أفكَار

المغرب.. جدل فكري وسياسي حول الحريات الفردية وحقوق المرأة

المغرب.. اعتقال الإعلامية هاجر الريسوني يعيد سؤال الحريات الفردية إلى الواجهة (الأناضول)
المغرب.. اعتقال الإعلامية هاجر الريسوني يعيد سؤال الحريات الفردية إلى الواجهة (الأناضول)

فجر اعتقال السلطات الأمنية في المغرب للصحفية هاجر الريسوني من جديد الجدل حول العديد من القضايا الفكرية والدينية والقانونية والحقوقية، وهي قضايا عرفت توترا بين مكونات المجتمع ونخبه من جهة، وبين المجتمع الحقوقي والسلطة من جهة ثانية.

وتعرف الساحة المغربية منذ انطلاق ما يُعرف بـ "التناوب"، أو التداول على السلطة الذي انطلق في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ووصول المعارضة اليسارية إلى الحكم، جدلا فكريا وسياسيا يشتد حينا ويهدأ حينا آخر وفق التطورات السياسية على الأرض.

ومع تراجع دور اليسار بعد تجربته السياسية في الحكم والانقسامات التي تعرض لها، ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، برز دور الإسلام السياسي كواحد من أهم الفاعلين السياسيين في المغرب، حيث تصدر الإسلاميون نتائج أول انتخابات أجريت بعد الربيع العربي، كما تصدروا الثانية، ونجحوا في ترؤسهم لدورة حكومية أولى ويقتربون من إنهاء الدور الثانية، ولم تفلح المعارك الفكرية ولا السياسية التي أثيرت على الهامش من أن تنهي رئاستهم للحكومة، ولا تصدرهم للكتل النيابية في البرلمان والبلديات..

لكن الوجه السياسي الشكلي لقيادة الإسلاميين للحكومة لا يوازيه نجاح مماثل في الإعلام والقوانين والجدل الفكري، الذي يسجل مراقبون أنه شهد تراجعات في عهد قيادة الإسلاميين للحكومة، وآخرها قصة اعتقال الإعلامية في صحيفة "أخبار اليوم" هاجر الريسوني.

 



الكاتب والإعلامي المغربي، بلال التليدي، يرصد في تقرير خاص لـ"عربي21"، طبيعة الجدل الفكري والحقوقي والقانوني والسياسي، الذي أثاره اعتقال هاجر الريسوني. 

جدل قانوني

ثار الجدل في ملف اعتقال الإعلامية هاجر الريسوني أولا حول تكييف النيابة العامة للمبررات القانونية للاعتقال، فالنيابة العامة حسب بلاغ رسمي للوكيل العام، أرادت نفي الصفة الانتقامية لهذا الاعتقال، من خلال التأكيد على أن الفعل الذي لأجله اعتقلت هاجر الريسوني وخطيبها وطبيبها ومساعده وكاتبته، لا علاقة له بمهنة الصحافة، وأن الأمر يتعلق بأفعال تعتبر في نظر القانون الجنائي جرائم، مكيفة النازلة بكونها ممارسة للإجهاض بشكل اعتيادي، وقبول الإجهاض من طرف الغير، والمشاركة في ذلك، والفساد طبقا للفصول 444 و450 و454 و490 و129 من القانون الجنائي.  

 

ثارت إشكالات مرتبطة بسلوك السلطة، ومدى تجاوزها لحدود القانون، وذلك بالاعتقال خارج أي مبرر قانوني، ثم البحث بعد ذلك عن أدلة الاتهام، بما في ذلك تكييف جريمة الفساد من غير تلبس، وتكييف جريمة الإجهاض من غير اعتراف.


