعتادا أن يتعاملا مع بعضهم البعض تعاملا إنسانيّا، بعيدا عن هذا النّوع من التّصنيف الجاهل الذي يتمسّح بالفكر والحريّة.

 

أسوأ أنواع التّعامل مع هذا النّوع من الإسفاف؛ هو استحضار الرّدود الفكريّة والعلميّة لمحاججة ومناقشة هذا الانحدار الأخلاقي

وكذلك، فإنَّ عبد اللطيف آل الشّيخ بتصنيفه هذا، وتعمّده توجيه الإهانة بطريقة تنسجم تماما مع أخلاق الذّباب الالكتروني لا مع جلسة مناقشة أكاديمية يفترض بها الرقي العلمي والسلوك المنهجي، فإنّه يثير موجة غير عاديّة من الكراهية من خلال نفث هذا الحقد المسموم الممزوج بانعدام في الأدب والأخلاق.

وهنا لا بدّ من التأكيد على أنَّ أسوأ أنواع التّعامل مع هذا النّوع من الإسفاف؛ هو استحضار الرّدود الفكريّة والعلميّة لمحاججة ومناقشة هذا الانحدار الأخلاقي.

 

أفضل وسيلةٍ للتعامل مع هذين النّموذجين هو السخرية؛ السخرية المحطّمة والاستهزاء المهين، وقد أحسن عموم الشّباب الذين تناولوا مواقف كلا هذين الشّخصين بسخرية طفحت بها وسائل التّواصل الاجتماعي

إنّ التعامل بالمنطق العلمي والفكري مع السوّاح وآل الشّيخ، ومن هو على مذهبهما السّلوكي في التّعامل مع المخالفين، تكمن خطورته في ترسيخ هذا الانحطاط بوصفه حالة فكريّة وتشريع الإسفاف؛ ليغدو منهجا علميّا وفكريّا.

وإنَّ أفضل وسيلةٍ للتعامل مع هذين النّموذجين هو السخرية؛ السخرية المحطّمة والاستهزاء المهين، وقد أحسن عموم الشّباب الذين تناولوا مواقف كلا هذين الشّخصين بسخرية طفحت بها وسائل التّواصل الاجتماعي، فالسّخرية المهينة هي دون سواها ما يليق بهذا النّوع من الخطاب.

وهناك فرقٌ كبيرٌ بين دراسة هذه الظّاهرة وتحليلها وبين مناقشة شخوصها وأعلامها، فمن الضّروري أن يتصدّى الباحثون لدراسة هذه السّلوك غير السّوي؛ الذي يلبس ثوب الفكر العلماني حينا وثوب التديّن الجاميّ حينا آخر وآليّات مواجهته النّاجعة؛ فكارثةٌ كبيرةٌ أن يصبحَ الإسفاف منهجا، والبذاءةُ فكرا، والحقدُ هويّة. 

التعليقات (1)
د. كمال برقاش
السبت، 31-10-2020 02:21 م
بوركت على هذا المقال اخي