كتاب عربي 21

الحالة محمد عبو

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
سأكتب عن رئيس الدولة التونسية القادم، وسأخسر مستقبلي والحمد لله. سأكتب محاولا فهم الحالة محمد عبو. السيد عبو سيكون رئيسي، وأزعم أنه في طريق مفتوحة إلى قصر قرطاج، فله من المؤهلات ما يجعله يسبق الجميع.. أنا من المعجبين بأناقته الشابة، فهو يعرف تناسق الألوان، ولا يضع ربطة عنق وردية مع قميص أزرق. وهو رجل فصيح اللسان، ذرب يقنع بلغة سلسة من معاجم القانون. ولا أخشى أن تكون صورته على العملة الوطنية ذات يوم بصفته مؤسس الديمقراطية، ولكن قبل أن أمنحه صوتي في الانتخابات القادمة بعد ستة أشهر سأتذكر بعض التفاصيل.

الرجل المؤسس

لقد كنت أراقب حزب التيار الديمقراطي منذ تأسس في 2013، وأقول في هذا الحزب ما يعبر عن البديل الذي انتظر، لكني كنت أتوجس ككثيرين من أبناء جيلي؛ من الوقوع تحت تأثير الزعامة المفرطة للرجل المؤسس.. لما انسحب الرجل المؤسس من الموقع الأول وأحال بالانتخاب الأمانة العامة للحزب إلى رجل آخر من الحزب، قلت: ضربة معلم ودرس ديمقراطي، هذا نمو سليم لجسد ديمقراطي، وراقبت نواب الحزب يضعون ملف الفساد الاقتصادي على برنامج نضالهم السياسي اليومي، وقلت: مدخل عبقري لفعل سياسي جذري في وضع حريات يسمح بالكثير من الإصلاح، دون كسر المؤسسات بثورية باطلة. وسألت نفسي: من يستهدف الحزب بنضاله؟ ومن يستقطب من الناس؟ 

لم يخرج الحزب من العاصمة إلا قليلا، وتواصله مع الناس كان محدودا رغم سنوات الحرية دون مسؤولية في قياد الدولة، فالحزب معارض معلن.. وجدت خطاب الحزب موجها نحو فئة محددة موجودة في المدن الكبرى، وبالخصوص في العاصمة.. الطبقة الوسطى من الموظفين والمهن الحرة ممن قلص الفساد من حظوظها في الترقي الاجتماعي. مقاومة الفساد من أجل ترقية الطبقة الوسطى بدا لي مسارا محدودا، ولم أقرأ في الأثناء نصوصا تأصيلية، لكني كنت مستعدا للتسليم بأن الفكرة منتجة.

يقول الحزب إنه حزب ديمقراطي اجتماعي، لكن الديمقراطية الاجتماعية تشمل الطبقات الدنيا أيضا. فهي يسارية محدثة بعد تكلس التنظير اليساري للخمسينيات، حين استعيدت مقولات الصراع الطبقي على صعيد كوني، أو ما سمى بمدرسة التبعية، حيث لسمير أمين إضافة معتبرة. 

وجدت بصمة الرجل المؤسس الذي يفكر في طبقته ويشتغل على استقطابها ولا يهتم بالفقراء إلا لتزيين الخطاب الإعلامي. سلمت بأن ليس للحزب منظرون باستثناء الفصاحة القانونية لمؤسسه، حيث تعلم مقولات الديمقراطية الشكلية في كلية الحقوق. حزب ديمقراطي للطبقة الوسطى.. خطاب جميل يمتح من نظرية واضحة، تملك السلطة عبر وسائلها الشكلية (الصندوق الانتخابي)، والمرور إلى عدالة شكلية تغفل أن الفئات الواسعة من الناس بقيت خارج اهتمام الحزب ومنظره الوحيد.

كم حجم هذه الطبقة وما طموحاتها الحقيقية؟ وهل هي بعيدة فعلا عن الفساد الذي يقاومه الحزب في البرلمان بصوت السيدة زوجة المؤسس؟ هذا السؤال يزعج حزب طلبة الحقوق والعلوم السياسية.

الحزب تأسس كحزب نخبة، وسيظل كذلك حتى يحشر نفسه في موقع صغير قد يرضي طموح مؤسسه، ولكنه لا يمكن أن يتحول إلى حزب شعبي يقود الشارع المفقر. الانتظارات تقلصت، ولكن الغاية الأخرى الخفية تتحقق. الحزب سلَّم المؤسس لمجده الشخصي، وهنا نفهم المناورة الكبرى للزعيم عبو.

الغيبة والظهور

إحالة الأمانة العامة لشخص احتياطي منذ المؤتمر الأول (2014-2019) خدعتنا في سياق ديمقراطي. لقد اختفى عبو واجتنب التهرئة السياسية المحتملة في معارضة الباجي والغنوشي (النداء والنهضة). لقد أوكل المهام لشخص آخر قبل الاشتغال كدرع لتلقي الصدمات، وبقي الزعيم فوق الصراعات اليومية، فلم تُخدش سمعته، بل اتخذ موقع القاضي الشريف المترفع، حتى حان أوان الظهور، فاتخذ شكل المخلص وأعلنه الحزب مرشحا للمنصب الأعلى بسيرة نقية. لكن المسرحية لم تكن متقنة جدا.. لقد كان متوقعا أن يعود.. وعاد من أجل هدفه الذي قاد معاركه السياسية منذ هرب من منصب نصف وزير في حكومة الترويكا.. في ذلك الهروب مفتاح فهم سيرة رئيسي القادم.

