مقالات مختارة

هل سيعاقب التونسيون على اختيارهم قيس سعيد؟

نزار بولحية
1300x600
1300x600

لقد اختاروه، لكن كيف انتخبوا رجلا مثله؟ هل عميت أبصارهم أم وقعوا تحت أثر السحر؟ وهل تتحمل تونس التي فصّلها الرئيس الراحل بورقيبة لتكون بلدا غربيا في مجال عربي أن يقول رئيسها المقبل كلما سئل عما سينجزه أو يفعله إن» الشعب يريد ويعرف ما يريد» أو أن يصرح على الملأ بأن التطبيع خيانة عظمى، وأن الوضع الطبيعي لتونس هو أنها في حالة حرب مع إسرائيل؟

 

لقد همس كثيرون في الأحياء الراقية للعاصمة بمثل ذلك، بعد أن أدركوا أن صرخات الخوف على الحياد الدبلوماسي، أو حتى على الحداثة ضلت طريقها مثلما ضلت معها أيضا نداءات الاستغاثة من كارثة اجتماعية واقتصادية وشيكة ستحل بالبلد، إن لم يقبل الناخبون بالتصويت للمرشح، الذي قال لهم إن أكبر إنجاز سيحققه لهم هو أن يوفر لكل تونسي طبق معكرونة.

ومع أن هناك مسألة شكلية ومبدئية لاحت في الختام، إلا أن المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام حولها صباح الاثنين الماضي كانت مشوشة للغاية، ففيما قال البعض أن نبيل القروي بعث يومها رسالة تهنئة لمن صار الرئيس الجديد، ذكر آخرون أنه رفع سماعة الهاتف ليفعل ذلك، وردد غيرهم أنه قام بالأمرين معا، أي بعث الرسالة وتكلم بالهاتف. لكن في كل الأحوال فقد تأخرت تهنئة المرشح الخاسر للمرشح الفائز ساعات، كان خلالها التونسيون يستفيقون من ليلة طويلة، غمرت فيها الاحتفالات معظم الشوارع، فيما عاش فيها آخرون على الجانب المقابل، أي الخاسر يوما ثقيلا بأتم معنى الكلمة.

 

ولم يكن هناك من شك في أن الخاسرين لم يكونوا فقط هم منافسه المباشر وأنصاره، ولا حتى النظام القديم فحسب، بل كانوا أيضا مجموعات وكيانات وحتى دولا بعيدة عن الدولة المغاربية الصغيرة وقريبين منها في الآن نفسه.

ولعله سيكون من العبث أن يختلف اثنان في أن الانتخابات الرئاسية التونسية السابقة لأوانها، التي جرت جولة إعادتها في ذلك اليوم كانت حرة ونزيهة وشفافة، فحتى إن لم يكن للمرشح الخاسر فيها، أي لنبيل القروي، ما يكفي من التواضع والإنصاف ليعترف صراحة وعلى الملأ بأنها كانت كذلك، ويسارع مثلما يحصل في الديمقراطيات الحديثة لتهنئة الفائز، والإقرار بالمقابل وبشكل واضح بهزيمته، تسليما على الأقل بما أظهرته النتائج الأولية للصناديق من فارق شاسع في الأصوات بينه وبين منافسه في السباق إلى قصر قرطاج، مفضلا بدلا من ذلك أن يناور ويعلق كل فشله وإخفاقه على مشجب تكافؤ الفرص، الذي رآه منعدما ومفقودا، ومعيدا أسطوانة حرمانه من الالتقاء بناخبيه، بسبب توقيفه بقرار قضائي ولمدة محدودة في تهم تتعلق بتبييض أموال، وحتى إن قالت بعض الأصوات الإعلامية المحلية، التي فقدت الحد الأدنى من الصدقية، إن النسبة التي فاز بها قيس سعيد وجاوزت، بحسب الاستطلاعات، السبعين في المئة، تذكر بالأنظمة الديكتاتورية، وأنها تشبه الأرقام الخيالية والنسب الفلكية التي كان يفوز بها بن علي وباقي الرؤساء العرب، في كرنفالاتهم الانتخابية، فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئا، ولن يمس من صورة تلك الانتخابات أو يشوهها ويقلل من كونها تمثل في الظرف الحالي إنجازا تونسيا لا نظير له في المحيط الإقليمي.

