قضايا وآراء

الاتفاق النووي مع إيران بعد السابع من يوليو

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

يوم غد الأحد الموافق الـ 7 من تموز (يوليو) تاريخ مفصلي بالنسبة لمصير الاتفاق النووي، لكونه يمثل نهاية مهلة الستين يوما، مُنحتها طهران في الثامن من أيار (مايو) الماضي، للأطراف الخمسة المتبقية في الاتفاق النووي، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا، للتعويض عن جزء من الخسائر الناتجة عن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وما تبع ذلك من عقوبات لم تستثن أي قطاع اقتصادي إيراني، إلا وطاولته، لقاء أن تواصل هي أيضا تنفيذ كامل تعهداتها النووية بموجب الاتفاق.
 
وقد طرحت إيران تحديدا مطلبين أو شرطين رئيسيين، هما شراء نفطها وتسهيل معاملاتها المالية والمصرفية على أن تتجاوب معها هذه الأطراف وخصوصا الترويكا الأوروبية وإلا ستنتقل إلى تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص تعهدات نووية، بعد أن نفذت المرحلة الأولى من هذه التقليصات خلال الستين يوما الماضية، رفعت بموجبها القيود على إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب وإنتاج المياه الثقيلة.

 

خطوات أوروبية استعراضية

على الرغم من حراك أوروبي خلال الستين يوما، احتدم كلما اقتربت المهلة من نهاياتها، إلا أن أوروبا لم تتخذ أي خطوة عملية جادة، تلبي المطالب الإيرانية، فحاولت طهران خلال الأسبوعين الأخيرين تصعيد تهديداتها من خلال التأكيد المتكرر على أنها جادة في تنفيذ قراراتها "المرحلية" القاضية بتعليق تنفيذ تعهداتها النووية، لكن قابلت أوروبا ذلك بخطوة خجولة لا تكاد تذكر، وهي تتمثل بالإعلان عن تدشين آلية "إنستكس" المالية في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، بعد تأخير طويل ومرور أشهر على تأسيسها، إلا أن الآلية بشكلها الحالي لا تغني ولا تسمن من الجوع، لكون الآلية تفتقد إلى مصادر مالية تعمل بها، في ظل عدم شمولها شراء النفط الإيراني المحظور، واقتصارها على سلع "إنسانية" غير محظورة أمريكيا، أي المواد الغذائية والزراعية والطبية، وهي أيضا محظورة لو نظرنا بإمعان وموضوعية إلى طبيعة العقوبات الأمريكية. 

 

أوروبا لم تتخذ أي خطوة عملية جادة، تلبي المطالب الإيرانية


بعد الخطوة الأوروبية "الاستعراضية" كما اعتبرتها طهران، ولتثبت هي جديتها في مواجهة المماطلات الأوروبية، كشفت في الأول من تموز (يوليو) الحالي عن أول خطوة عملية تنفيذا للمرحلة الأولى من تخفيض تعهدات نووية، تمثلت في التجاوز الفعلي لعتبة احتياطيات اليورانيوم منخفض التخصيب، وهو إجراء قبل أن يكون رد فعل على أوروبا، يكون نتيجة طبيعية إضطرارية لحظر فرضته واشنطن في الرابع من أيار (مايو) الماضي على صادرات إيران من اليورانيوم منخفض التخصيب (بنسبة التخصيب 3.67%) والمياه الثقيلة. 

وتعهدت إيران بموجب الاتفاق النووي تصدير ما يزيد عن 300 كيلوغرام، وهو السقف المسموح به لامتلاك احتياطي اليورانيوم، لكن حظر هذا التصدير من قبل الإدارة الأمريكية حال دون ذلك، ليضع إيران أمام خيارين، لا ثالث لهما، إما أن تتوقف عن إنتاج اليورانيوم نهائيا، لكي لا تتجاوز احتياطاتها منه عتبة الـ 300 كليوغرام، أو أن تواصل الإنتاج لتتخطى هذه العتبة بسبب حظر تصدير الفائض من الحد المتفق عليه في الاتفاق النووي. وفيما يتصل بالمياه الثقيلة أيضا فإن القصة نفسها جارية. أي أن تخطي طهران العتبة يعود بالدرجة الأولى إلى الحظر الأمريكي لصادراتها في المجالين. 

