أخبار ثقافية

كالفن: كيف قاد الإرهاب الديني إلى العلمنة (2-2)

مارتن لوثر جون كالفن - تويتر
مارتن لوثر جون كالفن - تويتر

بعد تثبيت سيطرته على مدينة جنيف، حاول كالفن نشر إصلاحه في فرنسا، لكنه وجد صعوبة في ذلك بداية، حيث لم يكن معروفا هناك، ومع نشر كتابه مبادئ المسيحية باللغة الفرنسية عام 1541 بدأت أفكاره تنتشر في جميع الأوساط، وشيئا فشيئا سيطر فكر كالفن على الإصلاح الفرنسي.

واكب تطور الكالفينية في فرنسا توسع الاضطهاد الديني بعدما توافق ملك فرنسا فرانسوا الأول مع الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس (شارلكان) على محاربة البروتستانتية الصاعدة، وفعلا شهدت السنوات الأخيرة من حكم فرانسوا الأول في فرنسا عمليات إعدام واسعة بحق اللوثريين والكالفينيين.

واستمر هذا الوضع مع ملك فرنسا الجديد هنري الثاني (1547- 1559) الذي حاول سحب صلاحيات البرلمان في محاكمة الهراطقة، ونقلها إلى الكنيسة الكاثوليكية، والسبب في ذلك أن جزءا من البرلمان أصبح يؤمن بالعقيدة الكالفينية.

وقد وصلت الأمور بين الملكية الفرنسية والهغونوت ـ هو الاسم الذي يطلق في فرنسا على اللوثريين والكالفينيين ـ إلى طريق مسدود، وليس بالإمكان تكرار تجربة سلام أوغسبورغ الألماني في فرنسا، لأن ألمانيا كانت عبارة عن إمارات شبه مستقلة، ولا يوجد فيها حكم مركزي قوي كما هو الحال في فرنسا.

كاترينا دي ميديتشي

مع وصول فرانسوا الثاني إلى سدة الملك، وكان عمره 15 سنة، كانت البروتستانتية قد انتقلت من تنظيم كيانها الكنسي إلى تنظيم كيانها الحزبي مع انضمام سلالات عريقة إلى البروتستانتية أمثال آل البوربون وآل شاتيون، وما لبث أن اندلع الصراع بين هاتين العائلتين مع آل غيز الكاثوليك الذين نجحوا في بسط نفوذهم وإعادة ملاحقة البروتستانت واضطهادهم.

في ظل هذا الصراع، تولت والدة الملك الصغير كاترينا دي ميديتشي زمام الأمور، بإنشائها عام 1560 قرارا ينص على عدم ملاحقة الهغونوت، في وقت حافظت فيه على توازن بين المؤيدين للكاثوليك والمؤيدين للبروتستانت، ثم أعقبت ذلك عام 1561 بإصدار قرار يشجع الحرية الدينية، لكن دون أن يصل الأمر إلى حد الاعتراف الرسمي بالبروتستانتية، فما تزال الملكية الفرنسية كاثوليكية.

وضمن سياستها الوسطية في إرضاء الطرفين المتنازعين، عمدت الملكة كاترين إلى منع البروتستانت من تأسيس جمعيات لهم، لكنها كانت تعمل على التوفيق بين الجماعتين، وعقد لهذا حوار فورمس ثم حوار بواسي.

ومع فشل الحوارين، لم يكن أمام الملكة التي كان هدفها منع الحرب الأهلية والحفاظ على الدولة الفرنسية، إلا خيارين: اعتماد الخيار الألماني (لكل إمارة دينها الخاص حسب أميرها) وهذا غير ممكن لأنه يفتت الدولة، أو اللجوء إلى القوة لتوحيد الدين.