دفاع الصحفية، استنكر هذا التكييف، واعتبر أن هذا ملف سياسي، ترغب من خلاله السلطات أن تعاقبها على مقالاتها عن حراك الريف، وفيه تهديد لعمّها سليمان الريسوني، وهو مناضل يدافع عن حقوق الإنسان، وصحافي في جريدة "أخبار اليوم" التي حكم على مديرها بالسجن في قضية معروفة، معتبرا أن هذا الاتهام يفتقد للمستندات القانونية، بحكم أن الصحفية هاجر الريسوني، لم تدل بأي تصريحات تفيد اعترافها بالقيام بالإجهاض كما ينص القانون، ولم تضبط في حالة تلبس، بل إن اعتقالها، كان في الشارع، ولم يكن في عيادة الطبيب، وأن الطبيب لم يكن موجودا في العيادة لحظة الاعتقال، وأن رجال الأمن طلبوا من الكاتبة أن تنادي للطبيب للعودة لعيادته قصد اعتقاله. كما استغرب دفاع الصحفية أن تباشر الشرطة القضائية مهمة التماس الخبرة، وتكره الصحفية هاجر الريسوني على القيام بتحليلات خارج صلاحياتها القانونية.

 



من جهة التكييف القانوني، ثارت إشكالات مرتبطة بسلوك السلطة، ومدى تجاوزها لحدود القانون، وذلك بالاعتقال خارج أي مبرر قانوني، ثم البحث بعد ذلك عن أدلة الاتهام، بما في ذلك تكييف جريمة الفساد من غير تلبس، وتكييف جريمة الإجهاض من غير اعتراف. 

غير أن هذا الجدل القانوني، الذي غالبا ما يثار في الملفات ذات الطبيعة السياسية، لم يكن وحده هو المميز لهذا الملف، بل ثار جدل من نوع آخر، استعاد صورة من النضال الحقوقي الذي انخرطت فيه عدد من فعاليات المجتمع المدني، سواء من الذين يدافعون عن رفع التجريم عن الإجهاض من مقتضيات القانون الجنائي، أو الذين يدافعون عن رفع جريمة العلاقات الجنسية الرضائية خارج مؤسسة الزواج، متذرعين بحرية المرأة في جسدها.  

كما ثار نقاش آخر، فجره هذه المرة الجسم الإعلامي، ارتبط بمناهضة التشهير الذي تمارسه بعض المواقع التي تنوب عن السلطة في تشويه المعارضين وأصحاب الآراء الخاصة، وتجعل من حياتهم الخاصة مادة للتشهير، وتشويه السمعة، وخلق واقع الوصم الاجتماعي اتجاه الصحفيين المستقلين.
 
قانونيون يضعون النيابة العامة في دائرة الحرج

في مقال نشره في جريدة "أخبار اليوم"، فجر المحامي والخبير القانوني محمد الشمسي عددا من الأسئلة المحرجة اتجاه شكل تعاطي السلطة مع هذا الملف، محاولا مساءلة سلوكات الشرطة القضائية والنيابة العامة في ضوء مقتضيات القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، فطرح التساؤل عن سبب وجود رجال الأمن بباب عيادة الطبيب؟ هل كانوا يراقبون العيادة الطبية لورود معلومات حول ما يجري فيها من أعمال مشبوهة؟ أم كانوا يرصدون الصحافية وخطيبها؟ كما تساءل عن إجراء الصحفية الإجهاض المزعوم داخل العيادة الطبية فعلا؟ وهل تملك الشرطة القضائية المحجوز(بقايا الجنين أو بقايا الدماء التي تفيد وجود الجنين أو قطعا منه) إذا ثبت حصول هذا الإجهاض، ولماذا لم تتم بمداهمة العيادة الطبية واعتقال المتهمين في حالة تلبس حتى تكون الجريمة ثابتة؟ وكيف ترك رجال الأمن الطبيب يغادر عيادته، ثم يطلبون من كاتبته الاتصال به للعودة فورا؟ ولماذا لم يتم اعتقاله فور خروجه من العيادة؟ كما فجر أسئلة قانونية جد محرجة بخصوص زعم النيابة العامة باعتراف الصحفية. 

 

المشكلة لا تخص واقعة بعينها، بقدر ما ترتبط بمعضلة علاقة السلطة بالقانون، والإمكانات التأويلية التي تعطيه السلطة للقانون


السيد سعد السهلي، محامي الصحفية هاجر الريسوني، وضع هو الآخر سلوك النيابة العامة في تكييف جريمة الإجهاض بمستند ورود تصريح الصحفية لفائدة الطبيب في دائرة الحرج، إذ صرح بأن الصحفية لم تعترف في محاضر الشرطة أنها خضعت لإجهاض، واعتبر أن ما جاء في محضر الشرطة أقوال جهة أخرى وليس أقوال هاجر، معتبرا أن الطبيب مهمته التطبيب، وليس تلقي التصريحات، وأن هذا السلوك من قبل النيابة العامة يعتبر بمثابة محاولة صناعة أدلة إدانة. وأن الطبيب مهمته القيام بالفحوصات وتقديم العلاج الطبي المحدد بقانون مهنة الأطباء، وهو القانون الذي لا يجعل من ضمن اختصاصات الطبيب تلقي التصريحات.

