صحافة دولية

أوبزيرفر: يصعد نجم الكاذبين وصانعي الأساطير والمتلاعبين

روزبريدجر: السياسيون في بريطانيا أثبتوا أنهم تعلموا من الولايات المتحدة كيف يطمسون الحقيقة- جيتي
روزبريدجر: السياسيون في بريطانيا أثبتوا أنهم تعلموا من الولايات المتحدة كيف يطمسون الحقيقة- جيتي

هاجم رئيس معهد رويترز لدراسة الصحافة، ألان روزبريدجر، السياسيين الذين يمارسون الكذب والتضليل للوصول إلى السلطة.

وقال روزبريدجر في مقال في "الأوبزيرفر" البريطانية، إن "السياسيين في بريطانيا أثبتوا أنهم تعلموا من الولايات المتحدة كيف يطمسون الحقيقة، إلا أن صحيفة محلية واحدة تقدم الترياق".

"عربي21" ترجمت المقال كاملا:

 

خلال الألف يوم الأولى من وجوده في البيت الأبيض، أصدر دونالد ترامب 13435 ادعاء باطلا أو مضللا، بحسب ما أفادت به صحيفة الواشنطن بوست التي ترصد بكل دقة وعناء ما يصدر عن الرئيس الذي استمرأ لي عنق الحقيقة. عجبا كيف ابتسمنا نحن معشر البريطانيين على ما يأتي به هذا المخادع، ظانين أن ما يجري هناك يستحيل أن يحدث لدينا!

لكن لنأخذ في الاعتبار تلك الدروس التي كان من الممكن أن يتعلمها المدراء السياسيون حول العالم من انتخاباتنا، وكم عملنا بشق الأنفس على إزالة الغشاوة عن الخط الفاصل بين الحق والباطل، بين الحقائق والدعايات، بين الصراحة والخلسة، بين الخضوع للمحاسبة والتهرب منها، بين الوضوح والارتباك، بين الأخبار والآراء.

يبدو، بدلا من ذلك، أن شخصا أو اثنين من المتلاعبين المهرة في الغرف الخلفية (ولنا أن نخمن من) درسوا تجربة ترامب وقدرته على إقناع ما يكفي من الناس بأن الأسود أبيض، وبدلا من التقزز مما عرفوا، وصلوا إلى الخلاصة المعاكسة، ومفادها أن أسلوبه يؤتي أكله.

ولربما اكتشفنا يوما ما في المستقبل البعيد، ما إذا كانت أربعون مستشفى سوف تبنى، وما إذا كان عشرون ألف ضابط شرطي جديد سوف يصبحون واقعا، إضافة إلى خمسين ألف ممرض جديد. لن يطول بنا المقام قبل أن نعرف ما إذا كنا أخيرا قد أنجزنا بريكسيت أم إن هذه فقط بداية عملية طويلة ومؤلمة من التفاوض حول مستقبل علاقاتنا التجارية، بعد أن وهنت قوتنا إلى حد كبير.

سوف نعرف واقع التجارة بين بريطانيا الأم وجزيرة إيرلاندا وهل ستكون سلسلة ودون حواجز أم لا. سوف نقرأ الحقيقة حول مزاعم التدخل الروسي في الاستفتاء الذي جرى عام 2016 على بريكسيت (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، وبل وسنعرف أكثر من ذلك بكثير. ولكن حينها ستكون الحياة قد مضت قدما، وقد يكون كثيرون منا حينها قد نسوا الوعود واللف والدوران والكذب الصراح في أواخر عام 2019.

ما هي الدروس التي نكون قد تعلمناها؟ منها أنك في عصر الفوضى المعلوماتية، يمكن أن تفلت من المساءلة عن أي حجم من التضليل قد تمارسه، وأنه بإمكانك أن تعبث بمقاطع الفيديو، وتخفي المعلومات، وتتجنب المقابلات الإعلامية الصعبة – ولكن فقط بعد أن يكون منافسوك قد أخضعوا لنار حامية. ومنها أن بإمكانك أن تطرد الصحفيين المشاكسين من اللقاءات الصحفية أو أن تتخفى داخل ثلاجة. ومنها أن بإمكانك أن تعيد إنتاج موقع زائف "للتأكد من صحة المعلومات". في نهاية المطاف، لا شيء منها يهم.

