كتاب عربي 21

السائق الغشيم

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
قبل 10 سنوات تقريباً، سألني صديق من أهم صناع الصحف في مصر: ما الجديد الذي يمكن أن نقدمه في الصحافة؟.. ماذا لديك من أفكار نتميز بها في صحيفة جديدة؟

كنا في نهايات عام 2007.. في قلب تفاعلات التغيير بأساليبها الاحتجاجية الجديدة، ورغبات التجديد تصبغ كل الأفعال بألوان جديدة: المظاهرات التقليدية تنحسر لصالح مظاهرات الجوع، واحتجاجات فئوية على أرصفة المؤسسات الكبرى، وشباب من خارج الأحزاب يكنسون مقام السيدة زينب بالمكانس الشعبية تضرعاً لإسقاط الحكومة، وجمال مبارك يحشد من حوله ذباب النخبة ليمهد طريقه إلى السلطة باسم "المستقبل"، مستنداً إلى زهو الشباب على حساب سلطة شاخت في مقاعدها..

في تلك الليلة من خريف 2007، مضت السهرة في نقاشات جمالية وتحريرية واستعراض لأهم التجارب والمدارس الصحفية في العالم.

وفي الصباح التالي اتصل بي الصديق قائلاً: حدثني أكثر عن اقتراح "النص الموازي" الذي طرحته أمس. وانتهت المكالمة بموعد جديد يساعدنا على الانتهاء من وضع تصور للصحيفة المزمع صدورها، والتي لم أعمل بها قط، وكانت الفكرة أن المتن لم يعد كافيا لتوصيل الرسالة، نظرا للتفاوت الكبير في مستويات التلقي وثقافة القراء، وكذلك في طبيعة التعامل اللاهث مع الأخبار، ما أدى إلى تراجع الأفكار، ووقوع العقل الحديث في أسر الملاحقات الإخبارية وارباطها بالواقع أكثر، وبسهولة الاستيعاب والتفاعل.

 

من هنا تأتي أهمية الهوامش والأشكال الجانبية، والإضافات المعرفية، وكثرة العناوين الجانبية، وتقطيع المتن إلى أجزاء أصغر. واهتمت الصحافة بأساليب الفقرات وأطر المعلومات والوحدات المنفصلة، لكننا لم نهتم بالنصوص الموازية

ومن هنا تأتي أهمية الهوامش والأشكال الجانبية، والإضافات المعرفية، وكثرة العناوين الجانبية، وتقطيع المتن إلى أجزاء أصغر. واهتمت الصحافة بأساليب الفقرات وأطر المعلومات والوحدات المنفصلة، لكننا لم نهتم بالنصوص الموازية التي تخدم الرسالة التي نسعى لتوصيلها، ولكن من غير ارتباط زماني أو مكاني بالموضوع، فمثلاً لو كان الموضوع الرئيس يتحدث عن التعديلات الدستورية في مصر، وكيفية تعامل البرلمان وسرعته في اتخاذ قراره بدون دراسة كافية، يمكن أن نضع إطار يتضمن نصاً موازياً عن شخصية المحلف الثامن (قام بدوره هنري فوندا) في فيلم "12 رجلا غاضباً" للمخرج سيدني لوميت، حيث يجتمع المحلفون لإصدار قرار بالإجماع على شخص متهم بالقتل، ويسعى الجميع لإصدار القرار بسرعة لارتباطهم بمواعيد اخرى، ولاعتقادهم أن القضية واضحة والأدلة كافية لإدانة الشاب المتهم، لكن مسار القضية تغير بسبب إصرار شخص واحد فقط على إثارة الشكوك، ومناقشة كل الاحتمالات قبل إصدار حكم، حتى أنه وضع بعض المحلفين في دوائر الاتهام. وكذلك يمكن اختيار حالات أخرى من برلمانات في بلدان وأزمنة مختلفة... إلخ.

ما يهمنا الآن هي فكرة "النص الموازي"؛ لأن قصة إصدار الصحيفة ليست موضوعنا الحالي، فالصحيفة صدرت بلا تصور، كعادة كل الإنجازات في مصر (التي تتم بدون دراسة جدوى)، وهذا مظهر من مظاهر الحياة الموازية في بلد تتكدس فيه التناقضات إلى جوار بعضها بعشوائية مقيمة وفق قاعدة "جوار بلا حوار".

