كتاب عربي 21

الثورة السودانية والخوف من السيسيزم

جعفر عباس
1300x600
1300x600

عندما تناهى إلى الأسماع، وثورة الشعب السوداني ضد دكتاتورية عمر البشير مستعرة الأوار، أن ضابطا يحمل اسم عبد الفتاح البرهان مرشح لقيادة البلاد في المرحلة الانتقالية، كتب مصري في تويتر: عبد الفتاح عندكو برضو؟ راحت عليكم يا ثوار.

في مساء الخميس الماضي شهدت الخرطوم حشودا غير مسبوقة في ميدان الاعتصام، قبالة القيادة العامة للقوات المسلحة، بمناسبة مرور أسبوع على عزل البشير، ولكن هذه المرة للمطالبة برحيل الجنرالات الذين يريدون شغل كرسي البشير لعامين، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان.

 

سوء ظن بالعسكر

والأمر لا يتعلق بالشك في وطنية البرهان، بقدر ما هو سوء ظن بالعسكر عموما، وتوجس من استنساخ التجربة المصرية، وتكرار أخطاء ثورة 25 كانون الثاني/ يناير المصرية، عندما رفع الثوار اعتصامهم في ميدان التحرير في القاهرة، بحسبان أن المجلس العسكري الانتقالي بقيادة المشير حسين طنطاوي، سيدير دفة التغيير المنشود وصولا إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة تأتي بحكومة يرتضيها المواطنون.. (راجع عدد 23 كانون الأول/ يناير 2018 من عربي21 لمعرفة تفاصيل التكتيكات العسكرية في مصر للالتفاف على الحكم المدني وإسقاطه ثم عسكرته، بدءا بـإقالة طنطاوي وانتهاء بصعود الفريق عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع ثم...).

 

لا يعرف التاريخ حكما عسكريا احترم حقوق الانسان، أو حقق لبلد ما قدرا من الرفاه،


في جميع أركان ميدان الاعتصام في الخرطوم، يفسر المرابطون رفضهم لمجلس عسكري انتقالي يدير أمور البلاد على مدى سنتين، بأنهم لن يقبلوا بالسيناريو المصري، حيث انقلب العسكر على الحراك الثوري، ثم انقلبوا على بعضهم البضع، وانتهى الأمر بترقية وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي نفسه من وزير للدفاع إلى رئيس للجمهورية.

وبالتالي فـ "السيسيزم" ـ يا رعاك الله ـ هي أن يمتطي عسكري ذو رتبة رفيعة موجة الانتقال المنشود إلى عهد جديد بفعل جماهيري ثوري، فينصب نفسه حاكما عسكريا يكون أول ضحاياه قادة الحراك الثوري، الذين نشدوا عهدا جديدا.

 

يهتدي بالسيناريو المصري

ما يشي بأن المجلس العسكري الانتقالي في السودان يهتدي بالسيناريو المصري السيساوي، هو انقلابه على رئيسه الأول الجنرال عوض بن عوف، الذي كان النائب الأول للرئيس البشير، ووافق زملاءه على استحسان الانقلاب على البشير، ثم إحالته إلى التقاعد، ثم تصعيد عبد الفتاح البرهان لرئاسة المجلس الذي هو الجسم الممثل لرئاسة الدولة.

ما يشكك في نوايا عسكر السودان في حقبة ما بعد البشير، هو أنهم يريدون البقاء في السلطة لعامين، بينما هم يزعمون أنهم انحازوا للثوار ويريدون تشكيل حكومة مدنية، ولا يرون غضاضة في أن تحمل الحكومة المرتقبة صفة المدنية، بينما رأسها الذي بيده الحل والربط عسكري، مما يشي أيضا بأنهم لا يثقون بقدرة المدنيين على إدارة البلاد خلال فترة انتقالية، وإذا كان الأمر كذلك، فالمدنيون لا يصلحون أيضا لقيادة البلاد بعد فترة الانتقال، وبالتالي فمبرر استمرار العسكر في السلطة "جاهز"، وإن لم يكن قد أعلن صراحة لأنه أمر سابق لأوانه.

 

ما يشكك في نوايا عسكر السودان في حقبة ما بعد البشير، هو أنهم يريدون البقاء في السلطة لعامين، بينما هم يزعمون أنهم انحازوا للثوار


وهناك أن المجلس العسكري عطل الدستور، ولم يعلن عن أي إجراءات وضوابط دستورية/ قانونية تحكم أداءه، بل قالوها صريحة بأنهم سيصدرون "مراسيم جمهورية" لها قوة القانون، مما يعني أنهم أعطوا أنفسهم سلطات سيادية وتشريعية، فوق أنهم قالوا صراحة إنهم سيتولون أمور وزارتي الداخلية والدفاع، وإن الأجهزة الأمنية ستتبع لهم.

من أعجب ما سمعت من الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الانتقالي، الفريق أول عمر زين العابدين (تم استخلافه بآخر بعد أن شغل هذا المنصب ليومين فقط)، في أول مؤتمر صحفي له، أنهم ـ أي الجنرالات أعضاء المجلس ـ ليس لديهم أي حلول لمشكلات البلاد، وينتظرون من المدنيين موافاتهم بالخطط والمبادرات لحل تلك المشكلات.

ولك ولي ولغيرنا أن نعجب: كيف ولماذا تستولي مجموعة من العسكريين على مقاليد السلطة، في بلد غارق في المشكلات الاقتصادية والأمنية والسياسية، وهي لا تعرف حلا أو مخارج من أزماته، وتقطع الطريق على من قادوا الحراك (تجمع المهنيين) على مدى أربعة أشهر، مسلحين برؤى وخطط متفق عليها حول الدستور الانتقالي والتشكيل الحكومي والشأن الاقتصادي، مستصحبين معهم في كل ذلك حاملي السلاح في ثلاث مناطق لا تخضع لسيطرة الحكومة، أعلنوا أنهم سيضعون السلاح ويدعمون حكومة مدنية انتقالية.

لا يعرف التاريخ حكما عسكريا احترم حقوق الإنسان، أو حقق لبلد ما قدرا من الرفاه، والعسكري المحترف، وبحكم تكوينه المهني القائم على الانضباط وطاعة الأوامر، لا يقبل الجدل والنقاش واختلاف وجهات النظر، وكلما علت مرتبة العسكري في هرم القوات المسلحة، كان أكثر ضيقا بعدم الانصياع لأوامره من جانب من يعتبرهم أدنى مرتبة.

في قاموس العسكرية السودانية يسمى المدني "مَلَكيا" والزي غير العسكري أيضا ملكي، وأقسى توبيخ يتلقاه جندي في الجيش السوداني هو اتهامه بأنه يتصرف كـ "ملكي"، وقد يفسر هذا إصرار مجلس عبد الفتاح البرهان على إبعاد الملكيين عن المجلس السيادي الذي يمثل رئاسة الدولة.

التعليقات (0)