كتاب عربي 21

هل الثورات مُعْدِية؟

جعفر عباس
1300x600
1300x600

هل الثورات مُعْدِية؟ نعم؛ ولكن بالمعنى الحميد للكلمة؛ فالثورة كما الفيروس المسبب للمرض، تنتقل من مكان إلى آخر، وهكذا ألهمت الثورة الفرنسية شعوب أوروبا الحرية والديمقراطية، وكان ذلك قبل ثورة الاتصالات التي جعلت الأخبار تسافر عبر القارات خلال ثوان معدودة، مما حدا بحكومة الصين ـ مثلا ـ إلى حذف كلمة مصر من محركات البحث عام 2011، مخافة أن تنتقل عدوى الثورة الشعبية المصرية إلى الصين.

ويتردد كثيرا هذه الأيام أن الانتفاضتين الشعبيتين في السودان والجزائر هما الفصل الثاني من ثورات الربيع العربي العابرة للحدود، والتي أطاحت بحكام مزمنين في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا
نعم وسوريا؛ فرغم كل ما يقال من أن نظام البعث الأسدي انتصر عسكريا ـ أو كاد ـ على خصومه الثوار، إلا أنه من المؤكد أن بشار لم يعد يحكم سوريا، أو ـ على الأقل ـ لن يقدر على حكمها كما كان يفعل هو وأبوه لقرابة نصف قرن، فقد صارت العصمة في دمشق في يد روسيا وتنازعها عليها إيران، وجميع الشواهد تؤكد أن الموالين لبشار طوال الأعوام الثمانية الماضية، هم اليوم الأجهر صوتا في معارضته، لأن الحكومة عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات، ولا خيل عندها تهديها ولا مال.

 

نجح الحراك الشعبي في الجزائر في انتزاع التنازل تلو التنازل من الحكومة، فصار الشارع هو من يملي الشروط على الحاكمين


والأنظمة العربية الديكتاتورية تدرك أن الثورات معدية ولهذا تتكالب لاحتواء وإجهاض الحراك الشعبي في كل من الجزائر والسودان، باعتباره الفصل الثاني ـ وربما الحاسم ـ لثورات اليقظة الشعبية، على أمل أن تنجح في ذلك كما نجحت في مصر جزئيا.

الثورة المصرية لم تمت

نعم جزئيا؛ بمعنى أن الثورة الشعبية المصرية لم تمُت، فهي أنجزت فقط الفصل الأول في بلد لم يعرف أي قدر من الممارسة الديمقراطية الحقّة في تاريخه الطويل، وما زال تحت الرماد وميض نار قد تهب وتشب في أي لحظة؛ فلجميع الثورات دورات ومنعرجات ومطبات تجعلها تخبو حينا، لتشتعل مجددا ثم تكبو وتتعثر وتنهض وتستقيم، وهذا ما حدث للثورات الكبرى في التاريخ: الفرنسيون ضد الملكية والكهنوت، وما أعقبها من تقاتل بين الثوار، والروس ضد الأباطرة، مرورا بمجازر بشعة ارتكبها "الثوري" جوزيف ستالين بحق الكثير من القوميات، ثم تصفيته لرفاق النضال؛ والأمريكان ضد الإنجليز ـ ثم قيام بعض الولايات بالثورة المسلحة ضد الحكم "الوطني" المركزي، مما قاد إلى حرب أهلية مدمرة انتهت بانتصار الحكم المركزي.

وسقوط حائط برلين في عام 1989 كان المحرك لثورة شاملة في أوروبا الشرقية "الاشتراكية"، ورغم مرور ثلاثين عاما على قيام حكومات ديمقراطية منتخبة في تلك الدول، إلا أن معظمها ما زال متعثرا، ولكن النخب الحاكمة والشعوب في أوروبا الشرقية باتت مدركة أن علاج علل الديمقراطية لا يكون إلا بتعزيز الثقافة الديمقراطية عبر الممارسة، وليس عبر الاستنجاد بالجيوش او المخابرات المركزية الأمريكية.

