أفكَار

برلماني تونسي: استشهاد مرسي قيمة مضافة لرصيد المعارضة

محسن سوداني: الرئيس محمد مرسي ذهب ضحيّة الطحن الحضاري الذي لا يرحم  (الأناضول)
محسن سوداني: الرئيس محمد مرسي ذهب ضحيّة الطحن الحضاري الذي لا يرحم (الأناضول)

ما زالت وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي أثناء إحدى جلسات محاكمته، ثم دفنه بتلك الطريقة، تثير ردود فعل مصرية وعربية ودولية، ليس فقط لما واكبها من تعذيب تعرض له الرجل، وإنما أيضا لما تحمله وفاته من رمزية سياسية وحضارية، بالنظر إلى كون مرسي أول رئيس مدني منتخب في مصر، ولأنه أيضا مرشح جماعة الإخوان المسلمين، التعبير الأبرز عما يُعرف بتيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية.

ومع أن الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الحقوقية الدولية طالبت بتحقيق دولي شفاف لمعرفة أسباب وفاة الرئيس المصري الراحل، فإن ما سيطر على النخب الفكرية والسياسية في هذه القضية، ليس البعد الجنائي، وإنما الرمزية السياسية لوفاة واحد من نتاجات ثورات الربيع العربي، التي شكلت منعطفا تاريخيا في العالم العربي، وأحدثت حركية فكرية وسياسية، ما زالت رحاها تدور في أكثر من بلد عربي مشرقا ومغربا.

الدكتور محسن سوداني، باحث في الفكر الفلسفي وعضو في البرلمان التونسي، وسجين سياسي سابق، يقرأ في مقال خاص لـ"عربي21"، وفاة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، في سياق الصراع الحضاري والقيادة الغربية للعالم، ويرى أن استشهاده يأتي في سياق مخاوف غربية من مارد حضاري إسلامي يمتلك من مقومات الفعل الحضاري ما يجعله بديلا عن الثقافة الغربية المهيمنة.  

 



العرش والقبر

جاء على لسان محمد الفاتح قوله: "عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر". وقد كان له فيها عرش. والحق أنه حتى لو فشل في فتح القسطنطينية وكان له فيها قبر فإنه سيكون له عرش في معبد الشجاعة ومآثر التاريخ. الرئيس المصري الشهيد الدكتور محمد مرسي كان له في مصر عرش وقبر. أما العرش فهو حكم جمهورية مصر العربية. ويكفيه شرفا أنه كان الرئيس الوحيد المنتخب بطريقة ديمقراطية بعد تاريخ طويل، انقطع لفترة وجيزة جدّا ثم عاد، من حكم العسكر. وأما القبر فإنّه استشهاده في محاكمة ظالمة. لن يكون قبره شبيها بالقبور، بل روضة من رياض جنة المجد التاريخي. 

 

هذا الرجل جاء إلى الحكم في ظرف إقليمي ودولي عاصف. وفي سياق محيط إقليمي رسمي شديد العداوة للإسلاميين


قيل عن اللغة إنها مستودع شعوري. وقيل عنها أيضا إنهّا منجم من المعاني. غير أنّ هذا المستودع ينفدُ وذلك المنجم ينضب إزاء أحداث يكون فيها فائض المعنى دفقا لا تحاصره أسوار الكلام. تلك هي الحال في مواجهة ظروف وفاة الرئيس المصري الشرعي محمد مرسي. 

هذا الرجل جاء إلى الحكم في ظرف إقليمي ودولي عاصف. وفي سياق محيط إقليمي رسمي شديد العداوة للإسلاميين. لا معنى لاستحضار التصنيف المضلّل لجماعة الاخوان المسلمين وما يُحمَلُ عليها، حقّا وباطلا، من مآخذ في فهم السياسة والدين. فبعض تلك المآخذ وجيه، وكثير منها تافه لا يقنع عاقلا. وفي كلا الحالتين ليس هذا هو مفصل التقدير. الأمر أعمق من تلك "التحاليل" السطحية بكثير والتي يدور أغلبها على مغالطات وتضليل ليس ما يشهد له في حقّ الجماعة والرئيس الراحل بشيء. إنّه قرار دولي رافض للحضور الإسلامي، قرار روحه موقف واعي ومدروس بأنّ التهديد الحقيقي للريادة الحضارية للغرب ووكلائه في البلاد العربية، بالقصد أو بـ"العفوية"، هو المشروع الاسلامي. هذا المشروع الذي يحمل ممكنا لاستئناف قيادي يعلم الغرب قبل غيره مداه العميق والجدّي. 

