قضايا وآراء

من مطلع تموز 2014 إلى نهاية نيسان 2019: "البغدادي.. خليفة بلا خلافة"

أحمد عبد الرحمن
1300x600
1300x600

معركة الباغوز انتهت.. بهذه العبارة ومن مكان مجهول استهل أبو بكر البغدادي الشريط المصور الذي بثته مؤسسة الفرقان. يظهر أبو بكر البغدادي في هذا الشريط مخاطبا ثلاثة من أتباعه فقط في غرفة صغيرة، لا تتعدى بأحسن حال "الأربعة في أربعة". وكان نصيب الباغوز (المعقل الأخير للخلافة) من هذا الشريط المصور؛ ما يقارب السبع دقائق ونصف، من أصل حوالي 18 دقيقة، هي مدة الشريط كاملة.

خلال تلك الدقائق السبع ونصف، أبّن البغدادي "آخر معاقل خلافته.. الباغوز".. أبّنها واصفا المعركة فيها بـ"معركة الإسلام وأهله مع الصليب وأهله". وأشاد بتضحيات رجال تنظيم الدولة، وعدّد بالاسم القيادات المتعاقبة للتنظيم.. ولا يخطئ المتابع خلال تعداده؛ غلبة ذوي الأصول التي تعود لـ"جزيرة محمد" صلى الله عليه وسلم، بحسب وصفه ، وكأن فيها إشارة واضحة وذات دلالات لأتباعه من حملة الجنسية السعودية، وربما في الحض الضمني لأبناء الجزيرة على البقاء على العهد وعلى التحاق المزيد من السعوديين بركب البغدادي.

 ويكمل البغدادي وصف معركة الباغوز، بلغة قد يقرأ منها البعض حال الضعف الذي آل اليه التنظيم؛ حين اشتكى من وحشية "أمة الصليب" تجاه "أمة الإسلام"، ليوجه بعد ذلك شكره وتقديره لأتباعه في "جميع الولايات"، بما قاموا به (بحسب وصفه) من "غزوتهم الموحدة" ثأرا لإخوانهم في الشام/ الباغوز. إذ بلغت هذه الغزوات، بحسب تعداد البغدادي، 92 عملية في ثماني دول، مما يستوجب على المتخصصين رصد هذا العدد الكبير من "الغزوات" خلال فترة لا تزيد عن الشهر، إذا اعتبرنا وأرّخنا لانتهاء معركة الباغوز أواخر آذار/ مارس الماضي، ونوعية هذه "الغزوات" التي يشير إليها ومدى تأثيرها، والدول التي استهدفتها.

 

يكمل البغدادي وصف معركة الباغوز، بلغة قد يقرأ منها البعض حال الضعف الذي آل اليه التنظيم؛ حين اشتكى من وحشية "أمة الصليب" تجاه "أمة الإسلام"، ليوجه بعد ذلك شكره وتقديره لأتباعه في "جميع الولايات"

وبحسب "الخليفة البغدادي"، فإن هذه الغزوات التي جاءت ثأرا لمعركة الباغوز إنما تدل على "وحدة صف المجاهدين وإدراكهم لمتطلبات المعركة وفهمهم للواقع الذي يعيشونه".. واستهل استعراضه لعمليات الثأر للباغوز بما تحقق لـ"المجاهدين" في بلدة الفقهاء في ليبيا، وما حققه "مجاهدوها" هناك من استنزاف للعدو، ليؤكد بعد ذلك البغدادي بشكل عام أن المعركة هي "معركة استنزاف".

ويشير البغدادي في ذات السياق؛ لعلميات الثأر والاستنزاف في مكان آخر من الشريط، حين أشار لمن أسماهم "أبطال التوحيد"، لما أقدموا عليه في سيريلانكا باستهداف كنائس وما راح خلال تلك "الغزوة" من قتلى أمريكيين وغيرهم من رعايا دول غربية. وهنا يستوقفك أن البغدادي لم يشر إلى مجزرة مسجدي نيوزيلندا في سياق ما تردد عن قيام جماعة التوحيد عمليتهم انتقاما لضحايا المسجدين، بل أدرج البغدادي هذه العملية (أو الغزوة) ضمن عمليات الثأر للباغوز، المعقل الأخير لخلافته!!

