أخبار ثقافية

ماذا لو تجرأنا على قراءة أخرى لكتابات مانغويل؟

مانغويل لديه منشورات تفوق الأربعين مؤلفا تخاطب العالم بكل لغاته- cc0
مانغويل لديه منشورات تفوق الأربعين مؤلفا تخاطب العالم بكل لغاته- cc0

أن تقرر الكتابة عن رجل في مكتبته أربعون ألف كتاب ومنشورات تفوق الأربعين مؤلفا تخاطب العالم بكل لغاته، هذا في حد ذاته يتطلب طقوسا خاصة ولو أنك قد تخير بين أن تظل قارئا جيدا لكتبه على أن تكون كاتبا " مسيئا" لها. فأنت في حرم صاحب الثلاثية الشهيرة "تاريخ القراءة" و"فن القراءة" و"يوميات القراءة" بالإضافة إلى "المكتبة في الليل".


إن هذه الكتب التي نقلت تجربة الروائي الأرجنتيني إلى الشارع العربي، كانت أيضا سدا منيعا أمام محاولة وزير الثقافة السابق محمد زين العابدين في تأجيل موعد قدومه إلى تونس وأمام محاولته القضاء على احتمالية ولادة قراء جدد. 


وللكتب سلطتها في تحرير الفكر وتحرر المواطن من قيود الإملاءات البيروقراطية. وهكذا يوم "تسلطت" الكتب واستلمت عرش الحكم ولو وقتيا، حل بيننا ألبرتو مانغويل حاملا معه مشاريع قراء جدد ومفتتحا لمنعرج جديد في علاقة المواطن التونسي مع القراءة و أيضا في علاقة الكاتب مع قرائه.


لم يكن مسموحا إدارة اللقاء في مؤسسة بيت الرواية واحتضنته المكتبة الوطنية، وفي الواقع لا معنى للأمكنة أمام مبدع يؤمن أن جذوره هي مكتبته ولا انتماء له إلا هذه المكتبة. استقبله الروائي ومدير بيت الرواية كمال الرياحي ببيت من إرادة الحياة للشاعر التونسي أبو القاسم الشابيّ حين قال: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".


واستقبلته مديرة المكتبة الوطنية رجاء بن سلامة باستعراض تاريخ مكتبة وطنية محملة بالأسرار ولعله سرا من أسرارها وكنز من كنوزها. واستقبله الشاعر آدم فتحي بسؤال عن هذا الشغف بالقراءة وكان الشاعر يسرب إلينا ألمه كلما جبر على إنهاء المقابلة وكانت أسئلته مستفاضة ولا حد لها فكل إجابة تقود إلى سؤال وكل سؤال يقود إلى أسئلة أخرى، وكان واضحا أنّ آدم فتحي بينه وبين نفسه يردد: "بالله أي أسئلة ستفي عطشي وعطش الحاضرين إلى معرفة المزيد عن الرجل المكتبة". تتكاثر الأسئلة حين تكون لقارئ يعتبر أن القراءة عملية لممارسة الحب، والكتاب كعشيقته، مهلا، لا تبحث عن تلك العشيقة بين صور أجمل الفتيات وإنما بين رفوف كتبه الأربعين ألف. فإن لم تسبق وقرأت لألبرتو مانغويل، حان الوقت لتتجرأ وتتلذذ خيانته مع واحدة من عشيقاته.


في معنى "التطبيع" مع مكتبة

 
لا يمكن أن تستمع إلى مانغويل ولا ترى هذا الكم من الكلام غير المنطوق، هذا الصخب، هذي الحياة في عينيه. ولا تسأل مانغويل كم عمره بل لتسأل كم من أعمار يحمل وكم من أعمار قادمة إليه.

 

ونستحضر أن أحد الحاضرين في اللقاء التاريخي في تونس، سأل مانغويل: "ما سرك في هذا الصغر الذي لا يغالطنا ولا يؤشر لعمرك الحقيقي، هل هذا هو مفعول القراءة؟" ابتسم الرجل ونظر إلى السائل مجيبا بما معناه: "إنك تعيش أكثر من حياة داخل حياة واحدة". هذا البرتو مانغويل طفل الثامنة الذي تدرب على الحياة في مخبر الكتب لينتج مخابره، من 1948 إلى 2020: 74 سنة، تختزل مئات آلاف الكتب المقروء، مئات آلاف التجارب الإنسانية التي تشاركها مع شخصيات المؤلفات.