السيد عبو لا يرضى بالمكان الثاني في تأليف حكومة الترويكا.. كان طموحه وزارة سيادية، فلم يظفر بها، فقبِل بكتابة دولة للإصلاح الإداري مع رئيس حكومة من حزب قوي وشره إلى التمكن من الإدارة التي يجهلها، باعتماد الشراكة السياسية بين حزب المؤتمر وحزب النهضة، لكنه كسر عقد الشراكة واستقال.

معركة الإصلاح الإداري كانت معركة من معارك الثورة، وفيها مفاتيح مقاومة الفساد الحقيقي منذ التأسيس، لكن السيد عبو استقال بذرائع ضعيفة. فأقل من سنة لم تكن كافية لكشف مواهبه ولا قدرته على محاربة الفساد وكسره من داخل المنظومة الفاسدة. لقد خرج نقيا من أخطاء الترويكا، ولم يعرف الناس كفاءته الحقيقة. نسي السيد عبو أنه ورئيس حكومته (الجبالي) قادمان من خارج منظومة الحكم، وكلاهما يجهل حيل الإدارة الفاسدة، ويجب بذل جهد للتعلم والشروع في الفعل الإصلاحي العميق. وعوض خوض المعركة مع شركاء على قاعدة تأسيس إدارة جديدة، فضّل التبرؤ من المعاناة والوقوف على ربوة المعارضة.

هل كان ذلك حصيفا؟ لقد نجا عبو من أخطاء الترويكا، بما سمح له بتأسيس حزب طاهر بلا أخطاء كما في خطاب الجامعة.

عقدة المرزوقي تلاحق عبو

في الثورة وما تلاها من حراك، وجد عبو نفسه في الموقع الثاني وراء الدكتور المرزوقي. خروج المرزوقي إلى سدة الرئاسة، واستقالته من حزبه وضعت عبو أمينا عاما لحزب المؤتمر، ولكن الحظوة عند الرئيس لم تكن له، فرجل المرزوقي في الحزب كان عماد الدائمي، رفيق نضاله في باريس وصفيه وصديقه. شكليا، كان عبو في الموقع الأول، وعمليا كان وراء ذلك، فكسر الحزب وخرج إلى مشروعه الشخصي.

في انتخابات 2014، وقف مع المرزوقي بإخلاص وقاد وزوجته جزءا من الحملة الانتخابية، فلما خرج المرزوقي من السباق لم يعد عبو إلى تأليف حالة سياسية مؤسسة على الزخم الانتخابي، وتكبّر على كل محاولات الترميم. لقد كان الترميم يعني أن يعود المرزوقي إلى المشهد بإيهاب شهيد قهرته منظومة فاسدة. وكان ذلك يعني استمراره في قيادة المعارضة، أي أن يصير عبو ثانيا أو رابعا خلف المرزوقي الذي سيصير زعيما لا مجرد رئيس. هرب عبو مرة أخرى إلى مشروعه الشخصي، حتى مؤتمر حزبه في نيسان/ أبريل 2019، ليكون مرشحا للمنصب الأول.

حظوظ النجاح في الطريق إلى قرطاج

الطبقة الوسطى لن تفلح في فرض رئيسها؛ لأنها طبقة من المحاسبين. وهي ليست معنية حقيقة بالديمقراطية الشكلية فهي ثمرة سياسات بن علي الليبرالية القائمة أصلا على الفساد. وكل من قد يعمل على استقطباها ينسى طبيعتها الانتهازية، وعبو لا يملك مفاتيح الغنيمة لهذه الطبقة، فهو لا يفهمها رغم أنه منها. لذلك، أراه قد راهن على حصان حرون. فدرس الديمقراطية الشكلية في كلية الحقوق لا يرى أبعد من جمال النصوص وسلامتها الشكلية، أما الواقع فيتحدد خارج كراسات القانون.

ماذا كان عليه أن يفعل ليصير رئيسا، وهو حق لا جدال فيه؟

اللحظة الشجاعة التي كتب فيها محمد عبو مقالا ضد زيارة شارون لتونس في قمة المعلومات 2005، مضحيا ببيته الهادي ومكتبه المزدهر، لم تكن لحظة ديمقراطية شكلية تتوسل الفئات المترفة ونصف المترفة، لتسوّق لهم بلسان ذرب خطاب التغيير الهادئ، خاصة وأن منصب الرئيس حسب الدستور ليس هو أداة التغيير الحقيقية.. تلك اللحظة انقضت.

لو كانت المرحلة تحتاج خبير نصوص قانونية يُحسن الكلام، لكان لنجيب الشابي مكانة فيها عظيمة، ولكنها تطلب رجلا يفهم الشارع الفقير ويعمل معه وفيه. وعبو مثل الشابي، مثل الجبالي، مثل كل الأسماء التي تراودنا لتكون رؤوسا علينا؛ تعيش بحبوحة الطبقة الوسطى التي تفكر في مواقعها وربطات عنقها، والفرق بينها هو في سلامة الذوق، بحيث لا نجد ربطات عنق وردية على قمصان زرقاء. أما أنا، المجهول في السياق، فسأمنح صوتي لمحمد عبو من أجل جمال اللغة العربية على لسانه، ولن أساله مشروعا للإصلاح الزراعي، فهو أمر لا يدرس في كلية الحقوق، فقد أرهقني رؤساء لا يحسنون تكوين جملة سليمة.
التعليقات (0)