 

طهران تختار التحدي

عموما، أيا كانت الأسباب، فالنتيجة أن إيران اختارت التحدي في مواجهة "التسويف الأوروبي" لإنقاذ الاتفاق النووي، وتخطت حد إحتياطيات اليورانيوم، مع شنّ هجمات عنيفة على أوروبا بوصفها "الفاقدة للإرادة السياسة" و"اللاعب المنفعل"، وما شابه ذلك، لكنها في الوقت نفسه، لم تكتف بالقدر هذا من التحدي، فزادت العيار من خلال التأكيد أنها ماضية ومصممة في تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، وهي التي ستبدأ اعتبارا من الغد الأحد. 

التعهدات التي يفترض أن توقفها إيران خلال هذه المرحلة الثانية، هي الأكثر أهمية من تلك التي أوقفتها خلال الفترة الأخيرة، إذ أنها تمس صلب الاتفاق النووي، بمطاولتها مستوى تخصيب اليورانيوم وتفعيل مفاعل أراك. والأول أكثر أهمية من الثاني أيضا، حيث أن وصول القدرات النووية الإيرانية إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة كان أحد أسباب التعجيل بالتوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، لمنع مواصلة هذا التقدم، تم تخفيض النسبة المسموحة بها إلى 3.67 في المائة في الاتفاق.

 

انسحاب إيران من الاتفاق النووي، ليس في مصلحتها على ضوء التوتر المتصاعد بينها وبين الولايات المتحدة


وعلى الرغم من تهديد الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الأسبوع الماضي بأن إيران سترفع نسبة اليورانيوم حسب "رغباتها وحاجاتها" اعتبارا من السابع من الشهر الجاري من دون أن يحدد النسبة، إلا أنه يستبعد أن تمارس تصعيدا كبيرا في ذلك، من خلال الإعلان أنها سترفع النسبة إلى عشرين بالمائة مرة واحدة، بل المتوقع حسب اعتقادي أن تمارس إيران سياسة "التدرج" أو "المرحلية" في تنفيذ الدفعة الثانية لتخفيض تعهداتها النووية، بحيث تعلن أنها سترفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى نسبة معينة، وتزامنا مع ذلك، تمنح مهلة أخرى للشركاء الأوروبيين للاتفاق النووي، لتنفيذ مطالبها، قبل أن ترفعها لاحقا إلى نسب عالية. وبالإضافة إلى ذلك، قد تعلن غدا الأحد أنها أيضا ستوقف تعهدات أخرى لاحقا بعد انتهاء المهلة الجديدة المتوقعة.

 

خط الرجعة قائم


قد تبدو هذه التقليصات الإيرانية، وكأن الهدف منها هو تدمير الاتفاق النووي، لكن الأمر ليس هكذا، ولو أرادت طهران ذلك لانسحبت من الاتفاق مرة واحدة بعد خروج واشنطن منه، بل العكس هو صحيح، أي أن هذه الخطوات تستهدف إنقاذ الاتفاق النووي عبر دفع الأطراف الأوروبية إلى تنفيذ تعهداتها الاقتصادية، وهو ما يظهره الطابع المرحلي لهذه التقليصات، مع إبقاء خط الرجعة قائما من خلال التأكيد على أنها ستعود عنها اذا ما التزمت الأطراف الأوروبية لتعهداتها. 

في الحقيقة، انسحاب إيران من الاتفاق النووي، ليس في مصلحتها على ضوء التوتر المتصاعد بينها وبين الولايات المتحدة، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تشكيل اجماع دولي ضدها. كما أن ذلك أيضا ليس في مصلحة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية المنسحبة من الاتفاق قبل عام. لأنهما لاستحقاقات وانشغالات داخلية، ليستا مستعدتين للتعامل مع تداعيات انسحاب طهران من الاتفاق النووي، الذي يخرج برنامجها النووي من "رقابة أممية صارمة". فعلى ضوء انعدام بدائل أمريكية وأوروبية للتعامل مع هذا الموقف، الذي يمثل ثغرة في صناعة القرار الغربي، تسعى إيران إلى استغلالها من خلال تقليص مستمر في تعهداتها النووية، للضغط على الجانب الأوروبي بغية دفعه إلى تنفيذ تعهدات اقتصادية بموجب الاتفاق النووي.