(2)
قبل أيام قرأت خبراً في صحيفة رسمية، فتذكرت تكنيك "النص الموازي"؛ لأن الخبر بصياغته يصلح كنص معارض من الدرجة الأولى، بل ويتضمن نقداً عنيفاً لـ"القائد" الذي لا تجرؤ الصحف القومية على نقده، لكن النص وصف "القائد" بأنه "غشيم" و"سيئ التصرف" و"يتحمل المسؤولية عن الكارثة التي حدثت. ولكي نحكم بأنفسنا تعالوا نقرأ النص كما نشرته الصحف الموالية (مع تصرف بسيط بحذف الاستطرادات والفقرات التي تسرد قصة الحادث وأعداد الضحايا:

"قال المهندس أشرف رسلان رئيس هيئة السكك الحديدية، إن قائد جرار القطار الذي انفجر في محطة مصر يتحمل المسوؤلية عن الحادث. وأضاف رسلان في حديثه مع وفد لجنة النقل أن "السائق ارتكب خطأ جسيما باتخاذه لخط سير مخالف، ما أدى إلى الاصطدام مع القطار الآخر"، ثم ترك موقعه في القطار ونزل للشجار مع "السائق الآخر" بدون اتخاذ اجراءات تأمين كافية. وبعد مشادات جانبية تراجع على أثرها السائق الآخر مفسحاً الطريق، مما جعل الجرار العالق ينطلق بلا سائق ويقطع المسافة للمحطة في دقيقة واحدة. والغريب أن تحرك الجرار بهذا الشكل أمر نادر للغاية، لكن مراجعة الأحداث تؤكد كلها أن السائق كان "غشيما" و"مهملاً" ولم يقدر المسؤولية. وأوضح رسلان أن منظومة السكك الحديدية متهالكة، وتحتاج لتحديث شامل وتحويلها للنظام الكهربائي لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث".

 

هذه الحيلة البسيطة يمكن أن تساعدنا على فهم الكثير بأقل درجة من الحساسية الشخصية؛ لأن استخدام النص الموازي يستبعد الواقع وأشخاصه ومشاكله ليركز أكثر على الموضوع والقيمة والمعنى


(3)
أسلوب النص الموازي ليس اختراعاً جديداً، فهو قديم جداً، حتى أن قصة الغراب مع قابيل تبدو حسب هذا الفهم "نصاً موازياً" تعلمت منه البشرية طريقة دفن الموتى، كما أن النكت التي نتداولها في موقف ما، والأمثال الشعبية، والتشبيهات اليومية، والاقتباسات التي نشاركها على مواقع التواصل الاجتماعي من الحكم والمواعظ وأقوال المشاهير، تبدو كلها كنصوص موازية تخدم الرسالة التي نريد توصيلها، مع تعدد وتنوع هائل في الأشكال وطرق العرض.

(4)
هذه الحيلة البسيطة يمكن أن تساعدنا على فهم الكثير بأقل درجة من الحساسية الشخصية؛ لأن استخدام النص الموازي يستبعد الواقع وأشخاصه ومشاكله ليركز أكثر على الموضوع والقيمة والمعنى. ولنضرب المثال بالمدرس الذي يصحح أوراق الامتحان بدون معرفة الأشخاص، وبدون أي تأثر مقصود أو غير مقصود نتيجة هذه المعرفة، فهذا يعني أن تحويل الأشخاص إلى أرقام مبهمة يجعلنا أكثر موضوعية في النظر إلى "الصح والغلط"، لكننا لا نفعل ذلك في القضايا المهمة في حياتنا، فنحن ننحاز في كثير من المواقف إلى أشخاص حتى لو كانوا ضد القيمة التي نعارض آخرين لأنهم ضدها...