وفعلا، اضطرت الملكة إلى اعتماد الخيار الثاني، لكن قبل ذلك، قامت بخطوة إصلاحية أخيرة، حين دعت إلى اجتماع سان ـ جرمان الذي خرج بقرارين: الأول منع البروتستانت من إقامة تجمع دينية داخل المدن، والثاني، السماح بالتجمعات الدينية لهم في خارج المدن.

بعد ذلك، وقعت مجزرة واسي، عندما قاد دوق من الكاثوليك ومعه حراسه المسلحون بقتل نحو ستين شخصا من الهغونوت، ومع انتشار خبر هذه الجريمة، صعد الهغونوت من خطابهم، واندلعت المعارك الأهلية، إلى أن استطاعت الملكة كاترين إصدار قرار أمبواز عام 1563 وهو القرار الذي ورد فيه لأول مرة تعبير حرية الضمير.

استمر الهدوء في فرنسا لمدة عامين، 1564- 1566، غير أنه وقعت حادثتان غيرتا الأمور رأسا على عقب، كانت الأولى عندما أقدمت جماعة من الهغونوت في مدينة نيم على ارتكاب مجزرة في ساحة الأسقفية أسفرت عن مقتل ثمانين شخصا، فيما كانت الحادثة الثانية أخطر وذات نتائج دينية وسياسية كبيرة، فقد أقدم الأمير دي كونديه على محاولة إلقاء القبض على الملكة كاترين وابنها الملك شارل التاسع، ثم قيامه بمحاصرة باريس.

هاتان الحادثتان، ساهمتا في تغيير موقف كاترينا تغييرا كبيرا، وبدأت تضمر لقادة الهغونوت عداوة شديدة، لكنها حافظت على رزانتها في التعاطي مع الأمور ولم تنحدر نحو عمليات انتقامية قد تؤجج الفتنة.

استغل بعض أمراء الكاثوليك هذا الوضع، ونفذوا مجزرة سان برتيليمي الشهيرة عام 1572.

المقاومة الكالفينية

في ظل هذه الأوضاع كان أتباع فكر كالفن والكالفينيون، يؤسسون لنظرية العصيان والمقاومة العنيفة ضد الملك، لكنهم كانوا يحتاجون إلى نظريات جديدة دينية وسياسية معا من أجل تحريك الضمائر والعقول.

اعتبر كالفن أن وعود المسيح في العهد الجديد هي إعادة تأكيد للناموس القديم، الذي مثله بالقول، إن سلسلة من الاتفاقات الأساسية صارت لازمة بسبب العصيان الأول لآدم، فعلى نتائج السقوط صار قياس تطور البشرية الديني عبر سلسلة من العهود، أولها تم بين الله وآدم، بينما تمت الاتفاقيات اللاحقة مع نوح وإبراهيم وموسى، وتجددت أخيرا بتضحية المسيح.

وبناء على هذه النظرة، صار ممكنا للجماعة أن تعيد تأسيس علاقتها التعاقدية مع الله، وليس مع الملك الذي ابتعد عن أهدافه الموضوعة له من قبل الله.

إنها الظروف التي دفعت الكالفينيين إلى إعادة إحياء بعض الأفكار السياسية التي تنتمي إلى العصور الوسطى، مثل سمو الجماعة والقانون، وتبادل الالتزامات ذات الأساس التعاقدي بين الجماعة والملك، وشرعية مقاومة الطاغية عندما تنبثق عن السلطات الطبيعية.

وساهم اللاهوت وإحياء القانون الروماني الخاص، لا سيما التعاقدي منه، والأيديولوجيا الإقطاعية في نشوء نظرية الدولة التعاقدية.

وانتقل الهغونوت من نظرية دينية في المقاومة إلى نظرية سياسية في المقاومة قائمة على فكرة عقد يولد حقا أخلاقيا، وليس مجرد واجب ديني في مقاومة الحاكم لا ينفذ واجبه في تحقيق الخير للشعب، وقادت فكرة العقد منطقيا إلى التمييز بين وظيفة الحاكم وشخصه.