وقد خص البغدادي فرنسا بالاسم بالثأر، وبقية الدول على شاكلتها، وذلك بمناشدة من أسماه أبو الوليد الصحرواي وأتباعه في أفريقيا، ومطالبة أتباعه بتكثيف الضربات على فرنسا ومن لف لفها من الدول. ويمكن للراصد لهذا الخطاب في جزئه الأول (الاستنزاف والثأر للباغوز)، أن البغدادي يركز على عنوان واحد للمعركة: "معركة الإسلام وأهله مع الصليب وأهله".

وينتقل البغدادي بعدها من الاستنزاف والثأر للباغوز للحديث في سياق آخر، فيبدأ حديثه نصا: "أظنكم تابعتم الأحداث بعد تسلم نتنياهو حكومة يهود"، وينتهي إلى هنا دون أي إشارة لمن قصدهم، حين يخاطب أتباعه بأنهم تابعوا الأحداث "بعد انتخاب نتنياهو"، فلا يُفهم قصده بتحديد هذا الحدث السياسي الانتخابي دون غيره، ناهيك عن قلة تناول الصراع العربي الإسرائيلي ودولة إسرائيل في أدبيات تنظيم الدولة، فما بالك حين يربطها بحدث انتخابي سياسي هناك؟! وقد يكون التفسير لهذه العبارة أنه يريد أن يقول إنه متابع للأحداث ليس إلا!!!

 

سيعتبر المتعاطفون مع احتجاجات الجزائر والسودان أن البغدادي بإشارته هذه؛ أعطى تلك الأنظمة المستبدة حجة جديدة

لينتقل بعدها "للحدث الأبرز" بحسب وصفه، وهو سقوط "طاغوت الجزائر وطاغوت السودان". وهنا مفارقة أخرى يسجلها البغدادي، فلم يعهد في أدبيات ومضامين خطابات تنظيم الدولة أن اهتم أو تناول تطورات وتداعيات الربيع العربي، وإلى حد أن يصفها بالحدث الأبرز، فهذا جديد على أدبيات تنظيم الدولة. ولا يفوّت البغدادي الفرصة هنا ليعبر عن حزنه لخروج هؤلاء الناس في السودان والجزائر دون يفقهوا سبب خروجهم وماذا يريدون، وما أن "زال طاغوت حتى يأتي طاغوت غيره"، وعليهم أن يدركوا (أي متظاهري السودان والجزائر) أن إقصاء "هؤلاء الطواغيت"، بحسب البغدادي، لن يكون إلا بالجهاد وبحد السيف.. بل يؤكد البغدادي على اتباع السبل الشرعية في إزالة "الطواغيت"، وكأنه يحاول أن يخاطب هؤلاء المتظاهرين؛ عله يلقى من يصغي إليه ويتبعه في عملية ثأره واستنزافه!! في المقابل سيعتبر المتعاطفون مع احتجاجات الجزائر والسودان أن البغدادي بإشارته هذه؛ أعطى تلك الأنظمة المستبدة حجة جديدة لإعادة تلحين إسطوانتهم المشروخة، بتعبير تلك الأنظمة عن خشيتها من أن يركب تنظيم الدولة وأنصاره تلك الاحتجاجات، ما يدفع تلك الأنظمة ويعطيها المبرر لقمعها!

وبعد أن يقدم البغدادي الوصفة لمتظاهري الجزائر والسودان باتباع الجهاد وحد السيف لوأد الطواغيت، ينتهي الظهور المباشر للبغدادي وهو يخاطب أتباعه الثلاثة في تلك الغرفة.. ينتهي ظهوره المباشر ويظهر صوته مع مجموعة من الصور الأرشيفية، ليشيد بصوته دون صورته؛ بعمليتي سيريلانكا والزلفي في السعودية، في طريقة إلقاء صوتية يتضح من خلالها أن البغدادي يقرأ نصا ولا يتبع ذات الأسلوب في الحديث مع أتباعه الذي سلكه منذ بداية الشريط.