 

فلم يظهر أحد لا داخل تونس ولا خارجها، ليتحدث عن تزوير أو عن خروقات أو انتهاكات جسيمة شابت العملية، أو ليزعم مثلا أن الاقتراع كان شكليا أو صوريا، أو أنه لم يكن محترما للقوانين والشروط والمعايير التي وضعها سدنة الديمقراطية الغربية أنفسهم، ولم يشعر أي تونسي مهما كان رأيه أو موقفه، أن اختياره أو الاقتراع لم يكن يعبر بالفعل عن رغبة عموم التونسيين وتطلعهم للتحرر والانعتاق الحقيقيين من منظومة حكم جربت لأكثر من نصف قرن فلم تثبت سوى اهترائها وفشلها.

لكن منذ متى كانت إرادة الشعوب في هذا الجزء من العالم تحترم وتقدس وتعطى لها الأهمية، وتحظى بتقدير وتبجيل القوى الإقليمية والدولية الكبرى؟ ومنذ متى كانوا في الغرب يعترفون بها ويقبلونها بكل ما فيها، ويرفعون لها القبعات شرقا وغربا، ويقدرونها حق قدرها في العالم الحر والديمقراطيات الأوروبية العريقة؟ ألم يعبر المصريون في وقت ما عن إرادتهم بشكل حر حين اختاروا الشهيد محمد مرسي رئيسا، وحاول الليبيون والسوريون واليمنيون أن يقتفوا أثرهم من دون طائل؟ فماذا كانت النتيجة إذن؟ ألم تتلون المواقف بألف لون؟ وهل إن التونسيين الذين أبهروا العالم بتحضرهم وقدرتهم على إدارة اختلافاتهم، وأنجزوا تحولا فريدا من نوعه في منطقتهم أحسن من غيرهم؟ أليسوا مهما كبروا أو ارتفعوا عربا؟ أم إنهم مختلفون عن الباقين وفي مأمن تام من كل السيناريوهات الكئيبة والدموية التي حصلت في بلدانهم وما لحقهم على مدى سنوات من آلام ومحن وكوارث، جراء تطلعهم لتحقيق إرادتهم والتخلص من جور طغاتهم وغطرستهم؟

 

لقد صوبت الأنظار منذ ما يرقب من شهر، أي من لحظة الإعلان عن تصدر الجامعي قيس سعيد نتائج الدور الأول من انتخابات الرئاسة السابقة لأوانها نحوه وكان جزء من تلك التساؤلات يخامر أذهان التونسيين ويثير اهتمام عدد واسع من وسائل الإعلام الأوروبية، بعد أن سبقتها مراكز البحوث والدراسات في ذلك. فالرجل الذي لم يكن مرشحا قويا، رغم أن استطلاعات الرأي كانت تمنحه مراكز متقدمة في نوايا التصويت، ولم يظهر سوى مرات في نشرات أخبار التلفزيون الرسمي، ليتحدث في مسائل دستورية صرفة، قدم على انه الرجل الغامض. وفي ما لم يشكك أحد في سيرته أن يقدح في نظافة يده أو تعففه ورفعة أخلاقه، لاحقت الشكوك وحتى الاتهامات الحلقة الضيقة من المقربين منه، وقدمت صوره مع قيادي في حزب التحرير كدليل على أنه يحمل فكرا متشددا. فيما زاد موقفه الشهير في رفض مقترح المساواة في الإرث، الذي قدمه الرئيس الراحل قائد السبسي للبرلمان، في إذكاء تلك الانطباعات لدى الأوساط المنسوبة للحداثة. ولم يصدق كثيرون ما ظل يردده دائما من أنه ولد مستقلا وسيعيش ويموت كذلك.

 

فلا يمكن للرئيس بنظر هؤلاء أن يكون مع الجميع في وقت واحد وليس باستطاعته أن يكون بالفعل رئيسا للعلماني والمتدين وللمحجبة والسافرة على حد سواء. لقد بدأت تلك النخب التي تربت على الاستبداد بشحذ أسلحتها قبل تنصيب الرئيس. وسيكون على التونسيين الذين اختاروا قيس سعيد ليعاقبوا من خلاله عصابات المفسدين ودعاة التطبيع مع المحتل، أن يستعدوا لما سيسلطه هؤلاء الذين خسروا بفوز رئيس عربي نزيه ومنصف وعروبي بامتياز عليهم من عقاب جماعي مضاعف.

 

لقد هتفوا قبل تسعة أعوام من الآن « خبز وماء وبن علي لا» وعليهم الآن أن يرضوا بالخبز والماء، إن كان ذلك هو ثمن اختيارهم الحر، وأن يعرفوا أيضا أن طريقهم إلى الكرامة ما يزال طويلا وشاقا وملغما بألف لغم ولغم.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)