أفكَار

الدولة في القرآن.. قراءة دلالية في ثنائية القرية والمدينة

أكاديمي تونسي يؤكد أصالة مفهوم الدولة في الإسلام من مدخل ثنائية القرية والمدينة  (عربي21)
أكاديمي تونسي يؤكد أصالة مفهوم الدولة في الإسلام من مدخل ثنائية القرية والمدينة (عربي21)

على الرغم من صعود عدد من قادة الحركات الإسلامية إلى رأس السلطة في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم نماذج ذات خصائص محددة يمكن أن نطلق عليها مصطلح الدولة الإسلامية.

من إيران إلى السودان مرورا بباقي الدول العربية التي تنص أغلب دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ظل هيكل الدولة الحديثة هو الوعاء الذي اندرجت فيه مختلف الاجتهادات السياسية. 

ومع أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف الكتب التاريخية التي توثق مختلف مراحل تطور المنطقتين العربية والإسلامية قديما وحديثا، إلا أنها في الجانب الدستوري والقانوني المتصل بالدولة ظلت في أغلبها أقرب إلى الترجمة والنقل من التجربة الغربية منها إلى النحت الإسلامي. كما هيمن عليها الاصطفاف الأيديولوجي الذي قسم المنطقة العربية والإسلامية، بين شق وطني يعتقد بثراء المكتبة الإسلامية وتقدمها عن غيرها من الاجتهادات الفكرية، وبين نخبة تعتقد بأن العلم لا وطن له، وأن التلاقح الفكري والثقافي من أهم أسباب التطور في مختلف المجالات.

ولكن الحاجة إلى مفاهيم وآليات دستورية وقانونية لإدارة الدولة لم تظهر بشكل جلي وواضح، إلا مع ثورات الربيع العربي، التي أعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل، وفتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التيارات السياسية الوطنية للبروز وتصدر المشهد، وكان من بينها تيار الإسلام السياسي الذي ظل ينظر للدولة الإسلامية منذ مطلع القرن الماضي.


"عربي21"، وفي سياق متابعتها للحراك الفكري الذي تعرفه المنطقة العربية والإسلامية، تعيد فتح ملف الدولة الإسلامية كمفهوم وآليات، وتطرحه على قادة المجتمع السياسي والفكري في العالمين العربي والإسلامي.

اليوم يناقش أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة المنار التونسية الدكتور محمد الرحموني، في ورقة أعدها خصيصا لـ "عربي21"، الأصل اللغوي والديني للدولة انطلاقا من ثنائية القرية والمدينة.

مقدمة

سبق أن كتبنا في المقال السابق أن القرآن الكريم محكوم بالتضاد المفهومي كما بيّن ذلك باقتدار الراحل توشيهيكو إيزوتسو (المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن)، وقد وقفنا على حضور فكرة الدولة في القرآن من خلال ثنائية الإيمان والكفر. واستكمالا للفكرة نفسها نقف اليوم على ثنائية أخرى هي في تقديرنا الحلقة الرابكة بين فكرة الدولة وتجسّدها في الواقع. هذه الثنائية هي ثنائية القرية والمدينة. وسنتناول هذه الثنائية في القرآن وفي اللغة.

الله باني المدن

ليست كل أسماء الله الحسنى مذكورة في القرآن ولا في السنّة. وما لم يذكر في هذين المصدرين فهو اجتهاد من المسلمين. من هنا يمكننا الانطلاق من حديث القرآن عن البنيان المتطاول وعن صروح فرعون وسدّ الإسكندر وغير ذلك من القصص المشابهة التي نزلت في بيئة أعرابية، لنقول أنّه في ظلّ مجتمع بدوي رعوي يستأثر الإله باعتباره كائنا مفارقا بالقدرة على معرفة البناء والتشييد والهندسة. إنّ الله في القرآن هو الوحيد القادر على بناء الحضارات والدول والسلطات، ومن ثمة، على تدميرها عندما تكفر.

