قضايا وآراء

مستقبل الإسلام السياسي.. أو مستقبل الديمقراطية في تونس

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600

1- مقدمة في المبدأ

شهدت تونس في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حدثا انتخابيا هاما، ستترتب عن نتائجه ملامح تونس القادمة.. انتخابات برلمانية لاختيار 217 عضوا يمثلون الشعب التونسي لخمسة أعوام قادمة.

يتوزع التونسيون بين أكثر من 200 حزب ومئات القوائم المستقلة، ولكن التنافس الأشد سيكون بين مدافعين عن المسار الديمقراطي وأشواق الثورة، وبين مشدودين إلى النظام القديم يريدون استعادة "مجد" ضاع من يوم هرب رئيس المنظومة القديمة ذات 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

"المعركة" الانتخابية تُخاضُ بمزاح متوتر؛ نظرا لما سيترتب عن نتائجها من تداعيات لا يراها كل طرف جيدة إن لم تكن لصالحه.

وبقطع النظر عما سيبوح به صندوق الاقتراع، فإن على النخب الفكرية والثقافية والحقوقية والإعلامية أن تمارس دورها في حماية المسار الديمقراطي، وفي كشف زيف الحداثويين إذ يرفعون شعارات المدنية والحداثة والديمقراطية؛ ثم يمارسون الإقصاء ويدعون إلى استئصال منافسيهم من شركائهم في الوطن.

 

على النخب الفكرية والثقافية والحقوقية والإعلامية أن تمارس دورها في حماية المسار الديمقراطي، وفي كشف زيف الحداثويين إذ يرفعون شعارات المدنية والحداثة والديمقراطية؛ ثم يمارسون الإقصاء ويدعون إلى استئصال منافسيهم

2- تعدد التجارب وأوهام الاستئصاليين

خصوم حركة النهضة الأيديولوجيين لا يخوضون الانتخابات بما هي آلية لممارسة الديمقراطية، وإنما يخوضونها بما هي "سلاح" لإخراج حركة النهضة من الحكم، بل ولإخراجها من المشهد السياسي تماما.

بعد حادثة الانقلاب العسكري على الرئيس المصري المنتخب، سارع بعضٌ من النخبة السياسية إلى رفع شعار "نهاية الإسلام السياسي"، ولم يرفعوا عقيرتهم للتنبيه إلى "نهاية الديمقراطية" بعد تدخل العسكر في الشأن السياسي وفي السطو على إرادة الأغلبية.. النخبة تلك قرأت الحادثة وِفق أمانيها، وليس وفق مآلات الأحداث.

هل يمكن جمع تجارب الإسلام السياسي في تجربة واحدة معرفة بالألف واللام فنقول "الإسلام السياسي"؟ ألسنا نقول دائما بأن النصوص التأسيسية في الإسلام إنما هي حقل دلالي حمّال أوجه تتعدد قراءاته بحسب الظروف والأمكنة والأزمنة، بل وبحسب العقول والطبائع المختلفة؟

الذين يبشرون بنهاية الإسلام السياسي يعرفون جيدا أن الإسلام ليس بضاعة استهلاكية يمكن أن تنتهي صلاحيتها في مدة معينة، ويعرفون أنه ليس ماكينة يمكن أن تتفكك وتتعطب لفرط أو لسوء الاستعمال.. الإسلام ليس ملك فئة أو حزب أو جيل، ولكنه خطاب الله المُشاع بين الناس جميعا؛ لا يدعي أحد احتكاره ولا يقدر أحد على شطبه.. الإسلام هو السؤال المُخبّأُ في الفطرة الإنسانية، وهو القبسُ الذي لا ينطفئ بمجرد خيبة سياسية أو تفكك حزبي.. تلك النخبة تدرك هذه الحقيقة، ولكنها تقول ما تتمنى، وكثيرا ما تمنع الغرائزُ السياسيةُ العقل من أن يشتغل اشتغالا سليما.

 

الذين يبشرون بنهاية الإسلام السياسي يعرفون جيدا أن الإسلام ليس بضاعة استهلاكية يمكن أن تنتهي صلاحيتها في مدة معينة، ويعرفون أنه ليس ماكينة يمكن أن تتفكك وتتعطب لفرط أو لسوء الاستعمال

3- الحداثويون والزيف الديمقراطي

وفي الحالة المصرية، كان يُنتظر من أنصار الديمقراطية ومن الحقوقيين ومن النخب الفكرية والسياسية أن تُدين حادثة الانقلاب، وأن تُدافع عن مدنية الدولة، وأن تُنبّه إلى خطورة ما سينجر عن تدخل العسكر في التنافس السياسي من تهديد للديمقراطية؛ كمبدأ وكمسار وكملاذٍ للجماهير من الاستبداد وقد عانت منه طويلا.

القول بأن الإخوان لم يحققوا انتظارات "الثورة" وبأنهم لم يكونوا فعالين بالقدر الكافي سياسيا واجتماعيا وثقافيا؛ لا يُبرّر إسقاط الشرعية وإجهاض التجربة الديمقراطية.. نعم الإخوان لم تكن لهم دُربةٌ على الحكم ولا دُربة على المكر السياسي، ولم يكن منسوب "الثورة" يسمح لهم بممارسة "الحسم الثوري" (وهذا ينطبق أيضا على الحالة التونسية)، ولكن لا يمكن تفسير مظاهر الفشل تلك فقط بقصورهم هم، وإنما يجب الانتباه إلى ما تعرضت لها التجربة الديمقراطية تلك من هجمات فكرية وإعلامية وسياسية بهدف إرباكها وإفشالها ثم إسقاطها..

