كتب

تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة 48 كما يرويه الشيخ رائد صلاح

رائد صلاح
رائد صلاح

يكتسب الحوار المطول الذي أجراه الكاتب والإعلامي الأردني، وائل خالد أبو هلال، مع الشيخ رائد صلاح، الصادر في كتاب عن مركز الزيتونة عام 2018، قيمة استثنائية؛ لتضمنه شهادة حية من شخصية قيادية مرموقة تمتلك المعلومات الدقيقة عن تاريخ الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة سنة 1948، بحكم معايشته اللصيقة لأحداثها، وانخراطه في صناعة كثير من وقائعها منذ بداياتها مرورا بمراحلها المتعاقبة.


قدم الشيخ رائد سردا واضحا وصريحا في روايته لتاريخ الحركة الإسلامية منذ مرحلة التأسيس، ثم مرحلة التكوين والتنظيم، وانتشار الحركة في عموم مدن وقرى الداخل الفلسطيني، وما تبعها من خلافات في صفوف الحركة، بين جناح تزعمه الشيخ رائد وكمال الخطيب من جهة، وجناح آخر تزعمه الشيخ عبد الله نمر درويش، أفضت فيما بعد إلى انقسامها إلى قسمين (الشمالي والجنوبي).

 

وكان لافتا في شهادة الشيخ رائد تركيزه على خلفيات وأسباب الخلاف مع الشيخ درويش، وهو ما تجنب وقيادات الحركة الحديث عنه من قبل، تغليبا لمصلحة القضية العامة، وتحاشيا للدخول في مساجلات ساخنة مع الجناح الآخر، مع إنصافه لدرويش والثناء عليه في مواضع كثيرة، والإشادة بجهوده وإنجازاته، إلى أن حصلت القطيعة التامة بينهما، بعد حسم الأمور بحدوث الانقسام سنة 1996.


بدايات الصحوة الإسلامية


استهل الشيخ رائد سرده لشهادته من سنة 1973، حيث كان حينها طالبا في الصف الأول الثانوي، وكانت مدرستهم الثانوية في أم الفحم مدرسة مختلطة (طلاب وطالبات)، وكان معظم توجه الطلاب في ذلك من الوقت من الناحية السياسية إلى الحزب الشيوعي، والبعض كان يحمل الأفكار الشيوعية متظاهرا بالإلحاد، وكان بعض الطلاب يملكون الفكر الفطري الصافي وهو الاعتزاز بانتمائهم الإسلامي وتاريخهم ولغتهم، ولكن لم تكن لديهم أي ثقافة إسلامية من الممكن أن يواجهوا بها التيار الشيوعي السائد في المدرسة في ذلك الوقت".


ويكشف صلاح عن مدى تعطش الشباب حينذاك إلى كتب تسعفهم في مواجهة التيار الشيوعي، وهو ما دفعهم إلى التواصل مع مكتبات الضفة الغربية لعدم وجود أي مكتبة إسلامية في الداخل، ذاكرا أن أشهر كتاب أعجبهم كطلاب، وقرأوه أكثر من مرة كان كتاب (القرآن: محاولة لفهم عصري) للدكتور مصطفى محمود، والذي كان بمثابة الضالة التي يبحثون عنها لتكوين الثقافة الإسلامية في تصديهم للتيار الشيوعي آنذاك".


وتحدث الشيخ عن الجيل الذي سبقهم بأنه "لم يكن فيه أي توجه إسلامي، وحتى الأساتذة الذين كانوا يدرسونهم لم يكن فيهم أي شخص ذو توجه إسلامي إطلاقا سوى استثناء وحيد، كانوا يستفيدون من معلم اللغة العربية، أو من حصة التعليم الإسلامي، وكانت حصة واحدة في الأسبوع، وكان يعلمهم بعض المعلمين الذين جاءوا من الضفة الغربية".