والذي تتبع التصريحات التي وردت عن محامين ومتخصصين في القانون بشأن سلوك الشرطة القضائية وتكييف النيابة العامة للنازلة، ويستقرئ حججها، يخلص إلى أن المشكلة لا تخص واقعة بعينها، بقدر ما ترتبط بمعضلة علاقة السلطة بالقانون، والإمكانات التأويلية التي تعطيه السلطة للقانون، في الحالة التي يكون فيها القصد مواجهة معارضين أو صحفيين مستقلين، إذ تظهر المفارقة بشكل كبير، بين سلوكها التأويلي المقاصدي للقانون في الحالات العامة، وسلوكها التأويلي المتهك لروح القانون في حال تعلق الأمر بمزعجين للسلطة. 

وقد انتبه المحامي محمد الشمسي لهذه المفارقة، عند مقارنته سلوك السلطة في تأويل القانون في حالة العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، مستشهدا بالاجتهاد القضائي الذي سارت عليه محاكم المغرب منذ أكثر من عشر سنوات منصرمة في التعامل مع هذه النازلة، إذ "كان يتقدم أمام محكمة الأسرة بكل محاكم المملكة عدد من الرجال رفقة عدد من النساء يسلكون مسطرة ثبوت الزوجية، ويعترفون أمام هيئة المحكمة وبحضور النيابة العامة أنهما مخطوبان، وأن ظروفا طارئة حالت دون توثيق زواجهما، وأن علاقتهما أسفرت عن حمل المرأة أو إنجابها لطفل أو اثنين أو ثلاثة، فلا تتم متابعتهما بجنحة إقامة علاقة غير شرعية رغم أن إقرارهما يكون في مجلس القضاء وبحضور النيابة العامة، بل تسعى المحكمة إلى تثبيت زواجهما بحكم قضائي وإضفاء الشرعية على علاقتهما الخارجة عن مسار الزواج الرسمي"، في حين يتم التعامل مع المعارضين بشكل مختلف، كما حصل في حالة القيادي السابق في حركة التوحيد والإصلاح السيد عمر بن حماد، وفي التكييف القانوني لجنحة الفساد في حالة هاجر الريسوني، التي فضلا عن عدم وجود ما يثبتها، فإن الإعلان عن زواجهما المرتقب في منتصف أيلول (سبتمبر) الجاري، ووجود وثائق الزواج بالسفارة السودانية (بحكم أن خطيبها سوداني) والإعلان المسبق عن خطبتهما وأنهما كانا فقط ينتظران تسريع الإجراءات الإدارية التي تتأخر في حالة الزواج من أجنبي، كل ذلك كان يتطلب من النيابة العامة أن تستصحب الجاري به العمل في المحاكم المغربية، وأن تتعامل بنفس المنطق الذي تتعامل به في الحالات العامة.

حقوقيون ينتفضون لحماية الحياة الخاصة والحريات الفردية 

المجتمع الحقوقي بدروه لم يتخلف عن المعركة، واستثمر الفرصة لإعادة الجدل مرة ثانية حول الحريات الخاصة، فقد اعتبر بيان موقع من عدد من الفعاليات الحقوقية النسائية أن الخروقات القانونية والحقوقية التي تقوم بها السلطة، كما في حالة اعتقال هاجر الريسوني، يضرب المطالب الحقوقية للحركة النسائية، ويثبت الحريات الفردية، ومنها على وجه الخصوص، حق النساء في تملك أجسادهن وحرية التصرف فيها، بما في ذلك حقها في الإجهاض، والعلاقات الجنسية الرضائية، أصبحت معركة الجميع كيفما كانت الانتماءات الفكرية والأيديولوجية. 

