أفكَار

الإسلام السياسي في السودان.. التقهقر وجنادل الإصلاح

خبراء يقيمون تجربة الحركة الإسلامية في السودان بعد سقوط حكم البشير-  (الأناضول)
خبراء يقيمون تجربة الحركة الإسلامية في السودان بعد سقوط حكم البشير- (الأناضول)

في هذه الحلقة الثانية من سلسلة مستقبل الإسلام السياسي في السودان، يتحدث مختصون عن مشروع الإصلاح والتطوير والمواكبة الذي حملته الحركة الإسلامية بوصفها ممثل الإسلام السياسي في الحكم، والأخطاء والإشكالات العميقة التي واجهت هذا المشروع على مستوى المنهجية والماهية والهدف، ما زاد من ضبابية أطراف المشروع عند أصحابه وذويه، قبل خصومه ومنافسيه، وساعدت على انتكاسته، والشكوك حول مرجعياته، ودخول البعض في متاهات العنف والمواجهة، والعزلة الشعورية والفيزيائية، وبل ومغادرة الفكرة إلى غيرها أو إلى اللاشيء.
   
صعود السلف وتقهقر التجديد

يقول البروفسور حسن مكي في مقابلة مع "عربي21": "إن واحدة من مشكلات الحركة الإسلامية التي أثرت بشكل كبير في دورها السياسي في الحكم، اعتمادها على قيادات ذات جاذبية وهيبة، وقد انكسرت تلك الجاذبية بمرور الزمن سواء كانت نجومية مؤسسها الراحل حسن الترابي أو نائبه ونائب الرئيس علي عثمان أو الرئيس المعزول عمر البشير، كما اعتمدت الحركة الإسلامية على القيادات ذات التأهيل العالي وجعلت "الدعاة التقليديين" يستلمون المراكز، وهؤلاء معروف عنهم أنهم لا يسمعون ولا يرون وعليهم السمع والطاعة ما مكن من تجاوز أهم مبدأ في الفكر السياسي الإسلامي وهو الشورى".

 



وفي تحليلها للعراقيل التي تواجه إصلاح الحركة الإسلامية وتُمهد لمستقبل سياسي لها، يقول الباحث المقداد الهجانا في حديثه مع "عربي21": "إن دائرة الفكر السياسي والاجتماعي والشأن العام في مجموعة الإحياء والتجديد، رأت أن تماهي الحركة مع الدولة ولد بداخلها مشكلين عويصين؛ الأول تمثل في حالة البعد عن المجتمع وهمومه وحاجاته، فأصبحت بكل فصائلها هرجا خارج حركة التاريخ والاجتماع الإنساني، وانفسح المجال لغيرها من الحركات السلفية والصوفية محملة بمعايب التراث الإسلامي ومثالبه التي استنفدت الحركة عبر مفكرها جهدا بالغا في نقده وتنقية سمينه من غثه، فعادت تلك الجماعات التراثية بخطابها النقلي التراثي ترسم صورة للتدين هي أحرى ببث الكسل والاستكانة في وجدان المجتمع دون تفجير طاقته وتثوير حركته، ذلك التثوير الذي كانت تعمد إليه الحركة في خطابها التجديدي".

ويشير إلى مشكلة أخرى فحصتها دراسة مجموعة الإحياء والتجديد، تتعلق بتشرذم وتفكك الحركة نفسها إلى فصائل كل يضمر لأخيه غيظا وضغينة، وكل يدمغ أخاه بأبشع الأوصاف التي لا يخلو منها فصيل بحال، وكل يحمل أخاه مسؤولية الفشل الذريع والتقهقر المريع الذي ضرب الحركة ومن ورائها الوطن والمجتمع الذي نشأت تبتغي إصلاحه وسلامته، موضحا أن الأزمة في أقصى تجلياتها أن كل فصيل من فصائل الحركة كانت تعوزه المقدرة على تقديم النقد الأعمق والبديل الأجدى لحالة الانسداد التي كانت سببا في (مفاصلته) للتنظيم الحاكم، فالذي ادعى أنه فاصل لأجل الحريات والشورى واللامركزية ضد فردانية الحكم وأحادية القرار لم يكن يعي أن المشكل كان قابعا في العلاقة الضبابية حينها بين الدولة والحركة وأن التوليف بين طبيعتين مختلفتين كطبيعة الدولة والتي هي أداة قهر وتسلط وطبيعة الحركة التي ينبغي أن تكون أداة إصلاح ودعوة بالحسنى سيؤدي حتما إلى تنافر ومن ثم إقصاء إحدى الطبيعتين على حساب الأخرى، وكان ما كان؛ فالطبيعة القهرية كانت غالبة، ما أفقد الحركة ميزة الالتصاق بالمجتمع، فتبدد سندها الجماهيري واستبدل عند من مال إلى السلطة بسند القوة العسكرية والأمنية.