ولفت إلى ظاهرة جديدة من نوعها، لم تعشها أم الفحم في كل تاريخها السابق، بدأت بالظهور عام 1974، تمثلت بظهور مجموعة من الشباب التائبين، الذين بدأوا يرتادون المساجد، ويلتزمون بالمظاهر الإسلامية، ويذهبون إلى البيوت ويدعون غيرهم للإسلام، مع أنه لم يكن لديهم أي ثقافة إسلامية سوى العاطفة الإسلامية التي دفعتهم نحو المساجد والدعوة، وهو ما لم يجد الشيخ تفسيرا محددا له سوى القدر الإلهي.


وتوقف الشيخ عند قراره التوجه لدراسة الشريعة في الخليل سنة 1974، وهو ما فتح الباب له ولرفقائه في تعلم العلم الشرعي، والالتقاء بأساتذة وشيوخ ودعاة من الضفة الغربية، ما أهلهم أثناء الدراسة وبعدها لممارسة الوعظ والتدريس والخطابة في مساجد الداخل الفلسطيني، وجعلهم يجتهدون في تنظيم نشاطات دعوية ومسجدية، كإقامة صلاة التراويح جماعة في المساجد، وصلاة العيد في ملعب كرة القدم والساحات العامة، وترتيب أعمال الخير وإعانة المحتاجين عن طريق لجنة الزكاة، وإقامة المهرجانات الكبيرة في المناسبات الإسلامية كمعركة بدر، وفتح مكة، وليلة القدر.


انطلاقة الحركة الإسلامية في الداخل


كانت الانطلاقة المنظمة للحركة الإسلامية في الداخل سنة 1984، وكان الشيخ عبد الله نمر درويش الذي يُعد المؤسس للصحوة الإسلامية في الداخل، متواجدا في الاجتماعات واللقاءات المخصصة للاتفاق على وضع إطار تنظيمي للحركة، بعد خروجه من السجن على خلفية ما عُرف بـقضية "أسرة الجهاد" (عمل مسلح سجن الشيخ درويش ومجموعة معه بسببه ثلاث سنوات)، ولم يكن للشيخ رائد صلة بذلك.


ويذكر الشيخ رائد أن التوجه لإيجاد إطار تنظيمي للحركة الإسلامية كان بعد مخاض فكري حول تحديد هويتهم، وتمييز أنفسهم بشكل جدي، بعد اتضاح وجود أكثر من اتجاه إسلامي في الداخل الفلسطيني، كان هو وكمال الخطيب يمثلان خطا، يصفه بقوله "كنا مع خط الامتداد للحركة الإسلامية العالمية"، والشيخ عبد الله نمر -ومن معه- يمثل خطا آخر، المتمثل بفصل منطقة الداخل الفلسطيني عن الخارج.


ويتابع الشيخ سرده لأحداث تشكيل الإطار التنظيمي للحركة، برئاسة الشيخ عبد الله نمر درويش، وما ترتب على ذلك من التعامل مع الداخل الفلسطيني كوحدات إدارية، لها ممثلون في هذه الإدارة، ومع إشادة الشيخ رائد بما كان لها من إيجابيات كبيرة في ترتيب دقائق العمل تحت اسم الحركة الإسلامية بكل تفاصيلها، إلا أن مواطن الخلاف بدأت تبرز مع الشيخ درويش منذ ذلك التاريخ.


انقسام الحركة الإسلامية


حدد الشيخ رائد أبرز المجالات التي ظهرت فيها الخلافات بين الاتجاهين في النقاط التالية:


الإعلام الإسلامي، وتحديدا مجلة الصراط، تأسست سنة 1985، فقد أظهرت مقالات الشيخ درويش خلافه معهم خاصة فيما يتعلق بالعلاقة والتعامل مع الكيان الصهيوني.


مجال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: حيث كان للشيخ درويش توجه سياسي مستقل ومختلف عما توافقوا عليه، فدرويش كان يُشبه حال فلسطيني الداخل بحال المهاجرين عند النجاشي، وعليه يجب أن تبنى رؤاهم وسياساتهم.