الناشطة الحقوقية في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، خديجة الرياضي، عبرت عن مناهضتها لتدخل السلطة في الحريات الفردية للناس، معتبرة أن الحياة الجنسية للمواطنين ليست مسؤولية الدولة والأجهزة الأمنية، وأن إلصاق هذه التهمة بهاجر الريسوني هو محاولة لتشويهها من خلال حشرها في زاوية أخلاقية فاسدة لصرف الناس عن التضامن معها.

 



من جهتها اعتبرت الحقوقية في الشبكة الوطنية لحقوق الإنسان، فاطمة الزهراء كريم، أن اعتقال هاجر فيه ضرب للحريات الفردية في البلاد واستهداف لحرية الصحافة ..

أما العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، فقد اتجهت مقاربتها للجواب عن التكييف القانوني للنيابة العامة، مستغربة إخضاع هاجر الريسوني لخبرة طبية بشكل قسري، رغما عنها ودون أخذ موافقتها، معتبرة هذا السلوك متنافيا مع مضمون المادة 194 من قانون المسطرة الجنائية، التي تخص هيئات التحقيق والحكم، حصرا، بصلاحية الأمر بإجراء خبرة كلما تطلب الوضع ذلكّ، مؤكدة في بلاغ لها وجود تجاوز للصلاحيات المخولة لضباط الشرطة القضائية بمقتضى المادة 57 من نفس القانون، والتي تحصر إمكانية الاستعانة بالخبرات على البصمات وعلى أدوات الجريمة والأشياء المحجوزة، محذرة من توظيف القضاء في تصفية الحسابات مع المعارضين والأقلام المزعجة، وقالت، إن "من شأن ذلك تعميق الهوة بين الواقع المغربي والمجتمع الديمقراطي المنشود".

أما الناشط الحقوقي، والخبير الدولي في حقوق الإنسان، عزيز إدمين، فقد اعتبر أن اعتقال الصحفية هو اعتقال انتقامي مجرد من كل الضوابط القانونية، وأنه يمس أيضا حقوق المرأة وحقوق الصحافة، وأنه يمثل انتهاكا مزدوجا، مستغربا أن تنشغل الدولة في سنة 2019 بالعلاقات الجنسية للراشدين.

الناشطة الحقوقية، الأستاذة الجامعية، لطيفة البوحسيني، اعتبرت في تدوينة على حسابها في الفايسبوك، أن إعلان التضامن لم يعد كافيا، بل أصبح تنظيم وتأطير هذا التضامن والانتقال به إلى إدانة جماعية أمرا ملحا، وأن قضية هاجر الريسوني لا تعني الحركة النسائية فقط. هي تهم المدافعين عن دولة الحق والقانون وتهم كل من له غيرة على سمعة الوطن واستقراره. 

الكاتب والعالم الانثروبولوجي، عبد الله حمودي، بدوره أدلى بموقفه في هذه القضية، واعتبر أن مسطرة اعتقال الصحفية هاجر الريسوني، استهدفت عمق الحرية الفردية وحرية التصرف المسؤول في بلادنا.

والحقيقة أن هذا الزخم الحقوقي المتضامن مع هاجر الريسوني، بقدر ما ركز اهتمامه على الخروقات القانونية التي ارتكبتها السلطة، وبقدر ما حاول نقد خلفيته الانتقامية من المعارضين أو المستقلين من الأقلام الحرة ومن جريدة "أخبار اليوم" التي يملكها الصحفي توفيق بوعشرين، وتعمل بها هاجر الريسوني، بقدر ما حاول أن يستدعي معركة قديمة، تتعلق بإلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج الزواج، وأيضا إلغاء تجريم الإجهاض، والإقرار بحرية المرأة في التصرف بجسدها ومناهضة التشهير، بل المثير في الموقف، أن هذا الحراك الحقوقي، حاول بناء لغة جديدة، تسعى لإقناع المختلفين بضرورة بناء تحالف جماعي، يضم كل التيارات والحساسيات الإيديولوجية في المغرب، حتى يتم كسب هذه المعركة.