من أشهر المواضع التي أكّد فيها القرآن الكريم صورة الإله "المهندس" قصة سبأ الواردة في السورة التي تحمل نفس الإسم.

تبدأ القصة باستفهامين على جهة التعجب موجّهيْن إلى الكفار. في الاستفهام الأول تعجب من قدرة الله على لمّ شتات الكفار بعد تفرقهم: وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (الآية: 7). وإنّ تفرّق الكفّار لا يعني فقط تفرّق أجسادهم في الأرض بعد الموت، كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسّرين، بل يعني كذلك تفرّقهم قبل ظهور الدين، وقدرة الله عن طريق أنبيائه على جمعهم في مكان واحد هو المدينة. 

أمّا الاستفهام الثاني ففيه تعجب من عدم قدرة الكفار على إدراك هذا الكون المنظم غاية النظام والإبداع والشاهد على وجود الخالق وعظمته: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (الآية: 9).

 

 

الله هو مهندس المدن وهو الذي وفّر لأنبيائه أدوات الحضارة لبنائها وتعميرها. وكل تعاليم القرآن إنما هي موجهة إلى كيفية تنظيم حياة حضرية ينتقل بفضلها الإنسان من حياة البداوة إلى حياة المدينة.

 


ومن الواضح أنّ للكفر في هاتين الآيتين معنى محددا هو التشتت والتمزق وتلك خاصية المجتمعات البدوية. إنّ هذا التمزّق هو عنوان فوضى متعارضة مع نظام الكون كما سرده الإله وعلّم ذلك لأنبيائه: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير(الآيتان: 10 ـ 11).

 

يرى محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية أنّ الانتقال "الفجئي" من الحديث عن الكفّار إلى ذكر النبي داود سببه ما اشتهر به حاله، فبعد أن كان راعيا غليظا اصطفاه الله نبيّا وملكا. وبذلك يكون السرد باعتباره "تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا" انتقالا من عالم الرعي إلى عالم المُلك والسلطة.

إن ارتباط السرد بالحديد لا ينتج سوى شيء مقدّر فـ "لا تصغّر المسمار وتعظّم الحلقة فتسلس، ولا تعظّم المسمار وتصغّر الحلقة فيُفصم المسمار". هذا المقّدر ليس سوى نموذج من مقدّرات أخرى شأن القصور(المحاريب) والصور الرخامية والزجاجية البديعة (التماثيل) وأدوات الحضارة (النحاس والقِطر) و(الجِفان والقُدور) حبا الله بها نبيّه سليمان: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور (الآيتان: 12 ـ 13).

 

إن مثل هذه الصروح والبناءات الضخمة من قصور وغيرها لا يقدر عليها إلا الجنّ والأنبياء، بفضل من الله. وهي بناءات مرتبطة بالصالحات من الأعمال وبمظاهر التحضر دليلا على أنّ الخالق خبير يحسن قسمة الأشياء..

أمّا قصة سبأ في حدّ ذاتها فتلخصها الآيات الآتية: لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(الآيات: 15 ـ 19). 

لقد تمثل كفر سبأ في إعراضهم عن سكنى المدن رغم ما فيها من طيّبات ونِعم وحنينهم، بدلا عن ذلك، إلى البادية أي إلى حياة الفلوات والمفاوز. جاء في تفسير الطبري لهذه الآيات: "فقالوا: يا ربنا بـاعِدْ بـين أسفارنا، فـاجعل بـيننا وبـين الشأم فَلَوات ومَفـاوِز، لنركب فـيها الرواحل، ونتزوّد معنا فـيها الأزواد وهذا من الدلالة علـى بطر القوم نعمة الله علـيهم وإحسانه إلـيهم، وجهلهم بـمقدار العافـية". لذلك كانت استجابة الإله لهم بمثابة العقاب فقطّعهم في البلاد كل مقطّع. 

 

 

تمثل كفر سبأ في إعراضهم عن سكنى المدن رغم ما فيها من طيّبات ونِعم وحنينهم، بدلا عن ذلك، إلى البادية أي إلى حياة الفلوات والمفاوز.


ويضيف محمد الطاهر ابن عاشور إلى هذا التفسير تفسيرا آخر بالقول: "ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممّن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال. وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها".

إن هذه القصة القرآنية موجهة إلى أعراب الجزيرة تستعرض قوة الله الجبارة، "ملك الحديد والحدادين" كما قالت بحق جاكلين شابي. الله هو مهندس المدن وهو الذي وفّر لأنبيائه أدوات الحضارة لبنائها وتعميرها. وكل تعاليم القرآن إنما هي موجهة إلى كيفية تنظيم حياة حضرية ينتقل بفضلها الإنسان من حياة البداوة إلى حياة المدينة. لنذكر في هذا المجال أن الكثير من تعاليم القرآن ورسوله تعلّم الداخلين في الدين الجديد كيف يطرقون الأبواب ويحترمون الجيران وينظفون أجسادهم ويربون أطفالهم... وهي كلها قيم حضرية. 

هذا هو الله في القرآن، باني مدن ومشيّد حضارات. وتبدو المدينة في القرآن صورة منه حتى لكأنه حلّ فيها. وليس في الأمر عجب فأشهر مدن العالم القديم سميت باسم الآلهة شأن أثينا وباريس وبيروت وروما ..الخ. إنّ من أسماء الله النور وهو الاسم الذي أطلقه المسلمون على واحدة من أواخر السور التي نزلت في المدينة. إنّ اسم السورة وغرضها الرئيسي (أحكام معاشرة الرجال للنساء، وآداب الخلطة والزيارة) يجعلان منها سورة مدنية لا بسبب نزولها بالمدينة بل لأنها تتحدث عن المدينة التي حلّ فيها الله:

تبدأ السورة بذكر أبسط العلاقات التي تجمع رجلا وامرأة برباط غير شرعي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الآية : 2). ثم تتسع "الإضاءة" لتشمل كل شخصين يتهمان بالزنا ولتمتد إلى المسكوت عنه في الحياة العامة وتستهجن الإشاعة التي هي ملازمة لحياة المدينة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الآية: 4). وتستمر الزاوية في الاتساع لتشمل جميع الأزواج ذوي الروابط الشرعية. ثم يتدرج النور ليبرز بيوت المدينة وما يتصل بها من سلوك حضري: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الآية: 27). 

ومن وراء هذه البيوت المنتشرة في المدينة المضاءة بنور الله يمثل جدار آخر سينقطع عنده الضوء عن التقدّم، حيث تتصحر الرؤى داخل بيداء لا حدود لها ولا ملاذ فيها، هي تلك التي يدعوها القرآن باسم "القيعة". وفي هذا اللفظ الذي اشتق من كلمة "قاع" ما يرعب السامع العربي حين يحيله إلى حيث يعجز الفكر عن التبصر. إنه عالم الصحراء حيث يَعُمّ الظلام: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ( الآيتان: 39 ـ 40).

من الكَفر والقرية إلى المدينة

إنّ ما يميّز أمر الكفر في القرآن وخصوصا انطلاقا من القرآن المكي الثالث هو تلك التعابير والأبعاد المتعلقة بالفضاء، فضاء الكفار وفضاء المؤمنين. فلأوّل مرة تحدث القرآن عن الفتح على أساس أنه سيكون تتويجا لمسيرة المؤمنين: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (السجدة:28 ـ 29). 