بدأت مسيرته بتاريخ القراءة سنة 1996 إلى المكتبة في الليل سنة 2007 والأوديسا والإلياذة هوميروس سيرة 2008، هو ألبرتو مانغويل العاشق الرحالة الذي أتانا من الأرجنتين إلى كندا وكوبا، وإسبانيا وفرنسا. تنقل بين عدة دول وكأنه يتنقل من كتاب إلى آخر وكأنه يعيد ترتيب التاريخ ويؤسس لحضارات فوق الحضارات، هذا العاشق الذي يصح عليه قول المتنبي: "على قلق كأن الريح تحتي" ويصح عليه قول شوبنهار: "لم تمر بي أبدا محنة لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة"، ويصح عليه قول محمود درويش: "سمائي فكرة والأرض منفاي المفضل"، هذا العاشق الذي نفي عنه تهمة التطبيع مع إسرائيل والحال أن تهمة التطبيع ثابتة عليه فالرجل "مطبع" مع مكتبته.


القراءة فن التفاعل

 
يفسر مانغويل القراءة كعملية تفاعل: فثمة تبادل مستمر بين الكاتب والقارئ والقارئ ومجموعة القراء الآخرين. فالقراءة سلسلة من اللقاءات التفاعلية نحو بناء متجدد للفكر. وهو ما يدافع عنه في كتابه يوميات قارئ مستندا في ذلك إلى تجربته الذاتية في القراءة وعاداته لبعض القراءات. فالقراءة لا تعترف بحدود. يقول إدوارد سعيد: "الإنسان الذي لم يعد له وطن يتخذ من الكتابة وطنا له" ويقول ألبرتو مانغويل: "أنا لا أنتمي إلى بلد واحد أنا ابن هذه الأرض" يفصل عالمه عن المكان والزمن ويحول الكتاب وطنا. يعمل كجامع للأعمال الأدبية المهمة، مترجم، ومحرر، وروائي وكاتب مقالات.


القرية الكونية أو القرية الصغيرة

 

 إن تفسير مانغويل لفن القراءة يضعنا أمام مراجعة مفهوم القرية الكونية أو القرية الصغيرة وينصلها من ارتباطها المطلق بالتطور التكنولوجي. فحين يحدثنا مانغويل عن زيارة وطن من خلال كتبه وعن القراءات التي لا تعرف حدود وعن العوالم التي يعيش بينها دون تنقل وتفتحها كتبه دون جوازات سفر ولا تأشيرة عبور. حين يحدثنا عن لغاته التي يقرأ بها كتبه، كل هذه دلائل على أن الكتاب هو من أرجع العالم إلى قرية صغيرة. سئل مانغويل في أحد مقابلاته عن تأثير التكنولوجيا الحديثة فقال أن التكنولوجيا ترتكز في تطورها على الكتاب وأن الكتاب يستفيد من لغة التكنولوجيا مثلما استفادت السينما من لغة المسرح. وفي هذا السياق تحدث عن دور المكتبات الافتراضية.


مكتبة افتراضية فلسطينية؟

 
ردا على كثير من اللغط حول التطبيع اختار ألبرتو مانغويل أن يستحضر صورا من ذاكرته تؤرخ لعلاقته الوطيدة مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش والتي ظهرت خاصة في كتاب العودة هذا اللقاء الذي جمع الثنائي وتحاورا فيه ليخلصا إلى مفهومهما للمنفى. كما ذكر الكاتب الأرجنتيني بأنه من دعا ذات يوم إلى تأسيس مكتبة افتراضية فلسطينية لحفظ الذاكرة الفلسطينية ولكن المشروع قوبل بالرفض.