الإسلاميون في خضم الجدل الحقوقي
 
الإسلاميون، وجدوا أنفسهم أمام معضلة تمس بعض أطرهم الفكرية، فقد كانوا إلى عهد قريب يرفضون بقوة أن يتم تغيير القانون الجنائي، ويتم إلغاء تجريم الإجهاض والعلاقات الجنسية الرضائية خارج مؤسسة الزواج. فالدكتور أحمد الريسوني الفقيه المقاصدي، والرئيس الأسبق لحركة التوحيد والإصلاح، عم الصحفية هاجر الريسوني، كان صارما في رفضه لإلغاء عقوبة الإجهاض معتبرا أن المطالبين بتقنين الإجهاض يركزون في مطالبهم وفلسفتهم على حرية استعمال الجسد، وعلى الحق في ممارسة النشاط الجنسي الحر، وأنهم يسعون إلى تحرير الفروج وتعطيل الأرحام، بينما الإسلاميون يسعون إلى تحصين الفروج وتشغيل الأرحام.

 


 
لكن بعض قياداتهم لم تتخذ لغة الصمت في هذا الموضوع، بل اتجهت لنقد سلوك السلطة، بدل السقوط في فخ مناهضة أطرهم الفكرية الخاصة بموضوع الحريات الفردية، معتبرين أن المشكلة هي في سلوك السلطة، وليس في موقفهم الفكري.

الأستاذ عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق للعدالة والتنمية كان سباقا لإعلان تضامنه مع هاجر الريسوني، إذ اعتبر أنه ما دامت الخبرة الطبية أثبتت عدم خضوعها للإجهاض، فأنه سيكون أول الحاضرين في زفافها، وهو الموقف الذي فهم منه، انتقاد بنكيران لسوك السلطة وتعسفا في تأويل القانون لاستهداف صحفية مستقلة.

 



أما الدكتور أحمد الريسوني، فقد كان موقفه ذكيا، حين جمع فيه بين تقديم معطيات تفيد أن الصحفية هاجر الريسوني، في وضع خطبة متوافق عليها بين الأسرتين، ومعلن عنها، وأن العرس قد تم الإعلان عن موعده، وتلقى دعوة للحضور يوم العيد، وأن ما أخره إجراءات إدارية تخص وضع الزوج الأجنبي، وأن الأمر القضية في جوهرها سياسي، وأنه نفسه قد تعرض للاعتقال أسبوعين قبل زواجه سنة 1976. ذكاء الريسوني، وربما خبرته في وزارة العدل، جعلته يقدم هذه المعطيات، التي تقدم كل القرائن التي تبطل العقوبة، إذ تعمل المحاكم بمجرد الادعاء بالخطبة لإقرار ثبوت الزوجية، فما بالك بكل القرائن الدامغة التي تخص وضع هاجر الريسوني.

جماعة العدل والإحسان، التي لا تعنى مطلقا في الدخول في حيثيات الخلاف الفكري في الموضوع، وتهتم فقط بالجانب المرتبط بسلوك السلطة، فقد اعتبر القيادي حسن بناجح في تدوينة له على حسابه في الفايسبوك أن التهمة الموجهة إلى هاجر الريسوني ملفقة، وأن الخبرة الطبية التي تنفي وجود إجهاض كافية، معتبرا اعتقالها عبارة عن احتجاز واختطاف خارج القانون.

الخلفيات الفكرية للجدل الحقوقي حول الحريات الفردية في المغرب

والحقيقة أن هذا الجدل، وإن كان موضوعه الرئيس مرتبطا بعلاقة السلطة بالقانون، والحدود التي تم تعطيلها لتأويله وما إذا كان التأويل مقاصديا يخدم مصالح الشعب والوطن أو كان سلطويا يراد به خدمة بعض مصالح في السلطة، إلا أن له خلفيات فكرية، تستمد شرعيتها من خلاف مجتمعي حول الحريات الفردية.

