بورتريه

رحيل رجل نبيل.. حياته كانت كسرد متقطع (بورتريه)

رحل الشاعر الكبير بعد أن رثى نفسه بعد صراع مع المرض- عربي21
رحل الشاعر الكبير بعد أن رثى نفسه بعد صراع مع المرض- عربي21

لا تعرف كيف تصنفه جغرافيا، أردنيا أم فلسطينيا.. كثيرون في العامل العربي لم تكن تهمهم هويته الجغرافية، كان إبداعه وإشعاعه وإنسانيته تكفي.

وصفه الشاعر العراقي سعدي يوسف ذات يوم بأنه "عرار" الأردن الجديد، واعتبره النقاد  أحد أبرز رواد الحداثة الشعرية، وقصيدة النثر التي أعطاها خصوصية عربية كانت تفتقد إليها.

إنسان نبيل وجميل حمل روح البداوة عبر الترحال محملا بقصائده ورائحة القهوة والأصالة.

تنقل لنحو أربعين عاما ما بين عمان وبيروت وقبرص، وصولا إلى لندن التي استقر بها في سنواته الأخيرة، بعد محطات من الهجرة و الكتابة في الشعر والسرد، تنقلت بين الكتابة عن الأمكنة، وعن أدب الرحلة، والرواية.

ولد أمجد ناصر واسمه الحقيقي (يحيى النعيمي) في الرمثا عام 1955، وهو الابن البكر لعائلة بدوية احترف أفرادها العمل العسكري. بدأ كتابة الشعر والانفتاح على الحياة السياسية في الأردن والعالم العربي في المرحلة الثانوية، وفي تلك المرحلة أيضا تأثر بالعمل الفدائي الفلسطيني الذي انضم إليه بعد تخرجه من الثانوية.

عمل في التلفزيون الأردني والصحافة الأردنية نحو عامين ثم غادر إلى لبنان عام 1977 بعد أزمة سياسية تتعلق بالتنظيم الذي كان منضويا فيه، محاولا في الأثناء مواصلة دراسته الجامعية في جامعة بيروت العربية لكنه سرعان ما ترك الدراسة ليتفرغ للعمل الإعلامي والثقافي في الاعلام الفلسطيني،  فعمل محررا في مجلة "الهدف" التي أسسها الشهيد غسان كنفاني، وبقي فيها حتى الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت عام 1982، حيث انضم إلى الإذاعة الفلسطينية.

التحق في إطار عمله السياسي بـ"معهد الاشتراكية العلمية" في عدن ودرس العلوم السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

أصدر مجموعته الشعرية الأولى "مديح لمقهى آخر" عام 1979 بتقديم من الشاعر العراقي سعدي يوسف ولاقت صدى نقديا لافتا في الصحافة اللبنانية والعربية، واعتبرها النقاد ولادة شاعر ذي صوت وعالم خاص. ورغم انضوائه في صفوف اليسار فإن قصيدته ظلت بمنأى عن النكهة السياسية فعملت على الاحتفاء باليومي والتفصيلي والحسي أكثر من احتفائها بالسياسي المباشر.. بحسب آراء نقدية متعددة.

واصل ناصر عمله الإعلامي في الصحافة العربية في بيروت وقبرص، وساهم في تأسيس صحيفة "القدس العربي" عام 1987 في لندن التي أقام فيها، وتولى إدارة التحرير والإشراف على القسم الثقافي في الصحيفة منذ 1989.

ترجم بعض أعماله إلى اللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنكليزية، وشارك في عدد كبير من المهرجانات الشعرية العربية والدولية، مثل: "مهرجان الشعر العربي" في القاهرة، و"مهرجان جرش" في الأردن، إضافة إلى "مهرجان لندن العالمي للشعر" الذي كان أول شاعر عربي يقرأ في أمسيته الافتتاحية، و"مهرجان روتردام العالمي للشعر"، و"مهرجان مدايين" في كولومبيا..  وشارك في لجان تحكيم جوائز عربية ودولية في الأدب والصحافة كجائزة "محسن القطان الأدبية" وجائزة "الروبرتاج الأدبي" التي تمنحها المجلة الألمانية المرموقة "لتر".

أصدر أمجد ناصر ثماني مجموعات شعرية وكتابين في أدب الرحلة الذي يعتبر من أوائل المثقفين العرب المعاصرين اهتماما بهذا الجنس الكتابي وكتابة فيه، ونال في نهاية عام 2006 جائزة محمد الماغوط للشعر.

