كتاب عربي 21

إفساد الجيوش بزجها في شؤون الاقتصاد

جعفر عباس
1300x600
1300x600

يهرش قادة السودان الجدد فروات رؤوسهم حتى تدمى، بحثا لحلول للأزمة الاقتصادية المستفحلة التي ورثوها من نظام عمر البشير المُباد، بينما تدير القوات المسلحة والقوات الموازية (الدعم السريع) منشآت اقتصادية ضخمة في مناطق رمادية، أي بعيدا عن أي رقابة أو متابعة من جانب الحكومة المركزية، ما يعني ضمنا أن إيراداتها لا تدخل الخزينة العامة، إلا بمعنى أن القوات المسلحة جزء من الحكومة وبالتالي فـ"الجيب واحد" كما نقول في السودان لتبرير وجود أموال معينة لدى أكثر من طرف واحد.

 

الجيش السوداني ليس بدعا

وولوج الجيش السوداني في مجال الاستثمار ليس بدعا، فللجيش الأمريكى استثمارات تناهز 50 مليار دولار في مجال الإنشاءات وحده، إذ يتولى مهندسوه تشييد السدود والجسور على طول أنهار الولايات المتحدة، ومحطات مياه وقنوات وأنفاق وطرق سريعة.
 
ومنذ عام 1961 والجيش التركي يدير مجموعته الاقتصادية "أوياك" التي يعمل فيها نحو ثلاثين ألف شخص، وبلغ حجم أصولها في عام 2018 نحو 10 مليار دولار، بينما الجيش الإيطالي يعمل في مجالات التصنيع الثقيل والاستيراد، ويحتكر توريد المستحضرات واللقاحات، بل والماريوانا المخدرة للاستخدام الطبي في المستشفيات.

 

وجود مؤسسات اقتصادية خاصة بالجيوش أمر مرغوب فيه شريطة أن يكون ذلك بهدف تمكينها من تعزيز مواردها الذاتية، مع إخضاع أنشطتها للمراجعة والتدقيق


أما الجيش الباكستاني، وهو الذي علم جيوش العالم الثالث المكر و"الهبر"، فإنه يمتلك ثلث الصناعات الثقيلة في البلاد، إلى جانب المخابز والمتاجر والبنوك وشركات التأمين والجامعات وشركات الغاز والنفط، وبالتالي يعد واحدا من أكبر الجيوش امتلاكا لعضلات اقتصادية في العالم، وهي القوة التي تجعله فوق المساءلة، وصاحب الكلمة العليا في اختيار من يحكم البلاد.

وولج الجيش المصري مجالات الاستثمار بإنشاء الصناعات الحربية، وشيئا فشيئا تمددت أذرع الأخطبوط العسكري، وصارت للمؤسسة العسكرية المصرية شركات تعمل في مجالات الزراعة بشقيها الحيواني والنباتي، والتصنيع المدني واستيراد الأغذية، حتى صارت المنافس الأول والأخطر للقطاع الخاص الذي صار يستجدي مقاولات بالباطن من القوات المسلحة.

ويثير حال استثمارات القوات المسلحة السودانية والقوات الموازية، وعلى رأسها قوات الدعم السريع التي ما زالت في جوهرها مليشيا شبه نظامية، قلق الحكومة المدنية الجديدة، التي ورثت عن نظام البشير خزينة كفؤاد أم موسى، وديونا داخلية وخارجية ضخمة، وفسادا مؤسسيا جعل مئات الشركات الرسمية والوهمية تمارس أنشطة طفيلية، من بينها المضاربة بالعملات الأجنبية.

ظلت الشركات التي يملكها الجيش وجهاز الأمن والمخابرات في السودان، تعمل دون رقيب أو حسيب طوال سنين حكم البشير، دون أن تكون في معظمها ملزمة بدفع الضرائب أو رسوم الجمارك أو الاحتفاظ بدفاتر نظامية لحساباتها، لأنها لم  تكن تخضع للتدقيق والمراجعة من قبل أي جهة، ومعلوم أن أشقاء البشير كانوا يملكون بعض الشركات المسجلة باسم القوات النظامية بالكامل أو جزئيا.