وإذا كان بعض الحقوقيين، يبسطون الموضوع، ويعتبرون أن المخرج أن ترفع السلطة يدها من ملف الحريات الفردية، وتترك حياة الناس الخاصة بعيدا عن اعتبارات الانتقام السياسي، محتجين في ذلك بكون السلطة  لا ترى الفساد والعلاقات الجنسية خارج الزواج إلا عند النخب المستقلة في الرأي، مع أن عينها ترقب كل شيء، وتعرف خارطة الفساد تضاريسها، إلا أن هذا في الحقيقة لا يشكل إلا وجها واحدا في المشكلة، وأن ثمة تيار مجتمعي عريض، لا يمثله فقط الإسلاميون، بل يمتد في محافظة الشعب المغربي، يرى أن إلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج الزواج، وإلغاء تجريم الإجهاض، يسم منظومة القيم، ويضرب تماسك المجتمع، ويخلق توترا عميقا بين الأجيال داخل المجتمع، فضلا عن كونه يقوض شرعية الدستور والحكم، ويستهدف الشرعية الدينية للدولة.

القضية تتعلق في جوهرها، بمرجعيتين دستوريتين، الأولى تسند إلى إسلامية الدولة، وذلك ما يترجمه قول الملك محمد السادس في البرلمان بأن صفته الدينية كأمير للمؤمنين تمنع عليه أن يحرم حلالا أو يحلل حراما، والثانية، حقوقية تستمد منطقها من المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان، التي تقرر الحريات الفردية، وضمن مشمولها الحرية في الجسد والتصرف فيه.

تركيب الخلاف في عمقه الفكري والدستوري، أن ثمة مرجعيتان فكريتان ودستوريتان، تحتاجان لتدبير تمايزهما، مرجعية إمارة المؤمنين، ومرجعية حقوق الإنسان، وأن سلوك السلطة لا يمكن أن ينتقد فقط من جهة إضرارها ومسها بمرجعية حقوق الإنسان ووضعيتها الراهنة، وإنما أيضا بشكل تعاطيها مع مقتضيات نظام إمارة المؤمنين المقرر دستوريا.

تبسيط الأمور لن يحل المشكلة، بل يوترها، وينتهي بأحد الطرفين إلى إلغاء الآخر، فالذين يتبنون مرجعية حقوق الإنسان، يأتون بهذه الواقعة وتلك، ليستشهدوا بها على ضرورة رفع التجريم على العلاقات الجنسية خارج الزواج وترك الحريات الفردية مرسلة من غير قيد أو شرط إلا ما كان من شرط الرشد وتواطؤ الطرفين، والذين يتمسكون بمقتضيات المرجعية الإسلامية، يرون في مطلب هؤلاء، فتحا لباب يصعب غلقه، ومس بمنظومة قيم، وخلق توتر خطير بين الأجيال وتفكيك للأسرة، والحقيقة أن وجهتي النظر معا، تمتلكان وجاهة خاصة بالنظر إلى السياق المجتمعي وتدخل السلطة فيه، سواء الذين يطالبون بنزع يد السلطة عن هذا الملف، أو الذين يتخوفون من تأسيس قانوني طوعي ينتهي إلى تغيير منظومة قيم بأشملها، وضرب تماسك المجتمع في العمق.

والحقيقة، أن الأحداث والوقائع التي تجري، تثبت للطرفين معا انزياح السلطة في تنزيل المقتضيات القانونية الخاصة بترتيب العقوبة على الفساد أو العلاقات الجنسية خارج الزواج، ولم يحدث أن حصل الإجماع بين الطرفين حول هذا التقييم بهذا الشكل الذي رأيناه في واقعة اعتقال هاجر الريسوني، مما يستدعي بناء إجماع آخر، ينقل إجماع التضامن إلى إجماع بين طرفي الصراع، لتدبير تمايز مقتضيات المرجعية الإسلامية مع مقتضيات مرجعية حقوق الإنسان لا سيما في مجال الحياة الخاصة، بنحو ينزع يد السلطة من تكييف هذا الملف وتوظيفه ضد أصحاب الرأي الحر، لاسيما وأن استقراء سلوكات السلطة في التعاطي مع مثل هذه القضية، يظهر أن المهنية قد تؤثر فيها اعتبارات السياسة وتصفية الحسابات، فضلا عن أن السلطة تملك إمكانات ضخمة لا يتوفر عليها الفرد، تستطيع أن تضغط على أشخاص وجهات لتكيف الملفات وتعمل تأويلها السلطوي للقانون، بعيدا عن روحه ومقاصده.

التعليقات (0)