 



جنادل الإصلاح

يرى الباحث في التيارات الدينية الدكتور محمد خليفة صديق، "أن مشروع الإصلاح والتطوير والمواكبة الذي حملته الحركة الإسلامية رافقته هنات هنا وهناك، وهنا يضع مستويات هذا الوضع المعقد والمؤثر على أي اتجاه تفكير للخروج من نفقه إلى مستقبل أوسع"، إذ يشير إلى معضلة الديني والزمني، موضحا أنها العقبة الأولى التي اعترضت الحركة الإسلامية وهي تعبر عباب التحزب والتسيّس تمثلت في الإجابة على سؤالين اثنين: كيف يمكن أولا الزج بالنص المنزه والمعصوم في دهاليز الفعل السياسي بشبهاته واجتهاداته وحتى نزواته؟ ثم كيف يمكن ثانيا أن يمَثَّل الإسلام كدين له حرمته وعظمته ومقدّسه واجتماعيته، من قبل طرف أو مجموعة أو فريق، دون أن يقع في غياهب الاستفراد والتمثيلية الوحيدة للإسلام؟ فيصبح ما سواه باطلا ولعله كفر، حين يلتقي التحزب مع الاعتقاد والإيمان، وما سواه من تحزب منافس يضحي خروجا عن الجادة، فتلتقي بيعة الانتماء للحزب، مع بيعة الإيمان والانتماء للعقيدة والدين، فيصبح برنامج الحزب دينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والشيخ والرئيس نبيا معصوما.
  
أما المستوى الثاني حسب رؤية الباحث فقد تمثلت في تغول السياسي في أطروحات وبرامج الحركة الإسلامية على حساب أبعاد أخرى، ولم تعد هنالك حدود بين السياسي والفكري، ما مثّل معضلة وانحرافا دفعت الحركة ثمنه باهظا في بعض الأحيان، حيث غلبت في بعض الأزمنة والأمكنة المنهجية السلطانية الكاسحة التي ولدها تكوين سياسي حدثي وحلم سياسي فطير، وفكر سياسي فضفاض وهدف سياسي رمادي، على حساب أبعاد أخرى تخلف بناؤها أو ضمر. ولم تستطع الحركة الإسلامية وهي تطرق المضمار السياسي وتنسد الأبواب في مجاله، فتح أبواب أخرى ومسارات مغايرة لأن منطلق البناء لم يكن قد توازن في الأبعاد كلها والتي يمثل السياسي طرفا مهما فيها.

ويضيف مشكلات أخرى، مثل الفشل في استيعاب الحركات الجهوية لإيقاف حروب السودان، ولم تستطع قراءة ترتيبات التاريخ وإيقاعاته وتشكلاته لقيادة حركته، كما اتسمت العلاقة بأحزاب المعارضة، تناقضا صريحا بين رؤى الانطلاقة والتصورات الحالية، فمن الرفض القاسي لوجود الأحزاب وجمعها في إطار واحد (التوالي السياسي)، إلى قبول بوجودها والتعامل معها على أساس من الندية والاحترام المتبادل، لكن هذا المسار الصاعد نسبيا للحالة الحركية الإسلامية والنقلة النوعية لعلاقة الحركة مع أطراف مجتمعاتها، واجه معضلة عويصة طرحت نفسها ومثلت تحديا آخر فهي إن قبلت بالتحالف السياسي، انتهت قطبيتها وزعامتها التي أوردتها الجماهير، وأصبحت رقما في معادلة يمكن أن تتجاوزها. والآن أرادت الاستفراد بالساحة فإنها عولت على قوى ذاتية يمكن أنها لم تبلغ كمال نضجها، واستضعفت في الأثناء قوة خصم، لم تراع امتلاكه لمراكز الهيمنة، من دولة وجيش وثروات، وتجاهلت عدم توازن الكفة لصالحها.. ما هوّن الاستفراد بها لاستئصالها أو استبعادها في ظل سكون البعض ولامبالاته أو شماتة البعض الآخر ومناوراته.

 



لكن أبرز المحطات التي واجتهتها الحركة الإسلامية السودانية في قيادتها لمفهوم الإسلام السياسي، كانت معضلة العلاقة مع الشعب، إذ يقول الباحث محمد صديق في حديثه مع "عربي21": "إن المتتبع لمسار الحركة الإسلامية يلمس طابعها الجماهيري، وضخامة تأثيرها في شعوبها ولو من بعيد، فمن المفارقات أن غيابها عن الشأن العام المباشر، جعلها حديث الداخل والخارج، والغائب الحاضر على الدوام، إعلاما وحكاما وشعوبا"، مشيرا إلى المحك الذي اصطدمت به الحركة الحركة الإسلامية في محاولتها إيجاد التوازن بين ثوابتها ومرجعيتها من جهة وتدافعات الواقع ومطالب الجماهير من جهة أخرى، نظرا لتشوق هذه الجماهير وتعطشها للإشباع السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ مثل دعاوى الحرية والديمقراطية والتعددية، وظلت هي شعارات لدعايات انتخابية فقط تمليها مناوارت اللحظة، بينما ظلت في الحقيقة في ثوابت وتراث تحملهما الحركة الإسلامية في ثقافة روادها وكتابات منظريها وسلوك شخصي لأفرادها.

التعليقات (0)