انتخابات الكنيست: كان الشيخ درويش يرى دعم بعض المرشحين لانتخابات الكنيست، خلافا لرأيهم في مقاطعة الانتخابات.


القضايا الإسلامية العامة: بروز نقاشات حادة حول المواقف السياسية، كالعلاقة مع الآخر على الصعيد الإسلامي.


التصريحات الإعلامية: تصريحات الشيخ درويش للإعلام العبري التي لا تنسجم مع رؤاهم وقناعاتهم.


وطبقا للشيخ رائد فإن الانتفاضة الأولى كانت من المحطات التي وسعت دائرة الخلاف بين الاتجاهين، وزادت من حدتها، فبعد اندلاع الانتفاضة الأولى سنة 1987، قامت الحركة الإسلامية في الداخل بأعمال ونشاطات إغاثية وإعلامية، لدعم الانتفاضة بجمع التبرعات الإغاثية وإرسالها لغزة، وقامت بتشكيل لجنة إغاثة إسلامية قطرية، كان من مشاريعها كفالة الأيتام والعائلات، ودعم القطاع الصحي، وزيارة بيوت الشهداء والأسرى في الضفة الغربية وقطاع غزة.


ويذكر الشيخ رائد أن الشيخ درويش أصدر في تلك الأيام بيانا، أكدّ فيه أنه ليس لهم علاقة بحماس، وأنهم لا يمثلون حماس، وحماس لا تمثلهم، وهو ما أثار نقاشا ساخنا مع درويش حول البيان ومضامينه، ويصف الشيخ رائد تلك المحطة بأنها "من المحطات المفصلية في تاريخ الحركة الإسلامية في منتصف 1988 تقريبا، والتي بعدها زادت حدة التوتر في الإدارة العامة للحركة، وهو ما دفعهم للاتصال بشخصيات في الضفة الغربية للخروج من هذه الأجواء المشحونة.


ويشير الشيخ رائد إلى أن كل الجهود المبذولة لم تفلح في معالجة تلك الخلافات، وتقريب وجهات النظر، وردم الهوة بين الاتجاهين، التي تحولت فيما بعد إلى حالة من عدم الثقة بين الطرفين، إلى أن تولدت لدى الشيخ رائد ومن معه، بعد نقاشات طويلة وساخنة، قناعة مفادها أنه لا بد من عملية الحفاظ على الأصول الثابتة للحركة الإسلامية كما عرفوها، وأنه لا بد من عملية تصحيح شاملة، ما أدّى إلى انقسام الحركة الإسلامية إلى قسمين (القسم الشمالي بزعامة رائد صلاح، والقسم الجنوبي بزعامة عبد الله نمر درويش).


تجربة المجالس المحلية


من المحطات المهمة في تاريخ الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، مشاركتها في الانتخابات المحلية سنة 1989، وقد ترشح فيها الشيخ رائد عن أم الفحم، وكانت نتائج الانتخابات مفاجئة بنجاح الحركة في الرئاسة لبعض البلديات، والمشاركة في العضوية لجميع البلديات، ومن البلديات التي فازت الحركة فيها بالرئاسة، أم الفحم، وجلجولية، وكفر برا، وكفر قاسم، ورهط.


ويلفت الشيخ رائد إلى أن "هذا النجاح الكبير والمفاجئ حسن الأجواء الداخلية، والعلاقة مع الشيخ درويش، الذي قام بزيارة تهاني لكل الذين فازوا، كما أفرز عدة أمور من أهمها:


بداية ظهور رمزية الشيخ رائد وغيره من القيادات المحلية، وهذا يعني إبراز قيادات جديدة إلى جانب الشيخ درويش.


هذا النجاح مؤشر على مقياس القوى في الساحة الفلسطينية، ويمكن تقدير ذلك إذا عرفنا أن المنافس كان هشام محاميد عضو كنيست ورئيس بلدية لخمس سنوات.


انفتاح الإعلام العبري والعربي على الحركة ورجالاتها


دفعت هذه الانتخابات بعدة شخصيات من الحركة الإسلامية للواجهة، ما وفر لها فرصة لإبراز رأيها في الأحداث والقضايا التي تهم الساحة الفلسطينية.


ويشيد الشيخ رائد بتجربة الحركة الإسلامية في المجالس المحلية أنها بما أتاحته لها من فرص للالتقاء مع الآخر الفلسطيني للتباحث والتعاون في شؤون القضية والشعب الفلسطيني، وإخراج الحركة من الهمّ الداخلي والخاص إلى الهم العام والشعبي، ودفعها للانخراط في قضايا الانتفاضة والمقدسات، والسلطات المحلية العربية، ومعها كانت البدايات الأولى لدخول رجالات الحركة للمسجد الأقصى، كما أن مشاركتهم تلك مكنتهم من الخروج من فلسطين إلى الخارج، كأداء فريضة الحج، وزيارات خارجية لأمريكا وغيرها.


الدفاع عن المسجد الأقصى


يتحدث الشيخ رائد أن اتجاهه بعد سنة 1996 (سنة انفصال الحركة) دخل على خط العمل في المسجد الأقصى، وهو ما انعكس عليهم في أكثر من جانب، مع اجتهادهم بعد الانفصال بعدم إقحام جمعية الأقصى في الانفصال وتبعاته، وبقي الشيخ كامل ريان رئيسا لها.


وكان دور الجمعية في بداية الأمر الاهتمام بوضع المقدسات في الداخل الفلسطيني (ترميم مساجد، حماية المقابر..)، لكن بعد الانفصال انقطع كامل الأعضاء انقطاعا كليا عن هذه الجمعية من الاتجاه الآخر، وبقي فيها أعضاء اتجاه رائد صلاح، واستمرت الجمعية في عملها.


وقامت الحركة ببناء وحدة حمامات (متوضأ) في باب حطة، وباب الأسباط، ثم وحدات حمامات في باب فيصل، ثم بدأ مشروع إعمار المصلى المرواني، ثم إعمار الأقصى القديم ثم إعمار قسم من المسجد الأقصى (الجامع القبلي)، ولحق ذلك فتح البوابات الكبيرة في المرواني، وإقامة المدرجات على إثر فتح تلك البوابات، ثم توالت المشاريع بعد ذلك.


ومن تلك المشاريع إقامة إفطارات جماعية، ودروس عامة، ثم وصل الأمر إلى مسيرة البيارق بدءا من سنة 1999، ثم بعد ذلك مسلمات من أجل الأقصى، ومصاطب العلم، ثم مهرجان (طفل الأقصى).
ويذكر الشيخ رائد أنه منذ عام 1996 بدأت الحركة بعقد مهرجان سنوي كبير جدا باسم (الأقصى في خطر)، وقد لاقى نجاحا كبيرا جدا لدرجة أن عدد الحضور وصل إلى خمسين ألفا، وبدأ يستقطب كل القوى السياسية بلا استثناء.


ويشدد الشيخ رائد في ختام حواره على أن ما قامت به الحركة الإسلامية في الداخل، والذي جعلها صاحبة الدور البارز المتقدم في هذه القضية، صعّد من خطاب المؤسسة الإسرائيلية والإعلام ضد الحركة، وهو ما عرض الحركة ورجالاتها للتضييق والاعتقالات المستمرة.


ويُذكر أن الشيخ رائد صلاح قضى عقودا من عمره بين الاعتقال والإقامة الجبرية؛ بسبب مواقفه المبدئية والصلبة في الدفاع عن المسجد الأقصى، وتمسكه بالهوية العربية والإسلامية، التي كان آخرها الحكم عليه بالسجن 28 شهرا في العاشر من الشهر الجاري، وكانت سلطات الاحتلال حظرت الحركة الإسلامية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015؛ بدعوى ممارستها أنشطة تحريضية ضد إسرائيل.

0
التعليقات (0)