 

واستهلم أعماله بعض الفنانين والراسمين العرب من أمثال ضياء العزاوي وفوزي الدليمي وحكيم جماعين وصدرت استلهاماتهم هذه في كتب فنية.

حقق عنه أكثر من برنامج وثائقي تلفزيوني، أبرزها الفيلم الذي أنتجه التلفزيون الأردني بعنوان "سندباد بري" لمناسبة اختيار عمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002، وما أنتجته "قناة العربية" في إطار برنامج "روافد" وبثته على حلقتين.

كتب عن تجربة أمجد ناصر عدد كبير من النقاد والشعراء العرب من أمثال: أدونيس، صبحي حديدي، حاتم الصكر، كمال أبو ديب، صبري حافظ، عباس بيضون، حسين بن حمزة، محمد بدوي، رشيد يحياوي، قاسم حداد، فخري صالح، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، محسن جاسم الموسوي، رجاء بن سلامة، فتحي عبد الله، حلمي سالم، وصدر عددان احتفائيان من مجلة "الشعراء" الفلسطينية و"أفكار" الأردنية كرسا لتجربته الشعرية.

حاصل على جائزة الدولة التقديرية في حقل الآداب في الأردن، ووسام الإبداع والثقافة والفنون الفلسطيني تقديرا لدوره بإغناء الثقافة العربية، وتحديدا الأردنية والفلسطينية.

أما أعماله المنشورة فهي: "مديح لمقهى آخر"- بيروت 1979، "منذ جلعاد كان يصعد الجبل"- بيروت 1981، "رعاة العزلة"- عمان 1986، "وصول الغرباء"- لندن 1990، "سُرَّ من رآك"- لندن 1994، "أثر العابر"- مختارات شعرية- القاهرة 1995، "خبط الاجنحة": رحلات- لندن- بيروت 1996، "مرتقى الأنفاس"- بيروت 1997، "وحيدا كذئب الفرزدق"- دمشق 2008، "حيث لا تسقط الأمطار": رواية- 2010، "حياة كسرد متقطع": شعر- بيروت- لبنان 2004، هنا الوردة"- رواية- 2017، "في بلاد ماركيز": كتاب رحلات- صدر الكتاب هدية مع مجلة دبي الثقافية الصادرة عن دار الصدى في دبي عام 2012.

في أيار/ مايو الماضي فاجأ ناصر متابعيه وقراءه على موقع "فيسبوك" بتدوينة مؤثرة تحمل عنوان "راية بيضاء"، يوجز فيها فحوى آخر زياراته إلى طبيبه في مستشفى "تشرينغ كروس" في لندن حيث تم إبلاغه بأن "العلاج فشل في وجه الألم".

في تلك الزيارة أبلغه الطبيب بأن "الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدما للورم وليس حدا له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيميائي والإشعاعي".

وبعد ذلك دار الحوار الآتي بين الشاعر ومساعد الطبيب: 

قلت: ماذا يعني ذلك؟

قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.

قلت: والآن ماذا سنفعل؟

رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.

قلت: وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟

قال: ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!

قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.

رد: سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقل ألماً.. ولا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك. سكت الطبيب قليلاً ثم قال: هذه آخر مرة تأتي إلى هذه العيادة.. سنحولك إلى عيادة "الهوسبيس"، عيادة المرضى المحتضرين أو من هم على وشك ذلك!

- أمجد بثبات انفعالي: أُريد أن أعرف متى سأمُوت؟

- الطبيب: أمامك وقت قصير.. لكن هذا ليس حسابا رياضيا؛ فلا تتوقف عنده.


وتضمنت التدوينة قصيدة شعرية بعنوان "الطريق إلى الكتلة" يتحدى فيها المرض اللعين ويرثي نفسه.

ورحل الشاعر الكبير بعد أن رثى نفسه بعد صراع مع المرض الذي احتل جسده بعدما تسرب إليه متخفيا وخلسة، وقاومه أمجد ناصر بكل ما لديه من قوة وعنفوان.

رحل ليلحق بثلاثة مبدعين يشبهونه تماما؛ ناجي العلي وغسان كنفاني ومحمود درويش؛ رافعا الراية البيضاء ليس ضعفا، ولكن يبدو أن ساعة الرحيل قد حانت ولم يعد ثمة ما يمكن القيام به سوى مواصلة الرحيل من جديد.

 

اقرأ أيضا: عطوان ينعى ناصر ويتحدث عن تجربتهما الثقافية والسياسية (شاهد)

التعليقات (0)

خبر عاجل