قضايا وآراء

الكذب العام.. حين تفقد الحقيقة مرجعيتها

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016م، أعلن قاموس أوكسفورد الذي تصدره جامعة أكسفورد منذ سنة 1928م؛ عن قائمة مفردات العام الأكثر استخداما وانتشارا واستحداثا.. فجاءت مفردة "ما بعد الحقيقة" في قمتها بوصفها كلمة العام. وعرفها القاموس بأنها "صفة متعلقة أو دالة على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في صياغة الرأي العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية أو الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها).. المتابعون يقولون إن الكاتبة البريطانية "كاترين فاينر" أول إمرأة ترأس تحرير الجارديان هي التي سوقت واسعا بعد ذلك للمصطلح، وطبعا على خلفية المحيط السياسي والثقافي الذي تعيشه.

يقولون إن الحملة المصاحبة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) كانت نموذجا للأوصاف السابقة، إذ كانت مليئة بالأكاذيب.. وكذا الحملة الانتخابية لترامب، أكبر كذاب في العصر الحديث.. الدراسات تشير إلى أن 70 في المئة مما كان يذكره ترامب في خطبه كان كذباً بواحا، كما ذكر موقع "بوليتيفاكت" الذي تأسس عام 2007م..

ويُعد ترامب الرئيس الأمريكي الأكثر كذبا والأكثر بجاحة في تاريخ الحكام في أمريكا وغيرها من البلدان، ويعتمد أقوالا تبدو جادة وتبدو صحيحة، لكنها لا أساس لها على الإطلاق. تذكروا ما قاله عن تزوير وثيقة ولادة باراك أوباما كي يخفي إسلامه!! وأنه أسس تنظيم الدولة الإسلامية.. الكذب في الماضي كان يهدف إلى رسم صورة خاطئة للعالم مثل (الشيطان الأكبر والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل..الخ)، لكن طريقة أكاذيب ترامب ومدرسته في الكذب الفاجر فاقت كل التصورات والخيالات.

الطريف في الموضوع أن حكاية "ما بعد الحقيقة" لها مؤسسات رسمية ومراكز أبحاث يديرها خبراء في الكذب وتوجيه الرأي العام.. ويقولون إن المحافظين الجدد في عهد بوش الابن برعوا في التنظير لما بعد الحقيقة، وذكروا في ذلك أسماء عدد من "مراكز التفكير".. سنكتشف لاحقا أن قصة "صناعة الفكر" التي طالما حدثنا عنها الأستاذ هيكل ما هي إلا فن صناعة الأكاذيب.. أفحش كذبة يتداولها العالم من القرن الماضي هي كذبة "أرض الميعاد"، حيث تم وضع الشرق الأوسط كله في "خلاط" هذه الأكذوبة.

كنت قد كتب كثيرا عن مقال بالغ الأهمية للمفكر الكبير ناعوم تشومسكي، "الاستراتيجيات العشر للتحكم في الشعوب"، والذي اهتم كثيرا بمسألة الإعلام وتأثيراته المرعبة على الشعوب، وإدارتها وتحريك إرادتها على ما يراد لها، لا كما تريد هي في سعيها الطبيعي نحو الحق والقوة والعدل والكرامة والحرية.

تشومسكي له في المكتبات كتاب مشهور بعنوان "هيمنة الإعلام".. معظم أفكاره امتداد لرواية الكاتب البريطاني جورج أورويل "1984" التي كتبها عام 1948م، وتنبأ فيها بدور وسائل الإعلام في التحكم والسيطرة على مشاعر الناس وتوجيهها الوجهة التي تحددها السلطة المركزية (لم تكن المابعديات اشتهرت بما يكفي)، وأوضح فيها الاستعداد المدهش لدى غالبية الناس لتصديق ما يقال لهم، مهما كانت درجة مخالفته للعقل، شرط أن يجرى ترديده بالدرجة الكافية من التكرار، وإذا ما اقترن هذا الترديد والتكرار بإثارة الشعور، أو بما يسميه أورويل "الوطنية الساذجة" التي تنطوي على التسليم بكل ما يقوله القائد واعتبار الوطن والقائد شيئا واحدا. ورأى أن الانتصار الحقيقي لأي حكم شمولي لا يتم باستئصال معارضيه جسديا أو بزجهم في السجون فقط، بل بتغيير ما يدور في رؤوسهم من أفكار وإحلال أفكار أخرى محلها.

وإذا كان الكذب الفردي/ الخاص الذي يستهدف المصالح الخاصة وتحقيق الأغراض غير الشريفة جرثومة تتحرك بين الناس، فالكذب العام الذي تتسع دوائر تأثيره من أخطر ما يمكن أن يهدم حياة الناس ويحولها إلى جحيم لا يطاق.. ومفهوم طبعا أن "الكذب العام" هنا مقصود به مجال السياسة والإعلام والفكر والثقافة، فهذه أخطر مجالات تتحرك حول الناس وعليهم.. وللأسف تتحرك بهم أيضا.

وعادة هذا النوع من الكذب يكون أنيق ومزركش، إذ إن مرتكبيه أصلا ناس شيك (محفلطين ومزفلطين على رأى احمد فؤاد نجم) ويسكنون في الأدوار العليا للمجتمع.

يقولون إن كل سياسي ما هو إلا "جوبلز" صغير، أي مثل جوزيف جوبلز وزير الإعلام والدعاية في ألمانيا/ هتلر، وأحد أبرز أفراد حكومتة.. كان ذا قدرات خطابية لا تنسى. ويعتبر أحد الأساطير الكبرى في مجال الحرب النفسية، وأحد أبرز من برعوا في استثمار وتوظيف الإعلام في هذه الحرب، ومؤسس فن "الدعاية السياسية الغامضة"، فقد استطاع أن يروج للفكرة النازية بقوة هائلة ويؤثر في دماغ عشرات الملايين من الألمان.

ورغم العداء الغربي للفكرة النازية، إلا أن جوبلز يعتبر مؤسس مدرسة إعلامية لا زالت قائمة وفاعلة في قلب السلطة السياسية النافذة في أغلب بلدان العالم.

الكذاب لا مروءة له ولا كرامة. يقول الباحثون إن التحذير من العاقبة الوخيمة للكذب ورد في القرآن 280 مرة، في حين ورد الصدق وتكريمه 153 مرة، اسما وفعلا (الصدق/ يصدق). ومشهور جدا حديث الرسول الكريم عن استحالة أن يكون المؤمن كذابا، رغم أنه من الممكن أن تكون له صفات أخرى ليست جميلة كالبخل والخوف مثلا. والآية الأخيرة في صورة المائدة تقطع بأن يوم القيامة لا ينفع فيه شيئا إلا الصدق (قَالَ اللَّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ..). وحين تخالط ثقافتك وفكرك ثقافة وفكر الإسلام، ستجد أن مفهوم الصدق فيه مفهوم مركزي وأساسي وجوهري، وأن مفهوم الكذب فيه مفهوم سحيق ونهائي ولا كلام بعده.

لقد أصبحت السياسة الآن شيئا معقدا ومركبا ومليئا بالتلاعبات والمؤامرات والأكاذيب (أو ما بعد الحقيقة)، زادتها تعقيدا وتركيبا وتلعيبا وتأمرا.

لقد فقدت الحقيقة مرجعيتها.. وغرقت في بحار الكذب والتضليل.
التعليقات (0)