كان الدفاع الفعال عن الإيمان الحقيقي في صراعه ضد الملكية الموحدة، يتجه لبعث التطلعات الإقطاعية والاتحادية المعادية للحكم المطلق، وذلك خلف ستار من المصطلحات الوسيطية، كالشعب والعقد والقسم الأسلم.

وفي عام 1574 كتب تيودور بيزا خليفة كالفن تأسيسا نظريا يتناول حق المقاومة على أساس حجج من العهد القديم تقوم على أن داود وسليمان اختارهما الرب، لكنهما أصبحا ملكين بفضل مبايعة الشعب، ومن هنا فإن سلطة الملك مشتقة من سلطة الشعب.

ومنذ نهاية خمسينيات القرن السادس عشر، دعا الكالفينيون الراديكاليون إلى حق الشعب في المقاومة، لا حق لأصحاب المركز والنفوذ، وارتكزوا على موقفهم الإيماني بأن لكل فرد تعاقدا مع الله، وتبنوا نبرة أنبياء إسرائيل بإنذار الشعب بعقوبات من الله إذا لم يقاوم الشر والطغيان، هنا تحولت المقاومة واجبا دينيا.

ففي وجه ملوك معادين صراحة للدين الحقيقي، ومصممين على إيقاف تقدمه بأي ثمن، كان على الكالفينيين أن يخوضوا غمار المقاومة النشيطة، وهي مقاومة ازدادت ضراوتها شيئا فشيئا، حيث بدأت أولا في أسكتلندا على يد جون كنوكس، أحد أتباع كالفن، ثم انتقلت بشكل خاص إلى فرنسا التي استمرت الحروب الدينية فيها من عام 1562 وحتى إقرار مرسوم نانت عام 1595.


الإصلاح المضاد

من أحد مفارقات الأفكار في التاريخ، أن الكاثوليك الراديكاليين، الأعداء الأشداء للكالفينيين، أخذوا يعتنقون أفكار الأخيرين حول الحكم التمثيلي المضاد للحكم المطلق، وحول الحق الإلهي في التمرد على الطاغية، لكن لأسباب مختلفة.

ففيما كان الكالفينيون يطالبون بكنائس محلية خاصة بهم في مواجهة الكنيسة الملكية الكاثوليكية، كان الكاثوليك الراديكاليين او فيما عرفوا آنذاك بـ الجزويت، يطالبون بإعادة السلطة الروحية للبابا في روما، أي العودة بالأمور إلى ما كانت عليه في العصر الوسيط، وعند هذه النقطة التقى الطرفين في معاداة الملكية الوطنية، ممثلة في الدولة الفرنسية.

وراح الغزويت يطلقون النظريات السياسية ضمن ما سمي بالإصلاح المضاد، وبدأوا يعلنون أن سلطة الملوك لا تأتي من الله ولا من البابا، وإنما من الشعب، وهذا يفترض أنه لا ينبغي أن يكون الحكم الزمني قادرا على المطالبة بطاعة مطلقة من رعاياه.

هذه الأفكار السياسية ذات الأهداف الدينية، ستتعلمن لاحقا على يد جون لوك، الذي تحول واجب الطاعة عنده من أصوله الدينية إلى أصوله السياسية، أي واجب على المواطنين عصيان ملوكهم إذا لم يقوموا بواجباتهم تجاه رعاياهم.

في عام 1598 اعترف هنري الرابع بالهغونوت، لكن التصورات التوراتية في شأن حق المقاومة عمرت في بريطانيا في صراع الكنائس الطهرانية عموما والمشيخية الأسكتلندية خصوصا مع الكنيسة والملك.

في ظل هذه الأوضاع، بدأت الدولة الفرنسية تفرض نوعا من التسامح الديني، في محاولة لمنع انحدار البلاد نحو حرب أهلية جديدة، لكن الملكية أو الدولة الفرنسية، بدأت الاعتماد على بعض المنظرين لخلق ولاء يتجاوز القيم الدينية، ولاء وطني يجمع ويضم كل الفرق الدينية، وكان هذا الولاء ممثلا في شخص الملك وحقه الإلهي في الحكم.