 

تجد من يؤيد اعتداء نظام السيسي على الدستور، بينما كان يرفض ذلك من نظام آخر، ولهذا نجد من يسعى لإسقاط رئيس منتخب في فنزويلا بحجة أنه قمعي وفاسد، بينما يدعم رئيسا في مصر أكثر قمعا وفسادا ودموية

لهذا تجد من يؤيد اعتداء نظام السيسي على الدستور، بينما كان يرفض ذلك من نظام آخر، ولهذا نجد من يسعى لإسقاط رئيس منتخب في فنزويلا بحجة أنه قمعي وفاسد، بينما يدعم رئيسا في مصر أكثر قمعا وفسادا ودموية، ولهذا نجد من يعارض الديكتاتوريات ويرفع شعارات الديمقراطية، بينما يمارس الديكتاتورية في بيته أو في مكان عمله، ولهذا يجد من ينتمي إلى مشروع سياسي بمرجعية دينية ثم يخوض في أعراض النساء أو يسرف في السباب أو يسخر ويتنابذ، معتبراً أن سلوكه مجرد "نص مواز" لا يتجانس مع مشروعه وأخلاقياته، لكنه يرتبط بسياق آخر وأخلاق أخرى لا تمثله شخصياً، لكنها أمثولات وألفاظ للتعبير عن قيمة ومعنى يؤمن بهما، بصرف النظر عن الاستشهادات واللغة التي يستعيرها، ولهذا نجد من يقول إن إنسانيتنا غير إنسانيتهم، وهو يتحدث في ميكروفونهم وعلى شاشاتهم ويرتدي ملابسهم ويدرس في أكاديمياتهم، ويشتري سلاحهم، ويتلقى معوناتهم ودولاراتهم!

(5)
النص الموازي (برغم اغترابه) ليس ابتعاداً عن الحاضر، وليس تغييبا للأشخاص، لكنه محاولة لرؤية كل شيء بموضوعية ومن خلال مسافة صحيحة تسمح برؤية أفضل، لكننا للأسف تطرفنا في استخدامه حتى أصبح متعارضا مع الرسالة، وأحيانا أصبح معاديا لها ومنقلبا عليها. فهناك من عاد إلى التاريخ ليستحضر داعش، وهناك من ذهب إلى الغرب ليستورد مبررات زائفة لضرورة القضاء على الشرق، وهناك من استخدم النصوص الموازية كأدوات انتهاك وملوثات للبيئة على طريقة "مر أعرابي على جماعة" فوجدهم يستحضرون تاريخهم ليس للاستفادة، ولكن للتنكيل به وابتذاله، وتقديمه كنص مواز مشوه لحاضر رديء يريدون الانتقام منه، حتى لو اعتقلوا وعذبوا كل من يمت إلى هذا الحاضر بأية صلة.

(نص مواز)

تاجرت بالفكر لما وصلك وارتحت

ولما وصلت.. انفصلت

و.. اندارت هد وفحت

حاسب.. دي ماهش علالي

دا انت نازل تحت

(الزجال المصري الراحل/ عبد الحميد البنهاوي)

[email protected]

1
التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الأربعاء، 06-03-2019 07:11 م
من طرائف الاحداث .. ان من يبكون الان على ثورة يناير وما آلت اليه .. وعن انتهاك الدستور والحريات والذين ملأوا الدنيا ضجيجا عن الحرية والمساواة ومازالو ... والموصوفين زورا بالنخب والمثقفين على اختلاف ايدلوجياتهم .. هؤلاء كانو اول من كفر بكل مبادئه … لقد كان الانقلاب العسكري الدموي انقلابا على ارادة الشعب قبل ان يكون انقلابا على شخص الرئيس المنتخب الشرعي او البرلمان هؤلاء المنافقين فضلوا ان ينحازو ويدعمو حكم ديكتاتوري عسكري دموي انقلابي بكل ما نتج عنه من مجازر ومحارق وهولوكوست بحق اتباع الشرعية .. فضلو ان ينحازو للاستبداد ضد من اتت به ارادة الشعب … فقط لانهم فشلو في ان يحوزو على السلطة بإرادة الشعب فتوهمو انهم سيحوزونها بأن يسلمهم اياها العسكر ,,, الان وبعد ان قضى منهم السيسي وطرا .. عادوا ليملأو الدنيا ضجيجا عن مبادئهم القديمة التي (لحسوها ) في اول تجربه حقيقية لافعالهم لا اقوالهم ومن الطبيعي انهم لن يعدمو حجة او مبرر لما كان منهم في مساندة القمع والتحريض عليه ضد منافسيهم كما انهم يراهنون على الذاكرة القصيرة لدى البعض لتجعلهم يعاودوا الزعم بمباديء وقيم كانو هم اول من حاربها ورمى بها في سلة القمامة