مقالات مختارة

هل ينتهي عصر غثاء السيل؟

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

عبارة (غثاء السيل) التي أطلقها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على الأمة في حجة الوداع حينما تتدافع على قصعتها الأمم وتهزل وتجبن وتفقد كبرياءها، هي العبارة التي ربما لا نتردد عن استعمالها لتوصيف حالة الوهن والعجز الراهنة التي ركن إليها العرب من دون الأمم المسلمة الأخرى. وأتساءل اليوم هل أمتنا على وشك أن تغادر عصر الغثاء لتستعيد وعيها وتقف من جديد معتزة بمخزونها، قادرة على رفع تحدياتها؟ وهذا التفاؤل ليس مجانيا أو عاطفيا لأن بشائره جاءتنا هذه الأيام من ماليزيا على لسان رئيس حكومتها وصانع معجزتها المفكر المسلم مهاتير محمد، حينما نادى إلى عقد قمة مصغرة في (كوالالمبور) خلال الأيام القادمة، من أجل الاتفاق على خارطة طريق للتعاون بين الدول المسلمة وإحياء روح المبادرة والتضامن والتنسيق بينها.


أتذكر جيدا الزيارة التي أداها لتونس الملك الصالح فيصل بن عبد العزيز سنة 1966 وعند زيارته للقيروان ألقيت أنا قصيدة حين كنت أتطفل على الشعر على مسامع الملك والزعيم بورقيبة، أشدت فيها بالتعاون الإسلامي، لأن ذلك الزمن كان يتميز بانحراف جامعة الدول العربية، حيث تحولت إلى ملحق بالخارجية المصرية، وقام جمال عبد الناصر بتقسيم العرب إلى تقدميين وإلى رجعيين، وهو يخوض حرب اليمن التي أدت إلى انقسام العرب إلى جمهوريات تدعي التقدمية وملكيات توصم بالرجعية، والحقيقة التي ندركها اليوم بعد أكثر من نصف قرن، أن العرب كانوا كلهم في ذلك العهد متخلفين وخارج سياق التاريخ، وهو ما اتضح للعالم يوم الهزيمة النكراء لمصر وسوريا والأردن والعرب جميعا يوم الخامس من حزيران/جوان/ يونيه 1967 واكتشف العرب أن المذيع المصري على أمواج صوت العرب المرحوم أحمد سعيد كان يخدر العرب بصوت جهوري حماسي، لكنه كاذب يدلس الحقائق ويقدم مثل الزعماء تلك الهزائم في شكل انتصارات وهمية تغيب الوعي.


المهم أن الملك فيصل بن عبد العزيز والزعيم بورقيبة فكرا في تلك السنة بتأسيس منظمة بديلة عن جامعة الدول العربية، فاتفقا على أن يجتمع المسلمون وهم أكثر عددا وأقرب لبعضهم البعض بالعقيدة في منظمة عقدت مؤتمرها الأول عند حريق المسجد الأقصى عام 69، ثم لا ننسى أن الرجلين فيصل وبورقيبة كانا في آب/أغسطس 66،أول من ندد بقتل المفكر الإسلامي المصري سيد قطب، بل إنهما حاولا التدخل لدى عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام على سيد قطب. وللتاريخ، فإن بورقيبة -وهو العلماني- كان تدخل لدى الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم وأنقذ من حبل المشنقة صديقه وصديق القضية التحريرية التونسية المرحوم محمد فاضل الجمالي، وكان صديقي الشخصي أيضا تعرفت على فكره وعلمه في الثمانينيات، ونشرت مقالاته القيمة حول التربية في العالم الإسلامي. ولم يهتم عبد الناصر بتدخلات بورقيبة وفيصل وتم إعدام سيد قطب، والتجأ شقيقه الكاتب محمد قطب للسعودية، وعاش ثم توفي منذ سنتين في مكة المكرمة، وأذكر أني أنا كنت في العشرين من عمري وكتبت مقالا في جريدة (العمل) مطلع أيلول/سبتمبر 66 بعنوان (القطيعة مع عبد الناصر) بعد أيام من إعدام سيد قطب، وهو ما اعتبرته خطأ ناصريا كبيرا؛ لأن عبد الناصر لم يحقق انقلاب 18 تموز/جويلية 52، إلا بعد مناصرة جماعة الإخوان المسلمين له، فقد كان عبد الناصر نفسه قريبا من فكر الإخوان مثل أغلب الضباط الأحرار، وكان يزور قبر حسن البنا ويقرأ الفاتحة عليه باعتراف محمد حسنين هيكل! إذن كانت سنة 1966 محطة فاصلة بين القومية العربية من منظور عبد الناصر والتضامن الإسلامي كبديل استراتيجي عن الهيمنة الناصرية، فنشأت منظمة المؤتمر الإسلامي ومقرها في جدة، وكان أمينها العام الذي أعطاها صبغتها الدولية هو الدبلوماسي التونسي الحبيب الشطي رحمه الله، وأصبحت منظمة عالمية تجمع اليوم 57 دولة مسلمة واسمها اليوم (التعاون الإسلامي).


لعل التضامن بين الدول المسلمة يوفق في تغيير المعادلة التقليدية التي تفرض هيمنة القوى الليبرالية المتوحشة على الشعوب المستضعفة، وليس من الصدف أن تجد اليوم عام 2019 (73% من المهجرين تحت الخيام في العالم مسلمين) وأن تجد 84% من بؤر التوتر والعنف في العالم من دول المسلمين وأن تجد 91% من ضحايا العمليات الإرهابية من المسلمين في كل بقاع الدنيا، ثم أن تكتشف أن المسلمين هم المتهمون بممارسة الإرهاب؟ إنها مظالم العصر ومؤشرات الحيف والتدليس والبهتان! حجة الوداع وخطبة الرسول الأعظم فيها ما تزال نصب الأعين وفي الضمائر حتى ينتصر الحق على الباطل والخير على الشر، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)