قضايا وآراء

أمريكا بعيون زائر من غزة (2)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
من قال إن الإنسان مشروع فاشل؟ هذه الحياة العامرة هي تجل للقدرة الخلاقة الكامنة في روحه.. حين تراقب مظاهر العمران ودقة النظام من كل جانب تفخر بأنك تنتمي إلى هذا الكائن الذي أسجد الله له الملائكة، هذا النشاط الدائب الذي لا يمل! نظرة من السماء تريك سيل السيارات بلا انقطاع؛ معبراً عن إيقاع حركة الحياة الدائبة، طائرات تهبط وأخرى تقلع في كل دقيقة، هندسة الطرقات والجسور التي تذلل السبل لتواصل الناس، والسفن تمخر عباب المحيط كالأعلام، والبروج الشاهقات التي تناطح السحاب، والزرع الأخضر الذي يمتد على مرمى البصر فيضفي في النفس بهجةً وسروراً.

هذا الإنسان لم تهزمه كل المآسي والأحزان عبر التاريخ، وبعد كل موت تتجدد الحياة في أوصاله، يدهشني التناغم بين أجزاء الحياة، والذي هو أثر من التناغم الذي يضبط الوجود. إن كل فرد في هذا النظام يؤدي دوراً صغيراً، لكنه يتكامل مع الآخرين الذين يؤدون أدواراً صغيرةً بمفردهم، لكن المجموع هو لوحة فنية جميلة تجمع هذه الأجزاء الصغيرة في إيقاع كلي.

يبدو العمران وكأنه ذلل للإنسان كل الصعاب، حتى إنه لا يعد قطع مسافات شاسعةً في ساعة واحدة بالطائرة أمراً داعياً للانبهار، فينشغل في أوقات الانتظار بالمطار وعلى متن الطائرة بجهاز حاسوبه لينجز بحثاً أو عملاً أو ليقرأ كتاباً.

هذا التكيف مع وسائل الراحة مفيد من زاوية دلالته على استيعاب الإنسان للتطور وتوظيفه في اقتصاد جهده ووقته، لكنه قد يحمل ضرر إصابة الإنسان بالبلادة فتنطفئ شاعريته ولا يتذوق جمال الحياة وإبهارها، فيتعاظم فيه الجانب التقني والعملي ويتضاءل الحس الروحي والشاعري.   

الاهتمام بالمعرفة أمر يحسب للإنسان الأمريكي، في كل بيت دخلته لم أر مكتبةً واحدةً بل مكتبات، في كل زاوية من البيت هناك مكتبة. الجامعات بيت دافئ للطلبة؛ تتوفر فيها مقومات الإقامة والراحة، فيتولد في الطالب شغف ذاتي للتعلم واندفاع إلى متعة المعرفة. في كافة أرجاء الجامعة يجلس طلاب وطالبات كل منهم يمسك كتاباً يقرؤه، أو ينجز بحثاً، أو يمارس الرياضة في صالة الألعاب الرياضية، أو يتناول الطعام في المطعم.

للطفل في المجتمع الأمريكي شخصيته الناضجة، يضحك بعفوية ويناقش بعفوية ويلعب بعفوية، هو ليس قلقاً من أن ينهره الكبار أو أن يكبتوا حريته بقيود سلطة العيب والممنوع.. حين يتحدث الطفل يستمع إليه الجميع ويتبادلون معه الرأي بجدية، فينشأ الطفل واثقاً من نفسه، وتلمس راحةً وثقةً في تعبيره عن نفسه.  

الالتزام بالوقت سمة رائعة في الثقافة الأمريكية، الشاشة تقول لك: سيصل القطار بعد ثلاث دقائق.. بعد ثلاث دقائق بالضبط يفتح باب القطار أمامك، يواعدك أحدهم: سأكون عندك الساعة العاشرة والربع صباح غد، لن تكون مضطراً إلى إعادة التأكيد عليه، في العاشرة والربع عليك أن تكون جاهزاً في انتظار دق جرس الباب.