لقد تعرض الفعل السياسي إلى كل أشكال الإهانة والسخرية والتتفيه والتسخيف؛ إلى الحد الذي جعل العامة تعاف السياسة والسياسيين، وتكره "الحرية" التي أنتجت الفوضى ولم تنتج التحابب والتضامن والتناصح.. وهكذا أصبحت الظروف مهيأة لتدخل العسكر بعد تعبئة "الجماهير" في مشهدية استعراضية لا يمكن أن تتكرر لأنها ليست نضالية مبدئية.. كانت تعبئة بتمويل خارجي وداخلي.

الانقلاب على رئيس منتخب والقبول بذاك الانقلاب والدفاع عنه إنما هو سقوط أخلاقي لا مثيل له، ولم يكن مدخلا للديمقراطية ولا للإصلاح، وإنما قد فتح الباب للفوضى وللفساد والجريمة.. حين تنقلب الحقائق، ويصبح الانقلابيون ثوريين، ويُصبح المرتزقة جمهورا، ويُصبح ضحايا الاستبداد لعقود يُنعتون بكونهم فاسدين و"مخلوعين"؛ فتلك مقدمات خراب العمران.

 

الانقلاب على رئيس منتخب والقبول بذاك الانقلاب والدفاع عنه إنما هو سقوط أخلاقي لا مثيل له، ولم يكن مدخلا للديمقراطية ولا للإصلاح، وإنما قد فتح الباب للفوضى وللفساد والجريمة

4- الإسلاميون بين ضيق الصدور ورحابة المستقبل

الذين سارعوا في تونس إلى تصريف الانقلاب في مصر تصريفا أيديولوجيا وبشروا بنهاية الإسلام السياسي؛ إنما كانوا يُمهدون الطريق ويهيئون الناس لمحاولة نقل المشهد إلى هنا.

هنا لا يدعي أحد بأن الحكومات المتعاقبة قد نجحت في تحقيق انتظارات الناس، ولا أحد يقدر على طمس الإخلالات والعثرات (سواء لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية وعراقيل خارجية)، ولكن أيضا لا أحد يُنكر حجم التركة التي أسست عليها هذه الحكومة تجربتها، أيضا حجم الضربات التي تلقتها في أكثر من موضع وفي أكثر من مناسبة.. والسؤال هنا قد لا يكون عن حجم فشلها، بل عن مستوى صمودها وربما أيضا عن رحابة صدرها (حَدّ التميع)، بحيث تجاوزت حرية التعبير مستوى الفكرة والرأي والمشاعر والذائقة لتصبح سبابا وقذفا واستهزاء، حتى تطاول المخنثون والمعطوبون والحمقى على رموز وطنية وقامات حقوقية وسياسية.

ليس من باب الوهم قولنا بأن نقل الحالة المصرية إلى تونس أمرٌ مستحيل، لأسباب عديدة:

- في تونس هناك برلمان تعددي تفرزه انتخابات مشهود لها بالشفافية.. وكل تنكر لتلك النتائج وتمثيلية أصحابها لن يفهمها المواطنون إلا على أنها عمليةٌ ماكرة، بل وغدر برفاق صندوق الاقتراع، رغم صَدقاتِ أكبر البواقي.

- حركة النهضة التونسية ليست حركة إخوانية على مستوى خطابها وقراءاتها ومشروعها ومنهجها وانفتاحها، فهي حركة حداثية رغم تفاوت درجات الخطاب داخلها لتفاوت درجات التكوين والتجربة.. كما أنها تعتمد سياسة مرنة في التعامل والتواصل، وكسر ما تتعرض له من حين لآخر من حملات تشويه وتحريض.

 

حركة النهضة التونسية ليست حركة إخوانية على مستوى خطابها وقراءاتها ومشروعها ومنهجها وانفتاحها، فهي حركة حداثية رغم تفاوت درجات الخطاب داخلها لتفاوت درجات التكوين والتجربة

- أن العسكر في تونس ليست لهم تقاليد انقلابية كما هو الحال في بلدان أخرى شقيقة ومجاورة، بل كان لهم دور مشهود في مرافقة الحراك الشعبي وحماية المؤسسات، وحتى حماية صناديق الاقتراع وامتحانات التلاميذ، إلا أن تكون تلك السمعة مُغرية بالسلطة.

- الأطراف المتبنية لمخططات الاستئصال ليست ذات امتداد شعبي، وقد استهلكت "لعبتها" يوم 6 شباط/ فبراير 2013 وتكشّف أمرها، والجماهير لا تُخدع مرتين حتى بالرشوة.

- هناك دستور 2014 يحدد نظام الحكم وآلياته، ويضمن حق الجميع في التنظم والعمل وممارسة "المواطنية" كاملة.

أخيرا، إن انقلاب العسكر على تجربة الإسلاميين السياسية في مصر ليس دليلا على نهاية تجربتهم، إنما هو دليل على ضيق صدور العلمانيين وأدعياء الديمقراطية بنتائج الصناديق حين تفرز غيرهم، بل وحين تفرز الإسلاميين تحديدا.. الانقلابات تلك ستؤكد مظلومية الإسلام السياسي، كما هو الحال دائما، وستدّخر له حقوقا وشرعيات مغتصبة لن تسقط بالتقادم. وستثبت أن شرف الإسلام السياسي أنه لم يُهزم في معارك الأفكار والقيم، وإنما وقع ضحية مؤامرات داخلية وخارجية، وله أن يثأر لنفسه.. ليس للظلم من مستقبل غير المحاسبة والندامة، وأما المظلومون فمستقبلهم دائما أمامهم حين يعرفون مسالك الحق فلا يغتالونه.

التعليقات (0)