مقالات مختارة

الشعوب العربية ليست بليدة..!

علاء الدين أبو زينة
1300x600
1300x600

تنظر إلى الجماھير العربية وھي تنزل إلى الشارع وتطالب بالتغيير، فتراجع ما قد يكون قد خالطك من أفكار عن استسلام الشعوب العربية للتدجين وفقدانھا قدرة الحلم.

 

مع كلِ الأھوال التي جلبھا ربيعھم المأمول الذي رحل مبكراً في أكثر من مكان، ما يزالون يصرون على إسماع صوتھم والمطالبة بالفرصة والتغيير. وبعد أن ساد انطباع بأن عودة الاستبداد في أماكن ”الربيع“ وتخويف الناس من مغبة المحاولة عصمت المستبدين من غضب الجماھير، أظھر الجزائريون والسودانيون أن الاستبداد سيظل دائماً في متناول الناس غير المعجبين بما يُملى عليھم.


ما يزال الأمل أن يصادف الجزائريون والسودانيون حظاً أفضل من نظرائھم الذين إما عادت الغربان نفسھا لتحط على أكتافھم، أو غالتھم الحروب ودمرت عيشھم وبلدانھم. ولعل فضيلتھم الإضافية ھو تأكيدھم على أن الشعوب التي اعتقد الكثيرون بموتھا وقصر نفسھا تحتفظ بقدر ھائل ّ من الحيوية والشجاعة والعناد. ويعرف الذين جربوا التظاھرات ما يعنيه الخروج من أمان البيت إلى شارع مكشوف، في مواجھة قوى وقوات مھنتھا الاعتقال وإطلاق الغاز والرصاص بلا تردد،خاصة بعد رؤية الصفوف الأولى وھي تتلقى الضربات.


ُّ مشكلة الشعوب العربية ليست بالتأكيد عيباً خلُقيا أو تشوھا جينيا جمعيا في قدرات الإدراك. وفي
الحقيقة، تتعدد المداخلات التي تسرد مقدمات ما أصبح واقعا طاحنا غير مريح لنفسية الإنسان
العربي. ويُذكر في جملة الأسباب الاستعمار المباشر، ثم غير المباشر عن طريق الأنظمة المحلية
ُ التابعة التي تطبق نيابة عنھ سياسة ”فرق تسد“ على كل الصعد، وتسيء توزيع الثروات وتھدر
الموارد، وتبني اقتصادات رعوية وتحبط طاقات مواطنيھا.


لعل أسوأ ما فعلتھ ھذه الأنظمة طوال عقود، ھو إغلاقھا الأبواب بعناد أمام أي فكر جديد. وقد
ُّ استخدمت أدوات التأثير والبناء الاجتماعي الحاسمة التي تحت يدھا -الإعلام والتعليم وآليات التحكم
في التعبير المسموح والممنوع- لتصنيع عقل جمعي سكوني سلبي غير مضياف للاقتراحات جديدة.


وإذا سمحت الأنظمة لشيء بالعمل، فلأشكال من منظومات الفكر السكونية بنفس المقدار، والتي وظفت قدرتھا على الوصول الشعبي لتحقيق نفس الغايات من تعطيل العقل النقدي، وعقلنة الخزعبلات، وتعظيم ”فضيلة“ الاستقبال بلا استنطاق.


كل ذلك أعدم فرصة الناس في التفاوض مع مركز فكري ثالث مختلف، يمكن أن يعرض عليھم تمرينات وممارسات مختلفة للعقل، ويقترح عليھم مراجعة وتصحيح نظراتھم العالمية التي ھبطت عليهم غالبا من عل.

 

وفي مرحلة ما، صنعت فترة من الانفتاح نھضة عربية لا تخطئھا العين،عندما اشتبك جملة من المفكرين مع الأفكار المتداولة في بقية العالم، ونشروا رؤاھم الإصلاحية المكيَّفة محلياً، والتي تفاعلت معھا الجماھير وصنعت فارقاً.

 

لكن الأنظمة، ورعاتھا، وحلفاءھا المحليين من المدافعين عن المسلمات، سرعان ما تنبھوا وضموا القوى في حرب شرسة على مثل ھذه الأصوات والاتجاھات المختلفة المتحركة، وأسكتوھا بكل وسيلة ممكنة.

 

بالإضافة إلى الأفكار الليبرالية الغربية التي بسطھا المفكرون المتنورون للناس، تجاوزت حراس
البوابات المتيقظين خلسة أفكار اليسار العالمي، الداعية إلى تغيير المجتمع إلى حالة أكثر مساواة
بين الأفراد. ولقيت ھذه الأفكار نفس المقاومة العنيدة من تحالف الأنظمة الخائفة على نفسھا
والمنظومات السكونية التي تخشى تفكيكھا، وتعرض دعاة التغيير للملاحقة من أجھزة الأمن،
وللعزل من المجتمعات التي أقنعوھا بأن ھؤلاء يعتدون على ھويتھا وتقاليدھا وعقائدھا، وما ھو أسوأ.

 

وحتى عندما وقعت انقلابات في دول عربية قامت بھا جھات تقمصت ھذه الأفكار، سرعان ّ ما لبس ھؤلاء أزياء العسكر وتنكروا لما ادعوه، وتحولوا إلى آلھة أرضيين مھووسين بحب أنفسھم والتشبث بالسلطة، والذين قاموا بتصفية الرفاق واستھداف المعارضين. وانتھت مغامرة اليسارالعربي الذي كان قوامه  ”الأنتلجنسيا“، بانھيار المعسكر العالمي الذي يمثل ھذه الأفكار نفسه.

 

مع كل ذلك، وكما تبين، لم يكن سكوت الجماھير العربية في جوھرھا قناعة بالراھن المريع أو مظھراً لبلادة مطبقة، كما يقترح البعض. بل بذل الناس محاولات متكررة للإفلات –بغض النظر عن درجة النجاح- والتي قادھا أشخاص عملوا ضد قوى شد عكسية ھائلة.

 

لم يكف العرب العاديون عن القتال ضد الاستعمار الخارجي أو الاستبداد المحلي، وحاولوا دائماً التفاوض مع المتاح من أفكار بأكثر من المتاح لھم من ھامش. لكن خبرة ”الربيع العربي“ أظھرت أن إحباط مساعيھم يرجع إلى غياب ”القيادة“، و“البديل الثالث“ الذي لم يسمح له بالتنفس البديلان الآخران: العسكر؛ والدين السياسي -بدرجة أقل.

 

عن جريدة الغد الأردنية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل