قضايا وآراء

الحركة الإسلامية وإعادة بناء الذات (1)

محمد العودات
1300x600
1300x600

هذه السلسة من المقالات ليست المحاولة الأولى المكتوبة، ولن تكون المحاولة الأخيرة ضمن المحاولات التي تسعى إلى ترشيد حالة المد الإسلامي؛ الذي تتزعمه جماعة الإخوان المسلمين في منطقة الشرق الأوسط.

هذا المد الإسلامي الذي يتنبأ له الساسة ومراكز الدراسات والنخب السياسية؛ بأنه سوف يمتد لعقود من الزمن، وأن هذا المد سيكون قادرا على الحكم مرة أخرى بعد فشله في المرة الأولى في مصر وأقطار عربية أخرى، وإن كان بأشكال مختلفة، ليكون أول حلقة من حلقات التحول في منطقة الشرق الأوسط نحو الدولة الحديثة؛ إذا ما فتح هذا التنظيم نوافذه للنور نحو التطور والإصلاح الداخلي، ليكتسب جسم الحركة المرونة التي تمكنه من القدرة على الاستمرار والتطور والبناء.

جماعة الإخوان المسلمين هي ثروة بشرية كبيرة في المنطقة العربية يجب الحفاظ عليها وتنميتها وتطويرها، وتأهيلها لتساهم من خلال قوتها التنظيمية في بناء تحول سياسي كبير في المنطقة، لتكسر حالة التخلف السياسي الذي انعكس على كل مناحي الحياة، فتردى الجانب الاقتصادي والمعرفي، وبدأت عجلة التخلف بسبب حالة الجمود والاستبداد السياسي تلتهم كل شيء، حتى أصبحت المنطقة في ذيل الأمم.

نكتب عن إصلاح جماعة الإخوان المسلمين لأنها الجسم التنظيمي الذي يمتلك الاستعداد الفطري للرشد السياسي، مقارنة بالجماعات الإسلامية والأحزاب السياسية الأخرى.. جسم تنظيمي صلب يمكن استثماره في مواجهة حالة الاستبداد السياسي الذي يعصف بالمنطقة منذ انجلاء حالة الاستعمار، ووجود حكومات مستبدة اعتمدت على سلطة القبيلة وسلطة العسكر في قهر الشعوب العربية.. أنظمة كان ولا زال إنجازها الوحيد هو تعطيل آلة الزمن لتبقي الشعوب العربية رهن حالة الجمود والتخلف التي تركها عليها الاستعمار، إن لم تكن عمقت من سوء تلك الحالة، فضاعفت من أزمة الشعوب وتراجعها عن باقي الأمم.

محاولات ترشيد الحركة الإسلامية بدأت منذ عهد البنا، مؤسس جماعة الإخوان، والذي لم تمهله يد الاستبداد طويلا، فتم اغتياله قبل استكمال مراجعاته الفكرية، والتي قال في أبرز تجلياتها: لو عاد بي الزمن لعدت إلى التربية والتعليم، وذلك تعقيبا على ما قام به الجهاز السري من أخطاء واغتيالات سياسية.

محاولات الإصلاح والترشيد استمرت بعد ذلك، من خلال تنظير الشيخ يوسف القرضاوي الذي حاول إيجاد مقاربات فقهية ما بين المنتج الفكري الغربي في العلوم السياسية وما بين التراث الإسلامي، مكملا ما قام به الشيخ محمد الغزالي الذي سماه البنا أديب الدعوة، وهو قد فارق التنظيم بعد أربع سنوات تقريبا من رحيل مرشد الجماعة ومؤسسها الأول، على أثر خلاف مع المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي.

استمرت محاولات إصلاح جماعة الإخوان بهدف التطوير وتجنيبها الأخطاء بعد ذلك من شخصيات مختلفة، من داخل التنظيم وخارجه، تزعمها المفكر الكويتي المعروف عبد الله النفيسي، والذي لم يكن جزءا من الجسم التنظيم لجماعة الإخوان، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك المفكر القطري المعروف د. جاسم سلطان، والمفكر السوداني الراحل د. حسن الترابي، والمفكر التونسي المعروف راشد الغنوشي، والمفكر اللبناني الراحل الدكتور فتحي يكن، وآخرون، إلا أن كل تلك المحاولات كانت تتكسر على صخرة الجمود التنظيمي الصلب والماكينة التنظيمية المتماسكة.

فهذا التنظيم أصبح أكثر تحلزنا وتكورا في بنائه، مما جعل إحداث أي تغيير من الصعوبة الشديدة، وخاصة في بيئة عربية تموج بالقمع والاستبداد، فأصبح الشيخ يوسف القرضاوي خارج إطار التنظيم، كما سبقه لذات المصير مبكرا الشيخ محمد الغزالي، مفارقا التنظيم، ولحق بذات المصير د. جاسم سلطان الذي حل التنظيم في دولة قطر، وكذلك لحق بهم الدكتور حسن الترابي الذي أجرى مراجعات فكرية شاملة، والذي أسس حزبا سياسيا بعيدا عن الإخوان في السودان، ولحق بهم بعد ذلك الدكتور فتحي يكن، والذي أسس حزب جبهة العمل في لبنان، مفارقا جماعة الإخوان، ولم يبق في جسم جماعة الإخوان من هؤلاء وداخل تنظيمها إلا الشيخ راشد الغنوشي؛ الذي قاوم حالة الجمود الفكري، واستطاع من منفاه في بلاد الغرب أن ينقل التنظيم التونسي إلى مرحلة الإصلاح السياسي بنسخته الجديدة من الفكر الإسلامي، وعبر منعطف حاد جدا دون حدوث حالة انشقاق داخل الجسم التنظيمي أو مغادرة التنظيم. وهي قد تكون الحالة الإسلامية الوحيدة التي نجحت بشكل لافت في قيادة ذلك التحول داخل بنية التنظيم التونسي. وقد تكون لهذا النجاح عوامل موضوعية؛ أبرزها هو ضعف التنظيم التونسي بسبب النظام الاستبدادي الذي كان يحاول التخلص من كل ما هو ديني في تونس، مما أعطى الفرصة للشيخ راشد الغنوشي لإعادة تشكيل وبناء المنظومة الفكرية للحركة الإسلامية التونسية، بعيدا عن تعقيدات وصلابة الهرم التنظيمي داخل باقي التنظيمات في باقي البلدان العربية.

منعطفات وتحولات فكرية في مسيرة الإخوان المسلمين 

أسس الراحل حسن البنا دعوته في عام 1928 كهيئة إسلامية شاملة؛ تنشط في جميع مناحي الحياة الدينية الدعوية الخيرية السياسية الرياضية... الخ، وقد عرّف دعوته بأنها هيئة شاملة تستمد فلسفتها من شمولية الإسلام وتنظيمه لكل مناحي الحياة.. دعوة كانت في البدايات تتصف بالبساطة وعدم تعقيدات الهياكل التنظيمية، مما ساعدها على الانتشار داخل الدولة المصرية، وامتدت لتنتشر في كثير من الأقطار العربية، وخاصة في بلاد الشام (سوريا والأردن وفلسطين). كان البنا يولي اهتماما كبيرا لمسالة انتشار الدعوة واستهدافها كل شرائح المجتمع وطبقاته، فانتشرت انتشارا كبيرا، مكونا بعد ذلك الانتشارِ الهياكلّ التنظيمية، فتم استحداث نظام الأسر الإخوانية ونظام الكتائب، وتم بناء الهرم التنظيمي للإخوان المسلمين، والذي لا زال معمولا به حتى وقتنا الحاضر.

بقيت أفكار هذه المرحلة وأدبياتها تسيطر على الإخوان المسلمين، إلى أن تم اغتيال مؤسس الجماعة حسن البنا، وحصلت حالة من التيه القيادي استمرت لمدة أربع سنوات، حتى جاء الراحل المستشار حسن الهضيبي مرشدا عاما للجماعة، والذي حاول أن يسير على ما سار عليه المؤسس حسن البنا، مع تجنب أخطاء التنظيم الخاص، إلا أن الصراع الذي حصل مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وما تلاه من أحداث انتهت بقمع واضطهاد وتشريد كثير من كوادر وقيادات الإخوان ومفكريها؛ كان كل ذلك يعد الجماعة إلى الانتقال إلى مرحلة فكرية أخرى، بعيدا عن فكرة المؤسس حسن البنا. إذ إن الصراع مع العسكر أوجد منعطفا كبيرا وحادا في أديبات الإخوان الفكرية تجاه كثير من المسائل، فانتشر فكر سيد قطب بعد استشهاده، والذي غير كيمياء الدين الإسلامي، كما وصفه المفكر الإسلامي الهندي أبو الحسن الندوي، وكيمياء الفكر لجماعة الإخوان، ليصبح موجة فكرية عاتية تضرب تنظيم الإخوان وتسيطر عليه لعقود من الزمان.

شمل هذا التحول في بنية الإخوان الفكرية معظم الأقطار العربية، حتى أصبح فكر سيد قطب حاضرا على موائد الإخوان الفكرية وأسرهم وكتائبهم، وكان لذلك المد القطبي أو الحقبة القطبية ما يبرره ويعززه واقعيا. إذ أن دماء المفكرين تذكي جذوة الأفكار وما تحمله من مبادئ، كما أن حالة العزلة الإخوانية داخل السجون وما لقوه من قهر وتعذيب وقتل ساهم في تعزيز أفكار سيد قطب، لتتمدد هذه الحقبة بشكل أكبر بعد عهد السادات، ويسيطر أتباع المدرسة القطبية على كل مفاصل التنظيم داخل مصر وفي بعض الأقطار العربية، حتى بداية الألفية الثالثة.

جاء موج الربيع العربي العاتي محملا بفكر جديد إلى أروقة الإخوان المغلقة، مؤذنا ببداية تآكل مد الحقبة القطبية الذي استمر يسيطر على الفكر الإخواني لأكثر من خمسة عقود. فالربيع العربي كما باغت الأنظمة العربية المستبدة بحالات احتجاج شعبي عارم، وأحدث عندها حالة من الارتباك والحيرة في ردة الفعل أدت في كثير من البلدان العربية إلى كثير من الصراعات والفوضى، فإنه أيضا ضرب جماعة الإخوان المسلمين (التي شكلت مكونل أساسيل في حركة احتجاجات الشعوب)، إلا أن هذه الموجة من الربيع الفكري التي ضربت الإخوان المسلمين إستطاعت بعض التنظيمات في الأقطار العربية استيعابها، فكان لذلك الأثر الكبير في تطور الحالة الإسلامية ونضوجها، فتم الانتقال من مرحلة الإسلام السياسي إلى مرحلة الإسلام الديمقراطي بسهولة ويسر، كما حصل في تونس والمغرب، إلا أن بعض تلك التنظيمات في أقطار أخرى رفضتها وقاومتها، فتحول الربيع الفكري إلى حالة من الفوضى والخسارة والانشقاقات التي ألحقت الأذى بالجميع، كما حصل في الأردن.

كان لسقوط نظام الدكتور محمد مرسي وانعكاس ذلك على باقي فروع الإخوان في المنطقة العربية، ولإدراج الإخوان على قوائم الإرهاب في بعض الدول العربية دور كبير في إشعال جذوة الربيع الإخواني داخليا، إذ شكلت قوة الصدمة لبعض من أبناء جماعة الإخوان لمراجعة مواقفهم تجاه كثير من القضايا، وإعادة النظر وإلقاء نظرة على صحة سلامة المسير، حتى وصلت المراجعات إلى إعادة النظر في الأهداف التي قامت من أجلها جماعة الإخوان.. مراجعات بدأت تفكر بشكل مفتوح وتطرح كيفية إصلاح المسير وتجنب الوقوع في الأخطاء والثغرات التي كشفها الربيع العربي، والتي انعكست على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وأعطت لحالة الاستبداد الفرصة لتعيد إنتاج ذاتها وتسيطر على مقاليد الحكم من جديد، لتعطل آلة الزمن وتستمر المنطقة في المعاناة من مزيد من التخلف والرجعية السياسية التي انعكست على كل مناحي الحياة.

إعادة بناء الذات لجماعة الإخوان المسلمين

إصلاح جماعة الإخوان المسلمين ومساعدتها على إعادة بناء ذاتها، وتأهيلها لتكون عامل من العوامل الايجابية للمساهمة في إعادة بناء الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، ليس بالمهمة السهلة والبسيطة، وإن كانت غير مستحيلة. الوقت الراهن من أفضل الظروف الزمانية التي تتهيأ فيها جماعة الإخوان المسلمين لإعادة بناء ذاتها، وتقييم المراحل والأطروحات الفكرية، ومراجعة الوسائل التي تستخدم وأثرها في تحقيق النتائج.