الباحث المعروف والمتخصّص في التيارات الاسلامية "فرونسوا بورغا" يورد شهادة لمن سمّاه "صديقي القبطي"  تلخّص الموقف: "لقد كنت أعتقد أنّ جماعته (يقصد الرئيس مرسي) من الإخوان المسلمين سوف تحكم مصر إلى الأبد وأنه لن توجد مستقبلا أيّة حكومة منتخبة ديمقراطيّا. لقد كنت أعتقد فعلا أنه باع سيناء لحماس (أو قطر) وأنّه انتهك الدستور وأنّه كان خائنا لبلده وأنّه فقد كل شرعيّة...  غير أنّ رئاسته دامت عاما واحدا فقط. اليوم، أدركت أنّني وقعت ضحّية حركة جماعية من الاضطهاد على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن السخط المتواصل الذي أثارته الشاشة وبالغت في كلّ كلمة قالها، وقلّلت تماما من الوقائع على الأرض ومن شعبيّته الحقيقيّة. اليوم، أحزن لموته وأشعر بالمسؤولية عن الهيجان الذي أدّى إلى اختفائه. أنا آسف".

 

صفقة القرن


حجم الضغط الذي سلّطته الأطراف الإقليمية ومدى التدخّل الذي مارسته على الرئيس المصري المنتخب بدء بالدعم المالي الضخم لقوى الثورة المضادّة والحملة الاعلامية المركّزة واختلاق الازمات في الحاجيات الاساسيّة للمواطنين المصريين والتعطيل الذي عمدت إليه شخصيات وزارية في الدولة، يكشفان التصميم الإقليمي، مدعوما بموقف دولي منافق ومحرّض من وراء ستار وصامت في أحسن الأحوال، على إسقاط الرّجل. 

لا يجد الغرب مشكلا كبيرا في تذليل الصعوبات التي تعترض خياراته في المنطقة العربية وهو يواجه بعض النظم فيها. وقد أثبتت الحقائق التي تتكشّف باستمرار أنه استطاع إحداث اختراقات في مواقف الرفض العربي عبر التاريخ وتوصّل إلى إبرام تفاهمات وعقد اتفاقات وتسويات معها. وليس خافيا على أحد ما يجري التسويق له اليوم حول صفقة القرن بمعاضدة دول عربية وازنة يتقدّمها النظام المصري. العقبة الكأداء التي تستعصي على التذليل هي الرؤية الاسلامية. المشكل المستعصي على الترويض هو الاسلاميون. 

 



كلّ مشاريع القيادة السياسة والثقافية التي تولّت الأمر في البلاد العربية بعد ذهاب الاستعمار وقيام الدولة الوطنيّة لم تلق من الغرب توجّسا أصيلا يضمر لها، مبدئيّا، الاستئصال والمحو مثلما حدث مع الممكن الإسلامي. ولقد وجد الغرب دائما حلاّ مع بقية الأطروحات حتى تلك التي أبدت أوّل الأمر ممانعة وظهر منها تهديد جدّي للهيمنة الغربية. كانت جلّها مشاريع سياسية تفتقد المضمون الحضاري الذي يمثّل وقود المثابرة والتطلّع. 

الرئيس محمد مرسي ذهب ضحيّة هذا الطحن الحضاري الذي لا يرحم. وهو كذلك لأن الرهان فيه هو الاستئناف الحضاري للعرب والمسلمين. وهو كذلك أيضا لأنّ مستقرّ اكتماله هو تحرير القدس. مطلب ثقيل جدّا وعسير الهضم على العقل الغربي. 

لم يكن مجيء مرسي للحكم حدثا انتخابيا روتينيّا كما في كلّ التجارب الديمقراطية، بل كان ناقوس "خطر" مؤذنا ببداية انعطاف عميق وجديد في المنطقة. إنّه ليس تغييرا فوقيّا لرئيس برئيس، بل بداية لتحوّل جذري في المنطقة من ثقافة إلى أخرى ومن عقل إلى آخر. 

 


ليس من شكّ أنّ العرب والمسلمين ما زالوا حاليا مثقلين بما يجعلهم بعيدين عن هكذا نموذج مأمول، لكنّ مجيء مرسي هو مؤشّر على ذلك. وكان يجب القضاء على هذه الممكن حتى ولو كان مجرّد نطفة. بل إنّ كلفة القضاء عليه وهو كذلك أقلّ بكثير من انتظار تحوّله إلى مارد حضاري مهاب. آلاف المليارات تمّ ضخّها. كل أنواع المغالطة التي استعملها أحفاد سحرة فرعون ممّن لم يؤمنوا بقيم الخير والحقّ والجمال من الإعلاميين والمثقفين والفنّانين ورجال المال والأعمال تم توظيفها لهذا الغرض. حتّى التزييف السينمائي تمّ استخدامه للإيهام والتلاعب بالعقول. 

الحملة التي شنّت على الرئيس الشهيد محمد مرسي من يوم تولّيه الحكم حتى إسقاطه فاستشهاده، تكشف حجم التخريب السياسي والثقافي الذي طال عقل النخبة المتواطئة مع العسكر في مصر. كما تكشف العمى الطوعي لدى الغرب وهو يشاهد رئيسا شرعيا منتخبا ديمقراطيا يقع تحت أفظع انواع التعذيب والتنكيل ولا تبدي أيّ ردّ فعل أخلاقي. استشهاد الرئيس سيكون قيمة مضافة لرصيد الرفض الذي يتراكم لدى الشعب المصري، ولن تكون نهاية المستبدّ إلاّ من جنس أفعاله.

 

*عضو في البرلمان التونسي

التعليقات (0)