ويختتم هنا رسالته الأخيرة بدعوة "مجاهدي جزيرة محمد" (أي السعوديين) للثأر لمن قتل من أتباعه في الزلفي، والسعي لمواصلة الجهاد ضد "طواغيت آل سلول"، في إشارة إلى الأسرة الحاكمة هناك (آل سعود).. وبذا اختتمت رسالة البغدادي، لتتعاقب الصور (دون صوت) في الشريط، وأتباعه الثلاثة يتحدثون إليه وهو يستمع إليهم. وفي الخلفية نشيد يحث الشباب على الرحيل إلى الشام والفرات تحت قيادة خليفته، وأنهم عشاق حياة.. وخلال استعراضه هذا يقدم له من ارتدى الزِّي الخليجي (وربما تحديدا السعودي). يقدم لخليفته عدة ملفات، وعلى كل ملف اسم واحدة من ولايات خلافة البغدادي، في إشارة لواقع التنظيم هناك وعملياتهم وغزاوته. رُصد من أسماء هذه الولايات على تلك الملفات: اليمن والصومال وتركيا والعراق والشام وخرسان والقوقاز وغرب أفريقيا وتونس، وكأن الخليفة يستعرض مع أتباعه حال ولايات خلافته، وفيها رسالة لا شك لأتباعه تستحثهم على المزيد من الغزوات والاستنزاف!

أما على مستوى الصورة وإخراج الصورة في هذا الشريط، فشتان بين صورة "الخليفة" في مسجد الموصل في تموز/ يوليو 2014، وبين صورته التي تُنشر الآن من مكان مجهول، في نهاية نيسان/ أبريل 2019.. ففي الموصل كان يعتمر الخليفة العمامة السوداء والثوب الأسود، واعتلى المنبر وحوله الأتباع بالمئات، ورعايا "الخلافة" ينصتون إلى خطبته.. أما في 2019، فارتدى كوفية سوداء أسبلها دون حتى عقال، ولبس سترة أقرب لسترة المحاربين أو الصحفيين، وجلس في غرفة صغيرة ومن خلفه ستارة بيضاء والى جانبه سلاح رشاش. وهنا، مع صورة هذا الرشاش والخلفية البيضاء، والبغدادي يجلس على ملاءة ويتحدث إلى قلة من أتباعه، هي ذات الصورة التي كان يظهر فيها أسامة بن لادن من مخبئه.. فلا ندري إن كانوا يقصدون منها شيئا بعينه؟! لكن من المؤكد أنها تذكرنا بحال ابن لادن حين كان طريدا!

 

شتان بين إخراج الصورة في 2014، وقد استعملت الكثير من التقنيات التي تظهر هيبة "الخليفة" في رحاب جامع الموصل بين أتباعه، وبين إخراج الصورة الفقير في 2019

وبالرجوع لصورة هذا الشريط والبغدادي في تلك الغرفة أمام ثلاثة من أتباعه ليس إلا، ويرتدي اثنان منهم لباس الحرب والميدان، والآخر الزي المدني الخليجي الذي يبدو أنه لا غنى لـ"خليفة البغدادي" عن سند ذلك الخليجي بل السعودي تحديدا!.. فشتان بين إخراج الصورة في 2014، وقد استعملت الكثير من التقنيات التي تظهر هيبة "الخليفة" في رحاب جامع الموصل بين أتباعه، وبين إخراج الصورة الفقير في 2019، وقد استعان المخرج بتكرار حلول مونتاجية فقيرة، تنوعت بين الميكس والفيد في تلك الحجرة الصغيرة.. حتى إن المخرج لم ينتبه، أو أنه لم يكلف نفسه عناء الانتباه لبداية ظهور الخليفة في هذا الشريط الجديد، فظهر وكأنه متردد أو مهزوز، وقد بطُأت التفاتة البغدادي قبل أن يبدأ بالكلام!!!

الشاهد من كل هذا.. من تأكيد البغدادي لأتباعه وأعدائه أنه لا زال حي يرزق، بالتنويه لأحدث "غزاوت" تنظيم الدولة والتي ذكر منها عملية الزلفي التي حدث في 20 نيسان/ أبريل، أي قبل عشرة أيام من بث هذا الشريط.. ومن إعلان أبي بكر البغدادي انتهاء معركة الباغوز ودعوته للثأر للباغوز واتّباعهم لسياسات الاستنزاف.. الشاهد أن أبا بكر البغدادي قد أعلن عن نفسه "خليفة من غير خلافة".

التعليقات (0)