ومع أن هذا الحق الإلهي ليس سوى عبارة عن حكم استبدادي تمثل أولا في حكم لويس الرابع عشر في فرنسا، إلا أنه فرض منطق الدولة، وساهم في إحياء الوطنية الفرنسية لاحقا.

 

اقرأ أيضا: كالفن: كيف مهد الإرهاب الديني إلى العلمنة 1-2

التعليقات (1)
morad alamdar
الثلاثاء، 03-03-2020 11:55 ص
الأمر المفارق أنّ غياب الأندلس هذا عن ذاكرة الإنسان العربي ، صاحبهُ حضور قوي للأندلس و الأندلسين في واقعة الأمة الإسبانية ، التي تشكّلت في شبه الجزيرة الإيبيرية عقب سقوط غرناطة . ذلك أن حكام إسبانيا الجديدة شغلوا و طوال مدة مديدة بقمع الأندلسيين الذين بقوا في أوطانهم ، ما بين تشريد و تنصير و تقتيل ، فلما آن للأحقاد في صدورهم أن تهدأ ، و قد قضوا نهائياً على البقية من صانعي الحضارة الأصلاء في هذا البلد الجميل ، عادوا ينظرون إلى القضية نظرة أخرى . إنّا لنقول في هذا ، كلمة : إن كان( الدم الإسباني ) ، الذي اغتذت منه عروق الأندلسيين ( و لم يكن بطبيعة الحال إسبانياً خالصاً ) هو العنصر الفاعل في بناء صُروح هذه الحضارة ، فلمَ لم يتأتَّ ، لهذا الدم الإسباني الآخر من شبه الجزيرة الإيبيرية ، و قد كانت الرقعة المسيحية تتّسع شيئاً فشيئاً ، و تظلّ مع ذلك قاصرة عن أن تُقيم حضارة ، على حين الرقعة الأندلسية ، التي تضيق باستمرار ، تُنتج و تُبدع ، و آخر آياتها قصر الحمراء ؟! و هناك كتاب ( فضل الأندلس على ثقافة الغرب ) تأليف المستشرق الإسباني الكبير البروفسّور خوان فيرنيت : صحيح أنه كان الأندلسيين كثير ، و كثير جداً ، من أبناء الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام ، و تناسلوا في ظلّ دولة الإسلام ، و تربّوا على قيمه ، و تشبّعوا من ثقافته ، و كانت منهم الغالبية من الأمة و من الجُند المدافعين عن الأندلس في تلك الحروب العنيدة ، و هؤلاء جميعاً أسهموا في إبداع حضارة البلاد و هي حضارةٌ إسلاميّة على نحو ما أسهم أهل البلاد المفتوحة في كل مكان خفقت فيه راية الإسلام ، دمشق و بغداد و الفسطاط و القيروان ، مثلاً .. أقول : إنّ الفتح لم يكن قطّ عربياً عنصرياً و إلاّ كان غزواً يكتب بيده نهايته ، بل كان ( عقائدياً ) إسلامياً و حضارياً إنسانياً ( المقدمة : ص 51 ) . و لا ننسى أيضاً أن الحضارة الغربية لها أيضاً علاقة بالمسيحية ، و لكن المسيحة لا تختصر وحدها الحضارة الغربية ، ففي المسيحية جزء كبير لا علاقة له بالحضارة الغربية ، و في الحضارة الغربية أشياء أساسية لا علاقة لها بالمسيحية . الديمقراطية في أثينا وجدت قبل المسيحية ، و القانون الروماني الذي أساس الحضارة الغربية إلى الآن ، وجد قبل المسيحية ، و لكن يبدو الآن و كأن الديمقراطية و القانون و الحقوق هي عماد الحضارة الغربية .