اليوم جماعة الإخوان المسلمين مدعوة لمراجعة أهدافها التي أسست من أجلها بعد مرور 90 سنة على تأسيسها، فالظرف الزماني والبيئة المحيطة لم تعد كما كانت عند تأسيسها، وخلال هذه المدة نشبت حرب عالمية ثانية، وقامت الحرب الباردة، ونهضت دول كانت فاشلة لتصبح في مصاف الدول المتقدمة، وسقطت إمبراطوريات، وظهر النفط والثورة الصناعية، وثورة المعلومات الشبكية والإنترنت التي سيطرت على كل شيء في السنوات العشر الأخيرة، وغيّرت النظرة إلى كل شيء.

قامت جماعة الإخوان المسلمين من اجل (أولا) تحرير البلاد الإسلامية من الاستعمار، و(ثانيا) إقامة الدولة الإسلامية أو استعادة الخلافة الإسلامية، و(ثالثا) مواجهة حالة التغريب التي كانت تضرب المنطقة في ذلك الوقت، قبل أن تسترد الأصولية الإسلامية المد الثقافي والسيطرة على الحالة المجتمعية. فبعض تلك الأهداف لم يعد ممكنا بحكم الواقع والضرورة، مثل استعادة الخلافة الإسلامية، وبعضها تم فهمه بطريقة خاطئة، كما مواجهة التغريب، إذ تم الخلط ما بين التغريب السياسي والتغريب الاجتماعي، فحرمت الأمة نفسها من أبدع ما أنتجه الغرب في العلوم السياسية الحديثة، من ديمقراطية وحقوق إنسان وحقوق مرأة وتداول سلمي للسلطة وفصل السلطات... الخ، وكان كل ذلك بحجة محاربة الغزو الثقافي، فأضرت الحركة بذاتها وألحقت الضرر بنفسها، فكانت كمن يقطع كفه بكفه أو يقتل نفسه نكاية بخصمه، من حيث لا تقصد.

جماعة الإخوان المسلمين اليوم مطالبة بإعادة النظر أيضا في بنائها وتكوينها ووسائلها، وخصوصا الهيكل التنظيمي الذي تم تصميمه لخدمة الأهداف التي قام التنظيم من أجلها. فاليوم على الطاولة كثير من الإشكاليات التي تحتاج إلى إعادة النظر والحوار المعمق حولها، ومن أهمها فكرة التنظيم ذاتها، من حيث الأساس والسرية في التنظيم، ومسألة خلط العمل الدعوي بالعمل السياسي، ومسألة البعد ألأممي والبعد الوطني، ومسألة التنظيم الدولي، ومسألة النضال الديني والنضال الديمقراطي، والموقف من المنتج الغربي الحضاري في العلوم الإنسانية... الخ. وهذا ما سيتم نقاشه في المقالات التالية.

التعليقات (1)
مصري جدا
الأربعاء، 03-07-2019 06:11 م
كلام جيد و متكرر ولا جديد لدي الجماعة ،، بل القديم هو السائد ،، أن الظرف غير مناسب ،،، تأجيل هذه الموضوعات لحين خروج القيادات من السجن ،،،أننا بخير حال ،، لا توجد لدينا أزمات ،، استكملنا الهياكل الإدارية والتنظيم متين متماسك ،،، كلام العالم الافتراضي لأناس يعيشون خارج عالمنا ،، او أننا لا نعيش في عالمهم ،،، المدهش كلام الدكتور محمود حسين بأننا أجرينا مراجعات لكننا لن نعلنها ،،، بفكر ان الجماعة شأن خاص لهم وحدهم ،،، سيدي الخطوة الاولى في أي تطوير شركة عاشت التعثر والاخفاق والفشل هو مجلس إدارة جديد بحجم متطلبات الواقع وطموحات المستقبل ،، غير ذلك لا حل ولا تطوير وسيرث عجلة القيادة القيادات الوسيطة التابعة للقيادات الحالية لتكون نفس الثقافة ،، ثقافة الدفاع والتبريد وترحيل كل المشكلات ،، منصة قيادة جديدة هي الخطوة الاولى ،،، قبلها ،، لا قيمة لأي كلام عن التطوير واقعهم يقول ذلك ،،،