 

الثورة الشعبية المصرية لم تمُت، فهي أنجزت فقط الفصل الأول في بلد لم يعرف أي قدر من الممارسة الديمقراطية الحقّة في تاريخه الطويل


وما يجعل عدوى الثورة أسرع انتقالا في الوقت الراهن، هو أن الانترنت ووسائل التواصل جعلا الرقابة الحكومية على المعارضة في حكم المستحيل، ففور اندلاع الغضب الشعبي في السودان، وبعد أن فشلت سياسة إدارة التوحش الداعشية التي انتهجتها، بتقتيل المتظاهرين وترويعهم، لجأت الحكومة إلى حيلة العاجز، بجعل لواء في جهاز الأمن مسؤولا عن خدمات الاتصالات، فكان أن خنق خدمة الأنترنت، ولما تعالت الصيحات من أقطاب الحكومة أنفسهم بأن ذلك يعني تعطل الحياة في جهاز الدولة، وخصوصا في المصارف والمطارات وإدارات الضرائب (في بلد تعتمد فيه الخزينة العامة بصورة شبه كليّة على الجبايات من المواطنين) أعيدت خدمة الأنترنت، ولكن تم تعطيل تطبيق واتساب، ولما اتضح أن نظام الشبكة الخاصة الافتراضية VPN، يتيح للناس استخدام واتساب للتواصل بالصوت والكتابة، ردوا اعتبار ربما على أمل أن يتمكنوا من اختراق حسابات قادة الحراك الشعبي.

شتان بين الجزائر والسودان

لقد نجح الحراك الشعبي في الجزائر في انتزاع التنازل تلو التنازل من الحكومة، فصار الشارع هو من يملي الشروط على الحاكمين، وهكذا بات الانتصار الحاسم لثورة الشارع الجزائري، مؤكدا وعلى المدى القصير.

وشتان ما بين الجزائر والسودان، ففي الأولى مؤسسات راسخة، عجزت الممارسات الهادفة لتكريس حكم الفرد في نسفها، وهناك أحزاب معارضة حقيقية (وأخرى مستنسخة من الحزب الحاكم)، وهامش حريات عامة يسمح بالنقد، ولو على خفيف؛ بينما حكومة السودان عسكرية، عملت على تدمير مؤسسات الحكم، ليتماهى الحزب الحاكم مع الدولة، ولا صبر لها على أي نقد حتى ممن قلوبهم عليها.

 

قدم السودان نموذجا كلاسيكيا لانتقال الثورة بالعدوى


لم تتعرض مظاهرات الجزائر في الأسابيع الأخيرة لأي قدر من العنف، لا بالغاز ولا بالهراوات، بينما وضعت حكومة الخرطوم القناصة على أسقف البنايات العالية لاصطياد المتظاهرين بالرصاص الحي، ولقي متظاهرون تم اعتقالهم حتفهم تحت التعذيب، وما زالت عصابات حكومية نظامية تتسور البيوت، وتقتحمها للبطش بساكنيها.

ومع هذا فقد قدم السودان نموذجا كلاسيكيا لانتقال الثورة بالعدوى، فقد اشتعلت شرارة الحراك الشعبي الأخير فيه، في مدن إقليمية بعيدة جدا عن المركز (الخرطوم)، ثم دخلت الخرطوم على الخط، وبعدها بنحو أسبوعين، وخلال يوم واحد شهدت واحدة وخمسون مدينة وقرية سودانية مظاهرات تطالب برحيل النظام.

وهكذا، وكما أن بلدة سيدي بوزيد التي كانت منسية في تونس، هي التي حركت السيل العَرِم الذي أطاح بزين العابدين بن علي، ثم انتقلت العدوى من تونس شرقا ثم غربا ثم شمالا ثم جنوبا، فإن ثورات الفصل الثاني ـ وربما الحاسم ـ من الربيع العربي مؤهلة للانتقال إلى الجهات الأربع.

التعليقات (1)
مجرد تساؤل
الأحد، 24-03-2019 09:29 م
كيف تنتقل العدوى وهم من 6 عقود يطعمون الشعوب بمضادات الحرية والديمقراطية وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية