كتاب عربي 21

حديث الثورات ونخبة شبابية جديدة.. أحداث كاشفة (42)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
لا أتعاطف كثيرا مع ذلك الأمر الذي تفرضه حوادث معينة، ومنها الاحتفالات بثورة 25 يناير العظيمة. ومحمل عدم التعاطف إنما يعود إلى رغبة مني بألا تكون ثورة يناير مجرد حدث موسمي احتفالي عند البعض؛ أو عند البعض الآخر مناسبة نبث فيها الهموم والشجون عن ثورة كانت وانقلاب قد حدث، فيما مصر الوطن تعيش أسوأ أيامها وفتراتها في التاريخ المعاصر في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو.

ومع ذلك فإن أمر الثورة جلل، والحديث عنه أو فيه أمر شديد التعقيد، ذلك أن حديث الثورات دائما لا ينتهي؛ ألسنا مثلا نرى الثورة الفرنسية إلى الآن تجري على الألسنة ويتحدث عنها الكثيرون في شرق المعمورة وغربها وعلى امتدادها؟ ألا يتحدث كثير من الناس الآن عن الثورة الإيرانية وما آلت منه وماذا تبقى منها؟ فمن المهم أن نؤكد أن حديث الثورات لا ينتهي بهذا المعنى، لأن الثورات في عرف الكثيرين ومنهم الأكاديميون تُعد حدثا استثنائيا. والاستثناء هنا يجد كل معانيه التي يتضمنها؛ من أحوال الضرورة، ومن العوامل الدافعة لها، ومن الأسباب التي تفجرها، ومن الحوادث التي ترتبط بها، ومن الأيقونات التي تصنعها، والرموز التي تصدرها، والشعارات التي تحملها.

الثورات في حقيقة الأمر أشواق لا تنتهي، وهي ترتبط بالآمال التي تتعلق بالحكم الراشد والمجتمع الفاضل، أي أنها تشكل في الحقيقة نزوعا تأسيسيا لنشدان الأفضل للإنسان في مجتمعه ونظام الحكم الذي تستحقه الشعوب، فتعبر عن إرادتها السياسية في بعض تلك الظروف لتشكل حالة ثورة أو مشروع ثورة.

وبهذا الاعتبار، فإن حديث الثورة لا ينتهي حتى لو مرت أيام وانقضت عقود؛ وأصاب مشروع الثورة ما أصاب، وجاءت "الثورة المضادة" بعد أن خرجت من جحورها ووقفت بكل طاقتها وقوتها ضد مشروع التغيير ومحاولة النيل من هؤلاء الذين قاموا به وعليه.

وتبدو الشعوب حينما تداعبها آمال التغيير وأشواق الثورات مختلطة المشاعر مختلفة الآراء حيال فعل الثورات يتداخل فيه السلبي مع الإيجابي. وربما يسود في وقت ما لدى حتى الذين يؤمنون بالثورات حالة من الحيرة؛ حينما يتصفحون صفحات الآمال وصفحات المآل، أي ما آلت إليه الثورات وما ترتب عليها من نتائج؛ وما ارتبط بها من تضحيات. وربما تشهد بعين الرؤية النظام يعود أسوأ مما كانت عليه الحال حينما قامت الثورات. يبدو هذا التناقض عجيبا ولكننا نقطع بوجوده، فأشواق في التغيير مشوبة بإحباط من حيث التأثير؛ وفي هذه الحال المضطربة ووضع الحيرة تقوم الثورة المضادة باستخدام هذا الوضع لتنفث كل سمومها ولتؤكد نظرتها الدنيئة لعمليات التغيير؛ فتشيع كل مشاعر الإحباط الذي تحاول أن تجعله يأسا مقيما، وتفرض على الألسنة كلمات مثل "مفيش فايدة"، وتتراكم مقولات من أن الثورة ماتت أو خابت أو انهزمت.

يحاول هؤلاء من كل طريق أن يسدوا الباب عن التفكير في ثورات قادمة ومُقدِمة، ويحاولون أن يبثوا الشعور بعدم الجدوى وعدم الجدية في فعل الثورات وآثارها، فتشيع مشاعر الحسرة والندامة ليتمنى البعض أنه لو لم يقم بثورة.. أحوال نفسية جماعية خطيرة يحاول كل هؤلاء ومعهم المستبد الذي يحاول أن يمكن لسلطانه؛ أن يقايضوا الناس بين الثورة كعمل يبث الأمل في حياة كريمة؛ وبين الموت أو السجن والاعتقال أو المطاردة كثمن لأي فعل ثوري أو أي فعل احتجاجي.

إن البعض قد يرسم المشهد على هذا النحو الذي لا يعبر عن الصورة الكاملة؛ من خلال الربط بين المشاهد القاتمة التي تكون الصورة الناقصة المحبِطة. ولكن جذوة الثورات لا تنطفئ ولا تنتهي، وأشواق التغيير لا تتوقف ولا تنقضي، والطلب على الكرامة وعلى العزة والاحتجاج لا يتوقف ولا يختفي. فقد ولّدت الثورات معاني الأمل في التغيير والقدرة عليه حينما نجحت ولو لوقت يسير، ويظل هذا الفعل يرفض كل حال يتعلق بالإذلال أو الاستعباد أو الاستبداد؛ باعتباره سببا لحال التخلف وحال عدم الإنجاز في الوطن.

وتفهم الشعوب كذلك أن المستبد مشروع خيانة، فإن من اغتصب السلطة ومن قطع الطريق على مسار ديمقراطي ومن غدر بسلطة شرعية؛ تطارده غدرته وتقاومه الفِطَر السليمة، لأن الظلم لا يمكن أن يدوم، وإن العمل من أجل الحرية لا بد وأن يكون، إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر.