تمارس إيران هذه السياسة الجديدة بعدما أخفقت سياسة "الصبر الاستراتيجي" على مدى 14 شهرا في تحقيق الغرض نفسه لمواجهة تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وأكثر من ذلك، أصبح الأوروبيون والأمريكيون يحملونها على محمل الضعف والعجز، وهو الأمر الذي دفع الجانب الإيراني إلى التخلي عنه تدريجيا.

 

الجميع في موقف صعب


اليوم الجميع في موقف صعب وحرج، أوروبا وأمريكا وإيران. فواشنطن وحلفائها الأوروبيون من جهة يرون أن سياساتهم أصبحت تفقدهم أداة مهمة في الرقابة على البرنامج النووي الإيراني، وهي الاتفاق النووي، وأنه لا يبقي أمامهم خيارا إلا الحرب، وهو خيار مكلف للغاية، ليسوا مستعدين لدفع أثمانها، كما أنها ليست مضمونة النتائج ومن شأنها أن تسرع وتيرة التقدم النووي الإيراني. ومن جهة أخرى، يرون أن الحفاظ على هذه الأداة يتطلب تقديم تنازلات لإيران في ما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، وهو يفقدهم أيضا أدة ضغط أخرى في التعامل مع برنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي. 

ومن جانبها أيضا، تجد إيران نفسها في ممر إجباري بفعل السياسات الأمريكية والأوروبية، قد ينتهي إلى انسحابها من الاتفاق النووي، وأن ذلك تترتب عليه تداعيات، هي بغنى عنها. 

حتى الآن، فالمؤشرات الصادرة عن أوروبا للتعامل مع المرحلة الثانية من وقف إيران تعهداتها النووية، قبل أن تبدأ، لا توحي أنه بوارد الحسابات الأوروبية إنقاذ الاتفاق النووي على الطريقة الإيرانية، فضبط بريطانيا الشريكة في الاتفاق النووي، ناقلة نفط كانت تحمل مليوني برميل من النفط الإيراني في مضيق جبل الطارق، يمثل رسالة أوروبية ضاغطة على طهران، لثنيها عن تنفيذ المرحلة الثانية، لكنها يستبعد تماما أن تتعامل هي بمقتضى فحوى هذه الرسالة.

سبق وأن أرسلت إيران شحنات نفط عبر المسار نفسه، من دون أن تعترضها بريطانيا، لكن أن تفعل ذلك قبل ثلاثة أيام من انتهاء مهلة الستين يوما الإيرانية، يعني بصريح العبارة أن الإجراء يأتي في صلب تطورات الاتفاق النووي مع إيران.

 

إيران قبلت التحدي، ومارست سياسة التصعيد التدريجي بأهداف إيجابية لإعادة الاتفاق النووي على قاعدة رابح رابح نسبيا


هكذا أوروبا استقبلت الإصرار الإيراني على المضي قدما في تقليص المزيد من التعهدات اعتبارا من يوم غد الأحد، لكن لننتظر ونرى أولا كيف ستطبق إيران التقليص الجديد لتعهداتها، فهل سيكون مرة واحدة أو بشكل متدرج كما توقعنا آنفا في المقال؟ ومن ثم كيف سيكون شكل التعامل الأوروبي مع ذلك؟
لكن من الواضح أنه في حال استمرت أوروبا في التعامل مع هذه المرحلة بنفس الشكل الذي تعاملت مع المرحلة الأولى، فستكون النتيجة تشديد خطوات إيران لوقف تعهداتها إلى أن يؤدي إلى الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي في نهاية المطاف.
 
فكون إيران قبلت التحدي، ومارست سياسة التصعيد التدريجي بأهداف إيجابية لإعادة الاتفاق النووي على قاعدة رابح رابح نسبيا، فإنها على قاعدة النسبية، ستستمر في سياسة النفس الطويل والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه مع الاستمرار في تخفيض التعهدات، وفي المقابل فإن هناك في النهاية سقف لهذا النفس الطويل، ولذلك فإن الفترة القادمة ستتسم بالتصعيد الحذر في حين أن حظوظ  الانزلاق إلى الفصال عالية والقادم جد خطير. وهو ما ينذر أن المنطقة مقبلة على تصعيد دراماتيكي غير مسبوق خلال الفترة المقبلة. 

التعليقات (0)