كتاب عربي 21

هل يبْهر سحر القصر العسكر؟

جعفر عباس
1300x600
1300x600

انقلب كبار عسكر السودان على قائدهم الأعلى المشير عمر البشير، ووضعوه في السجن، وكان ذلك في سياق ركوبهم موجة المظاهرات العارمة التي ظلت تطالب برحيل البشير، ثم شكلوا مجلسا عسكريا لإدارة شؤون البلاد خلال فترة انتقالية. وبدا واضحا منذ اليوم الأول لإعلان قيام المجلس، أن العسكر يعتبرون أنفسهم أوصياء على البلاد والعباد، متناسين أن من أسقط البشير فعلا هي الجماهير التي دفعت مهر الدم، وأن لتلك الجماهير قيادة مركزية تتألف من القوى الفاعلة في المشهد السياسي، التي ظلت ترتب مجريات الحراك الشعبي بكفاءة عالية، جعلتها محط ثقة الملايين التي رابطت وما زالت ترابط أمام مقر القيادة العامة للجيش، رافعة شعارها الأشهر: حرية - سلام ـ عدالة، والثورة خيار الشعب.

 

الثورة لا الانقلاب


وخيار الشعب هو الثورة، وليس الانقلاب العسكري، واختار الثوار واجهة مقر قيادة القوات المسلحة موقعا لاعتصامهم التاريخي، ناشدين انحياز تلك القوات للثورة كما فعلت في عام 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود، وفي عام 1985 ضد نظام المشير جعفر نميري، ولكن انقلاب جنرالات الجيش على البشير لم يكن ـ كما تشير كل القرائن المادية والظرفية ـ انحيازا، بل اختطافا للثورة الشعبية وتجييرها لصالح طبقة الجنرالات في الجيش.

وينكر جنرالات المجلس العسكري الحالي في السودان بشدة أن إعلانهم إزاحة البشير بفرمان عسكري وتحركات عسكرية يعتبر انقلابا، ولا غرابة، فما من عسكرتاريا استولت على السلطة في أي بلد، إلا وزعمت أن ما قامت به "ثورة"، ووجد عسكر السودان في الثورة الشعبية التي ركبوا في آخر عربة في قطارها، الذي كان قد وصل محطته النهائية -أو كاد- غطاء للتحرك الذي أدى إلى إنهاء عصر البشير، وتدشين عصر جديد يكونون هم سادته وسدنته.

اتخذ الحكام السودانيون العسكريون الجدد مقر القيادة العامة للقوات المسلحة مقرا لهم لنحو عشرة أيام، أدركوا خلالها أنهم ليسوا أصحاب الكلمة العليا في أمر مستقبل البلاد، فهادنوا على مضض تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، الذي ظل يقود الحراك الثوري منذ أواخر عام 2018، واعترفوا به ممثلا أوحد للثوار، وأعلنوا أنهم سيفاوضونه بنديّة لتقرير شكل وأسلوب الحكم في فترة انتقالية، تنتهي بتنظيم انتخابات نزيهة تؤدي إلى نشوء ديمقراطية مستدامة.

 

وجد عسكر السودان في الثورة الشعبية التي ركبوا في آخر عربة في قطارها، الذي كان قد وصل محطته النهائية ـ أو كاد ـ غطاء للتحرك الذي أدى إلى إنهاء عصر البشير.


ثم انتقل المجلس العسكري إلى القصر الجمهوري، وفي أول مؤتمر صحفي لهم هناك، خاطبوا الثوار وقيادتهم بلغة الوعيد والتهديد التي يتقنها العسكر، والتي سبقهم إليها البشير وهو في الرمق الأخير، وليس من العسف استنتاج أن المكان (القصر) بكامل بهائه ورمزيته أعطاهم الإحساس بالفوقية التي لا تقبل تطاول العوام.

اتهم العسكر قبل نحو أسبوع، من مقرهم الرئاسي الفاخر، قوى وقيادة الثورة تلميحا وتصريحا بأنها مسؤولة عن "الانفلات الأمني والكثير من المظاهر السالبة والفوضى... وهذه أمور لا يمكن السكوت عليها"، ثم أصدروا توجيهاتهم بإعادة فتح الجامعات، وفهم الشارع السياسي الذي ما تزال جذوة الثورة مشتعلة فيه الرسالة: استمرار الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش بما يستوجبه من إغلاق بعض الطرق، وجسر يربط الخرطوم بتوأمها الخرطوم بحري، هو الفوضى المقصودة، وبما أن معظم المعتصمين هناك من طلاب الجامعات فإن فتح الجامعات والتعجيل بتنظيم امتحانات نهاية العام الدراسي فيها، سيؤدي إلى تفريغ ساحة الاعتصام من أقوى وأكبر شريحة فيها، وفات على العسكر أنه لا شأن لهم ولا لغيرهم على "راس الدولة" بأمور بداية ونهاية واستئناف الدراسة في أي جامعة.

 

مزار للديبلوماسيين الغربيين


ما من بلد شهد حراكا شعبيا واسعا طويل الأمد أدى إلى سقوط نظام الحكم، إلا وأصدرت سفارات الدول الغربية فيه بيانات تنصح أو تحذر مواطنيها من زيارة ذلك البلد، غير أن مقر الاعتصام الذي يرى المجلس العسكري السوداني أنه يشهد قمة الفوضى، صار مزارا يوميا لديبلوماسيي بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا ومراسلي شبكات التلفزة الأوربية والأمريكية، الذين بثوا عشرات التغريدات عن كفاءة وحسن تنظيم الاعتصام، بل إن سفيرة هولندا في الخرطوم نشرت صورة لها ولفتاة تجري عليها التفتيش الشخصي، قبل السماح لها بدخول مقر الاعتصام، واعتبرت ذلك قمة الانضباط، وإجراء يؤكد حرص الثوار على سلمية حراكهم، بينما قال المجلس العسكري إن ذلك الضرب من التفتيش انتهاك للقانون.

 

القصر بكامل بهائه ورمزيته أعطى المجلس العسكري الإحساس بالفوقية التي لا تقبل تطاول العوام.


أسفرت عمليات التفتيش التي يقوم بها الثوار على مداخل ساحة الاعتصام، عن ضبط كوادر تتبع لجهاز أمن البشير، كان بعضها يحمل السلاح الناري أو السلاح الأبيض، وتسليمهم لعناصر من الجيش، وربما شعر جنرالات المجلس بالحرج الشديد وهم يرون قوات الشرطة المناط بها ضبط الأمن "وتفتيش الأفراد" متى ما استوجبت الأوضاع ذلك، يعلنون الإضراب عن العمل ليوم كامل (شاركت في الإضراب جميع الرتب من نقيب وما دون ذلك)، ويرددون شعارات الثوار المعتصمين أمام قيادة الجيش، ويتهمون قيادتهم الضالعة في المجلس العسكري بارتكاب مخالفات جسيمة للقانون.
 
قامت قيادة الحراك الثوري، ممثلة في تحالف قوى الحرية والتغيير يوم الخميس الماضي بتسليم المجلس العسكري برنامجا كاملا عن رؤاها حول السلطات التشريعية والتنفيذية والسيادية لإخضاعها للتفاوض، فصارت الكرة بذلك في ذلك الجزء من الملعب الذي يخص المجلس، وبقي أن نرى ما إذا كانت الأيام المقبلة ستشهد حسن نية المجلس تجاه الثوار ومطالبهم، أم الاستعلاء الذي يكون ميسم كل عسكري يجلس في القصر الرئاسي.

التعليقات (0)