فالثورات في النهاية هي علم إرادة الشعوب، وهي تسكن مفهوم السياسة لتؤصل معاني الكرامة والعزة ومواجهة الاغتصاب من أي قوة كانت وبأي شكل كان، ومن ثم تجعل من المقاومة حالة طبيعية ورد فعل حقيقي؛ لتقوم بأمرين: مقاومة ما يتسرب إلى النفوس من إحباط ويأس، وتمكين كل ما يتعلق بصناعة الأمل واستشراف المستقبل. وحينما يمارس الإنسان ذلك الفعل المقاوم إنما يريد أن لا يعيش أولاده وربما أحفاده ذات الحال التي عاشها، ليؤكد أنهم يستحقون حالا أفضل مما كان في حياته.

ومن هنا، فإن حال الثورات التدافعي ليس معركة واحدة؛ نقول من بعدها إن الثورة قد انهزمت والثورات المضادة قد انتصرت، ولكن التدافع المقاوم هو أصل لطلب كل إصلاح جذري ومواجهة كل فساد غالب "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".

إن هذه المعاني من الأهمية أن نؤكد عليها، فالثورات لم تغادر الميدان، وهناك عشرات الشواهد التي تؤكد ذلك. فالثورات لا تزال في الميادين حتى لو انتقلت من مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس إلى ميادين السودان والجزائر والعراق ولبنان.. والثورات لا تنقضي ببطش باطش أو بتمكن طاغية؛ ولكنها قد تندلع لمواجهة هذا الطاغية، ويتمني الناس محاسبته على ما اقترف في حق الوطن والشعب.

ومن هنا فإن "ثورة يناير" لا تزال تتحدث عن نفسها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنقضي أو تختفي جذوتها في قلوب من اشتاقوا للتغيير، ولا يمكنها كذلك أن تختفي كهاجس يظل في عقل وصدر المستبد؛ لا يفارقه ولا يمكّنه أن يحس بنشوة انتصار وقد تملّكه الخوف.. هؤلاء لا زالوا متمسكين بوهج ثورة، والمستبد لا يزال يخاف من استئناف ثورة. والثورة ها هنا ليست بسماح المستبد أو جوقته مهما فعلوا، أيضا هي ليست برغبات أو أمنيات من أهلها وأصحابها يتحدثون عنها حديث الأماني.

ولكن الثورة ستظل تقطن النفوس.. نفوس المستبد وأعوانه المشحونة بالهواجس والمخاوف قبل هؤلاء الذين يشتاقون إلى الثورة وآمال التغيير. ولكل فعل سننه التي ترتبط به وتتحرك بفعل تلك القوانين التي تحكمها، والحال الاستثنائية لا يمكن توقعها وإن كنا قد نشهد أكثر من مؤشر على وجودها وعلى حدوثها وعلى استئنافها في المستقبل.

الثورة ليست بسماح أحد، وهي بالأساس ليست بسماح المستبد، ولكن الثورة إرادة وفعل.. وهنا قد تكون تلك رسالتي الأخيرة والمتأخرة رسالة إلى هؤلاء الذين تساقطوا في فعل الثورة؛ من نخبة محنطة تحول بعضها لمجموعة منحطة لم تستطع أن تحافظ عليها وأن تحقق شروط استئنافها، ورسالة لنخبة شبابية مستحقة عليها أن تُدفع وتتدافع إلى المشهد الأمامي في التغيير وصناعته؛ في سياقات صناعة المستقبل الأفضل وتمكين شروطه وأدواته.. نخبة جديدة تتدافع مع نخبة قديمة لم تعد قادرة على إحداث التغيير المنشود والتخلص من حال الاستبداد بالناس، وابتداء جولات في التغيير والفاعلية والتأثير، وذلك وفق القانون الاستراتيجي الذي يؤكد أن "حال الفراغ لا بد أن يُملأ.. والفراغ يُملأ بك أو بغيرك". والاستبدال سنة ماضية آتية إذا لم تتحقق شروط فهم سنة التداول والتغيير.. "نخبة شبابية جديدة مناط التغيير وفاعلية التأثير".
1
التعليقات (1)
مصري جدا
الثلاثاء، 21-01-2020 09:05 م
خلاصة القول ،، منصات قيادة جديدة تكون قادرة على صناعة أدوات اعادة التوازن لمعادلة الصراع ،،، أما كونها شبابية او مختلطة فهذا يقرره من يختار القيادات وفقا لإجراءات مؤسسية وليست تعيينات وظيفية ،، الحراك والثورات والانتفاضات تفرز قياداتها ،،، وان لم تفرز تكون كموجات البحر التي تنتهي عند الشاطئ ،، منصات قيادة جديدة لأن بقايا قيادات المربع الإسلامي والعلماني تجاوزهما متطلبات الواقع وطموحات المستقبل ،، وما لم يستوعبه الكثيرين ان ثورة يناير لم تكن ثورة على مبارك ومنظومة مبارك فقط بل كانت ثورة على واقع وآليات وقيادات مرحلة بالكامل في النظام والمعارضة سواء بسواء ،،، وهذا ما ناديت به منذ سبتمبر 2014 ووقتها كانت التظاهرات تملأ الشارع المصري رفضا للانقلاب ودعما للشرعية ،د لكنها كانت شرعية دون مستوى المطالب والموارد المتاحة ،،، شرعية ظلت تكافح الانقلاب المسلح بنفس الفكر والادوات وكأنهم في دولة مستقرة يحكمها نظام منتخب ومعارضة تسعى للإصلاح ،،، مرة اخرى ،، منصات قيادة جديدة ،،،

خبر عاجل