بإمكانك أن تصيغ رسالة واحدة لا تنسى، وأن تلتزم بها فلا تفارقك ولا تفارقها. كانت عبارة "فلننجز بريكسيت" شعارا رائعا، على الرغم من أن معنى بريكسيت ومعنى الإنجاز أبعد ما يكونان عن الوضوح: فهذا هو عصر البساطة لا التعقيد، لدرجة أنه حتى وسائل الإعلام المعتبرة، تبذل جل جهدها لتكرار هذا الشعار وتكبيره، بدلا من وضعه على منضدة التشريح. جرب هذه الحركة الجريئة: ضع الكلمات على حفار من طراز (جيه سي بي)، واندفع به باتجاه كومة من لبنات البوليسترين، ثم شاهد محرري الأخبار وهم يخصصون، قياما بالواجب، الصفحات الأولى لنشر صورة الحدث. إنهم ينتجون الإعلانات الحائطية ولا يمارسون الصحافة.

وتذكر أنه في معظم البلدان، تملك الحكومات سلطات غير عادية للتحكم بوسائل الإعلام الحكومية. ولذلك، حينما يبدو الصحفيون العاملون في التلفزيون كما لو أنهم أكبر حجما من مقاسات أحذيتهم، فمن المفيد في العادة الإيماء لهم بقوة أن ثمنا ما سيُدفع، مثل: لربما لم تعد القناة الرابعة مفيدة؟ ولعله حان الوقت لخصخصة الـ(بي بي سي)؟ وهذا يكفي لتحقيق المراد.

ينبغي أن تبقى المؤتمرات الصحفية من الطراز القديم في حدها الأدنى، وينبغي ألا يقول المانفستو (البرنامج الانتخابي) شيئا. وينبغي أن يختفي الزملاء الذين يكثرون من ارتكاب الأخطاء، وإذا كنت في ورطة حقيقية، فلا مشاحة في أن تفتري شيئا، وسوف يدهشك مدى استعداد حتى أفضل الصحفيين لتكرار الخرافات التي لا تنسب لأي مصدر (راجع ذلك الجدل الذي دار بشأن الغلام ذي الأربعة أعوام في مستشفى ليدز العام، وماذا جرى خلال الزيارة اللاحقة لوزير الصحة مات هانكوك). حين يبادر الصحفيون إلى تصحيح أنفسهم وبعد أن يكون "تويتر" قد أمضى أربعا وعشرين ساعة في الجدل حول الحقيقة، يكون العالم قد مضى قدما وترك ذلك وراءه.

إذن، وكما اكتشف ترامب، يصعد نجم الكاذبين وصانعي الأساطير والمتلاعبين، وأيا كانت الشجاعة التي يتحلى بها بعض الصحفيين إذ يسعون لمساءلة هؤلاء ومحاسبتهم (وكثيرون منهم، وخاصة في المحليات، حاولوا بشكل رائع)، إلا أن الظروف تعاكسهم.

إن الفكرة التي تتملكني في هذه اللحظة هي كم من السنين مضت وأنا أراقب الصحف في الولايات المتحدة وأشفق على الزملاء العاملين فيها، الذين "فقط" يديرون غرفة الأخبار تاركين صفحة التعليقات لغيرهم. تحول الإشفاق مع الزمن إلى حسد. بت الآن أعتقد بأن الصحف الوطنية في بريطانيا سيطهرها الفصل بين المسؤولية عن الأخبار والمسؤولية عن التعليق. ببساطة، يصعب كثيرا على القارئ العادي بشكل خاص – وليس فقط القارئ عبر النيت – أن يميز بين الأمرين.

كالبطل الهمام، بعد أن تم التشكيك في تغطية صحيفة "ذي يوركشاير إيفنينغ بوست" لحكاية ليدز، كتب محررها جيمز ميتشنسون ردا طويلا ومعتبرا على ما ورده من واحدة من القراء، وهي التي خلصت إلى أن الحكاية ملفقة، وذلك بناء على ما قرأته في مواقع التواصل الاجتماعي. سأل ميتشنسون بكل احترام هذه القارئة لماذا تصدق كلام شخص غريب تماما (شخص قد لا يكون موجودا في الواقع) ولا تصدق صحيفة ما فتئت تقرأها بكل ثقة منذ سنوات طويلة؟!

وقال ميتشنسون، إن الصحيفة عرفت أن الحكاية كانت حقيقية بفضل "العمل الصحفي المحترف" الذي تقوم به. كان ذلك تصريحا قويا حول لماذا العمل الصحفي الجيد – والمستقل والمصنوع بنزاهة – عمل مهم وينبغي أن نأبه به؟ إذن، دعونا نسمع ذلك من أجل العمل الصحفي المحترف، الذي لا يوجد منه إلا القليل جدا هذه الأيام. قد لا يكون كافيا، ولكنه كل ما لدينا.

0
التعليقات (0)

خبر عاجل