وللفتح في القرآن وفي اللغة بعد فضائي إذ يُدرَك في علاقته بالمكان، فالفتح لا يكون إلا للبلدان أي للمدن والدول والامبراطوريات. في مقابل هذا الفضاء المخصص للمؤمنين تحدّث القرآن عن فضاء الكفار المتسم بغياب السلطة والدولة. هذا الفضاء تجسّده البراري والقرى. نجد ذكرا للبرّ وسكانه ابتداء في الآية الواحدة والأربعين من سورة الروم: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. إنّ المقصود بالبحر في هذه الآية ليس هو البحر المعروف وإنّما الريف والبادية كما بيّن ذلك جمهور المفسرين. وبذلك فإنّ البرّ والريف فضاءان موضوعيان للفساد بحكم غياب الحواجز فيهما أي غياب السلطة والدولة. 

وذكر ثانيا في الآية الثامنة والعشرين من سورة إبراهيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، والبوار هو أصلا صفة الأرض التي لا تحرث ولا تنتج وللقوم الذين يسكنون البرّ حيث لا حدود ولا حواجز ولا عوائق سلطوية. وذكر أخيرا في الآيات من السادسة عشرة إلى التاسعة عشرة من سورة سبأ: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. 

 

 

 

لقد عرف العرب لفظة المدينة انطلاقا من القرآن الذي ذكرها في صيغة المفرد أربع عشرة مرة وفي صيغة الجمع (مدائن) مرتين. والملاحظ أن أغلب المواضع التي ذكر فيها اللفظ ارتبط بقصتين اثنتين هما قصة النبي موسى وقصة هجرة النبي محمد إلى يثرب.


من الواضح من خلال هذه الآيات أن الكفار غير منسجمين بطبعهم مع العمران المعبّر عنه هنا بكثرة القرى واتصالها، لذلك طلبوا المفاوز والبوادي والبراري. هذه البراري والبوادي تسميّها اللغة العربية الكُفور. جاء في لسان العرب : "والكافر من الأرض ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله أو يمرّ به أحد... وروي عن معاوية أنه قال: أهل الكفور هم أهل القبور. قال الأزهري: يعني بالكفور القرى النائية عن الأمصار ومجتمع أهل العلم. فالجهل عليهم أغلب وهم إلى البدع والأهواء المضلّة أسرع. يقول: إنهم بمنزلة الموتى لا يشاهدون الأمصار والجمع والجماعات وما أشبهها".

وأمّا القرية فقد ذُكِرت في القرآن قرابة الستين مرة في صيغة المفرد والمثنى والجمع. وقد ارتبط ذكرها في أغلب المواضع بالكفر والظلم والفجور والترف والعصيان، فكانت بذلك مجالا لأفظع عقاب ذكره القرآن وهو التدمير. والقرية مشتقة من ق ر و، ومن معاني هذا الجذر: الانتقال من مكان إلى آخر: وقَرَوْتُ البلاد قَرْواً وقَرَيْتُها قَرْياً واقْتَرَيْتها واسْتَقْرَيتها إذا تتبعتها تخرج من أَرض إِلى أَرض. ومن معانيه أيضا: لزوم المكان على سبيل العادة: رجع فلان إِلى قَرْواه أَي عادَ إِلى طريقته الأُولى؛ والاجتماع: وقَرَيتُ الماء في الحوض قَرْياً وقِرىً جمعته . تبدو هذه المعاني للوهلة الأولى على شيء من التناقض (الانتقال واللزوم والاجتماع). 

وقد دعّم لسان العرب ذلك بالتأكيد على أن "القَرْية من المساكن والأَبنية والضِّياع وقد تطلق على المدن. وفي الحديث: أُمِرْتُ بقَرْية تأْكل القُرى؛ وهي مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومعنى أَكلها القرى ما يُفتح على أَيدي أَهلها من المدن".


تبدو القرية إذا غير مختلفة من ناحية الحجم عن المدينة بل هي تختلف عنها بالوظيفة كما يرى هشام جعيّط.