قبل شهر من بدء رحلتي كنت أعلم اليوم والساعة لجدول أنشطتي.. جدولة الأنشطة ليس مذهلاً في جانبه التقني الذي ينظم الحياة ويقتصد التكلفة وحسب، بل في معناه الفلسفي.. أن تكتب على الورق شكل حياتك في الأيام والأسابيع القادمة ثم تكون الحياة كما صغتها على الورق، فهذا تجلية للقدرة الخلاقة في روح الإنسان.

الناس الذين عرفتهم يعنون ما يقولون، لا يوجد إسراف في الكلام دون رصيد.. حين يعرض عليك أحدهم المساعدة فهو يعني أن يساعدك، وحين يختلف معك فهو ليس مضطراً لمجاملتك، وحين يدعوك إلى الطعام فهو ينتظر منك أن تجيبه ببساطة بنعم أو لا؛ إن أخبرته بلا فلن يصر على العرض، لأنه يفترض أنك فعلاً لست بحاجة إلى الطعام، هذه العفوية تجعل علاقاتنا الإنسانية أكثر أريحيةً.

جمال المشهد لا يكتمل.. الحياة الاقتصادية قاسية، فأمريكا هي أقوى دولة في العالم اقتصادياً، لكنها ليست دولة رفاه لكل مواطنيها.

الضرائب باهظة، وأهم ما تفعله الحكومة في علاقتها مع الناس هو جباية الضرائب.. يدفع الناس ضرائب على كل شيء.. ضريبة البيت المملوك قد تصل إلى عشرة آلاف دولار كل سنة مدى الحياة.. لا يوجد تأمين حكومي، بل مستشفيات خاصة.. تكلفة إنجاب طفل في مستشفىً أمريكي قد تصل إلى 12 ألف دولار، بينما في غزة تكلفة الولادة قد لا تتجاوز الثلاثين دولاراً! أما عن تكلفة دراسة الجامعة، فقد حدثتني سيدة أن الرسوم الجامعية لابنتها تصل إلى 50 ألف دولار سنوياً. هذه التكاليف الباهظة ترهن الناس إلى قروض البنوك مدى الحياة.

إذا دخلت متجراً واشتريت بعض البضائع فلا داعي لأن تطلب من العامل كيساً لوضع هذه البضائع؛ لأنك ستدفع ثمن هذا الكيس!

البحث عن موقف للسيارات في زحام المدن الأمريكية هو تحد لا يعرفه من يعيشون حياةً بسيطةً مثل التي في غزة.. قد تدور السيارة في المكان ربع ساعة بحثاً عن موقف متاح، وهذه المواقف ليست مجانيةً، بل تتراوح أجرتها ما بين أربعة إلى 20 دولاراً.

الإنسان الأمريكي هو إنسان كادح، لا يعيش حياةً سهلةً، فلكي يعيش عليه أن يواصل الدفع.. تتجلى الرأسمالية في أمريكا في أقسى صورها، فيرفض الرأسماليون أي مشروع تكافلي بحجة ألا يتعود الناس على الكسل، وشركات التأمين والأدوية هي التي تعرقل فكرة وجود تأمين حكومي للمواطنين كي تحافظ على أرباحها الطائلة.

يمثل بيرني ساندرز حالةً جديدةً في المشهد السياسي الأمريكي؛ لأنه يحاول كسر هذا النمط من هيمنة الشركات.. ساندرز الذي أعلن نيته منافسة ترامب في الانتخابات القادمة؛ يسعى إلى التحرر من سطوة الشركات، وجمع التبرعات من الناس مباشرةً ليكون أقدر على تمثيل مصالحهم. وهو يطرح برامج اجتماعيةً إصلاحيةً، لكن ليس مؤكداً بعد حظوظ ساندرز في الفوز، ولو قدر له فعلاً أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، فسيكون ذلك تحولاً مهماً في التاريخ الأمريكي.
التعليقات (0)