 

قوات الدعم السريع

أما قوات الدعم السريع، والتي لا يفتأ قادة الجيش السوداني يرددون أنها تتبع للقوات المسلحة، بينما هي تجوس البلاد بالطول والعرض بمركباتها الخاصة، رافعة راياتها الخاصة وتمارس أنشطة تخص قوات الشرطة وإدارات الصحة والجمارك وحرس الحدود ـ هذه القوات التي تعمل تحت إمرة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) تملك من الموارد المالية الخاصة التي لا شأن لأجهزة الدولة بها، ما يجعلها تمارس التجنيد وتوزيع العطايا بسخاء لغسل أيديها وسمعتها التي تلوثت كثيرا، منذ اتهام عناصرها بالضلوع في المجزرة التي حدثت في الثالث من حزيران (يونيو)، وراح ضحيتها العشرات من بين الآلاف الذين كانوا يعتصمون أمام مباني قيادة الجيش في سياق الثورة ضد نظام البشير.

وكان الفريق حميدتي هو من كشف أن قوات الدعم السريع تتولى تمويل نفسها من مشاريع استثمارية منفصلة عن جهاز الدولة، وإنشائها شركة للتنقيب عن الذهب في جبل عامر غرب البلاد، فضلاً عن امتلاكها مشاريع استثمارية في مختلف المجالات، وحصولها على عائدات مالية ضخمة نظير اشتراك عناصرها في حرب اليمن.

 

ما هو حادث في معظم بلدان إفريقيا والمنطقة العربية، هو أن الجيوش تعيش كجزر منفصلة عن كيان الدولة العام، فهي غير مطالبة بالولاء لغير رأس الدولة


ولعل مناجم الذهب في جبل عامر هي الأكبر من نوعها في أفريقيا، ولكن لا يعرف أحد سوى بعض قادة قوات الدعم السريع أين تذهب إيراداتها وكيف يتم إنفاقها، وهناك تخوف من أن أي محاولة من جانب الحكومة الحالية للسيطرة على تلك المناجم، سيؤدي إلى صدام دموي، لأنه ليس من الوارد أو المتوقع أن تلك القوات ستتنازل أو تقبل أن يشاركها أي طرف في مليارات الدولارات التي تدرها المناجم.

ولا يخفي الجنرال حميدتي ضخامة الثروات التي في أيدي قواته، ففي الشهر الأول من الثورة صرح بأنه قام بتحويل أكثر من ملياري دولار إلى البنك المركزي السوداني لتغطية العجوزات، وتوفير العملة الصعبة لاستيراد السلع الضرورية، كما أنه قام بتوزيع عطايا جزلة لشيوخ القبائل ورجالات الإدارة الأهلية، كل ذلك من "جيب" الدعم السريع.

في معظم بلدان العالم، تخوض الجيوش النظامية في مجالات الاستثمار، ولكن وفق ضوابط صارمة، بينما يفتح دخول جيوش دول العالم الثالث (وإن شئت قل الثالث عشر) الميادين الاقتصادية أبواب الفساد، بل وتعمد الحكومات في بلدان مثل السودان ومصر وباكستان إلى إلهاء كبار الضباط بالنشاط الاقتصادي، وتشجعهم على الفساد والإفساد حتى لا ينقلبوا عليها.

ومع هذا فوجود مؤسسات اقتصادية خاصة بالجيوش أمر مرغوب فيه شريطة أن يكون ذلك بهدف تمكينها من تعزيز مواردها الذاتية، مع إخضاع أنشطتها للمراجعة والتدقيق، لضمان ان تعمل بشفافية وتخفف على الخزينة العامة عبء نفقات الدفاع.

ولكن ما هو حادث في معظم بلدان إفريقيا والمنطقة العربية، هو أن الجيوش تعيش كجزر منفصلة عن كيان الدولة العام، فهي غير مطالبة بالولاء لغير رأس الدولة، ومن ثم فإن جوانب كثيرة من أنشطة تلك الجيوش الاستثمارية تكون خصما على الاقتصاد "المركزي" للدولة، لأنها تكون فوق القانون، وبالتالي فالمنافسة بينها والقطاع الخاص غير عادلة وغير شريفة، وتكون النتيجة الكلية لكل ذلك ضمورا في الخزينة العامة، وتخمة غير صحية في خزائن العسكر، وفي هذا خلل مريع يستوجب رفع إصبع الحذر.

التعليقات (1)
السرطان بالزي العسكري
الأحد، 17-11-2019 06:08 م
الجيش الأمريكي و التركي عليه رقابة الدولة و هو يشارك في تنمية الاقتصاد بالصناعات الحربية أما الجحوش العربية فهي الدولة و هي الرقابة ربما قد تصنع جوارب حربية على الأكثر ،إنهم يستولون على خيرات البلاد كلها إنهم يمنعون الشباب المتعلم بأخد زمام الأمور في الاقتصاد السياسة و الثقافة... ما الفرق بين الاستعمار الغربي قليل الثقافة و الاستعمار العسكري العربي عديم الثقافة