 

 

 

ولكن القرآن تحدّث في موضعين عن "أمّ القرى" (الشورى: 7، الأنعام: 92)، ويقصد بها مكة، ووفق بعض المصادر فقد أطلقت التسمية أيضا على يثرب. يعني ذلك، في المحصلة أنّنا أمام ثلاثة أصناف من التجمعات العمرانية لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة الحجم. ولكنها تختلف من جهة نوعية السلطة فكثرة القرى في القرآن هي تجسيد لتشتت السلطة: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (الحشر: 14) في حين تمثل المدينة مركزية السلطة. وأمّا أمّ القرى فهي المركز الاجتماعي والسياسي والديني الأهم في القرى وما حولها ولكن السلطة الموجودة فيها كانت مشتتة: كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (الحشر: 7).

ولمّا كان الدين مرتبطا بالمدينة كما بيّنا ذلك سابقا فإنّ أهل القرى يعيشون في مرحلة ما قبل المدينة من جهة تعاطيهم مع السلطة والدولة. وربما لهذا السبب لم ترد لفظة المدينة في الشعر الجاهلي، فقد كانت كل أنماط الاجتماع البشري الحضرية الكبيرة المرتبطة بالعمران تسمّى القرية. 

لقد عرف العرب لفظة المدينة انطلاقا من القرآن الذي ذكرها في صيغة المفرد أربع عشرة مرة وفي صيغة الجمع (مدائن) مرتين. والملاحظ أن أغلب المواضع التي ذكر فيها اللفظ ارتبط بقصتين اثنتين هما قصة النبي موسى وقصة هجرة النبي محمد إلى يثرب.

وردت قصة النبي موسى في سورة الأعراف وقد ارتبط فيها ذكر القرية بذكر المدينة فمن جهة أولى تم التأكيد على تهديد أهل القرى بعذاب الله إن لم تستجب لدعوة النبي المرسل: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (الأعراف: 94)، ومن جهة ثانية تم ذكر لفظة المدينة باعتبارها تجمعا سكانيا عمرانيا خاضعا لسلطة حاكم هو فرعون: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (الاعراف: 123).
 
أمّا في قصة هجرة النبي محمد إلى يثرب فالخطاب القرآني يشير إلى أمرين متلازمين: (راجع في هذا المجال البحث الجيّد لعبد الرحمان الحاج، الخطاب السياسي في القرآن).

 



تحوّل يثرب إلى مدينة، ليس مدينة فقط بل "المدينة"، إذ سيؤول وصفها بالمدينة ليكون ذات اسمها، فما حولها كلّه مازال قرى، بما فيها مكة (أمّ القرى)، وهي أوّل قرية تصبح مدينة، إنه لسبب رئيس في تسميتها علميّا بالمدينة، فما من مدينة غيرها بل هي المدينة المثال التي يقاس عليها ويحتذى بها.
 
وإشارة القرآن إلى يثرب / المدينة كانت مشفوعة بجهاز مفهومي كامل يصف التغيّر الاجتماعي وتشكل جماعات جديدة. فمن بين المفاهيم التي ارتبطت بمفهوم المدينة: المؤاخاة ـ التعرّب ـ النفاق ـ الردة. العقود. والملاحظ أنّ أغلب هذه المفاهيم جديدة اختص بها القرآن. وهي ذات علاقة واضحة بوجود سلطة جديدة ارتفعت فوق روابط الدم القبلية وتجاوزت السلطات المشتتة التي جسّدتها القرى.

 

فالأعراب يقعون خارج سلطة الدولة والمنافقون هم كما بيّن ذلك منغمري وات هم أولئك الذين رفضوا الانخراط في الصراع الدائر بين الرسول وأعدائه وظلوّا ينتظرون مآل المعركة للانضمام للطرف المنتصر.  والمرتدون هم الذين رفضوا السلطة والدولة. وأما الخوالف والقاعدون فهم الذين رفضوا الانخراط في مشروع الدولة المتمثل أساسا في الجهاد. 

0
التعليقات (0)