ولكن، سئل ألبرتو مانغويل في أحد مقابلاته: "لم تتكرر نفس الأسئلة لنلقى نفس الإجابات من خمسين سنة إلى اليوم؟" فأجاب مانغويل: "هم يسألون نفس الأسئلة فأجيب بنفس الطريقة عن قناعات لا أظنها تتغير من خمسين سنة إلى اليوم، ربما لو غير السؤال لتغيرت الإجابة." إجابة تحيلنا على ملاحظتين أساسيتين: أولا أن علاقة المتلقي والقارئ بمانغويل لم تخرج من حالتها الأولى "الانبهارية" وثانيا علاقة سطحية مبنية على اجتراره بعض مبادئه الفكرية دون استقراء لها. فلا يمكن أن تختزل فلسفة الرجل المكتبة في بعض المفاهيم التي يتم تداولها عن علاقته بالقراءة وهو الذي جرب مختلف الأجناس في الكتابة وحمل ثقل حضارات وجدها داخل أربعين ألف كتاب. تظل قراءة منقوصة ومحاورات منقوصة ربما لو نعيد قراءة بعض أعماله الأخرى بعيدا عن الكتب المشهورة والتي صنعت نجوميته.

 

رحلة اكتشافات

 
صحيح أن مجيء مانغويل إلى تونس أحدث "فرقعة" إعلامية ولكن التزمت حد الفرقعة وسال الحبر عن موقف الوزير الذي انتهت صلاحياته مع إعلان الوزير الجديد في الحكومة المنتخبة. ربما لو أن الفرقعة كانت فرقعات فكرية وربما لو كانت لقاءات وتفاعلات مع كتاب ومفكرين وروائيين تونسيين ربما كان سيكون للمقابلة معنى آخر. ولكن المقابلة التي حامت حولها الفرقعة لم تشهد حضورا نوعيا لروائيي ومفكري تونس وكانت أحادية الاتجاه اقتصرت فقط على بعض الأدباء والشعراء من محبي بيت الرواية وروادها وأصدقاء مدير البيت. ربما الوزير الجديد سيعيد إلينا مانغويل حتى يكون لكل الجمهور التونسي ويكون لكل التونسيين فرصة لقائه في تظاهرة ثقافية كبرى.
غادر ألبرتو مانغويل ومعه مجسدا هدية من بيت الرواية لشخصية "برق الليل" للكاتب التونسي الراحل البشير خريف.


إن الكتابة عند ألبرتو مانغويل هي رحلة اكتشافات. تبدأ بحرف وتنتهي بنظرية ما بتأسيس لتقليد جديد وهذا يحمله للشخصيات التي يجرب معها أنظمة جديدة للحياة. بعيدا عن الثلاثية الشهيرة: ماذا لو نتجرأ و نقرأ كتابات أخرى لمانغويل؟

التعليقات (1)
morad alamdar
الخميس، 05-03-2020 12:14 م
لقد عرف جابرييل جارسيا ماركيز طريقه إلى الشهرة بعد أن تمت ترجمة روايته مائة عام من العزلة عام 1970 . و كانت الرواية قد ظهرت قبل ذلك بثلاث سنوات في بوينس أيرس دون أن يلتفت إليها أحد و لكن فور ترجمتها إلى الإنجليزية و غيرها من اللغات الأخرى أدرك الجميع أنهم أمام تحفة أدبية فريدة و قد فاز إثر اكتشاف بقية أعماله بجائزة نوبل عام 1982 . و قد ردت هذه الجائزة الاعتبار لتيار الواقعية السحرية الذي كان يسود أدب أمريكا اللاتينية و لكن لأسباب غامضة لم يفز أدباء لا يقلون أهمية عن ماركيز مثل بورخيس أو أدلفو بيوكاسارث أو خوان رولفو . و لا أحد يعرف على وجه التحديد من الذي أطلق على هذا التيار الأدبي اسم ( الواقعية السحرية ) و لكن من المؤكد أنه مأخوذ من إحدى مدارس الرسم الألمانية و لكنه فقد الصلة بجذوره الأولى ، ليصبح علامة على ذلك التيار الإسباني في الرواية . و مائة عام من العزلة لم تكن الكتاب الأول لماركيز فقد كتب بعدها ( ليس لدى الجنرال من يراسله ) . و كتب بعده ( خريف البطريارك ) و ( الحب في زمن الكوليرا ) و كتاب ( الحياة من أجل قص الحكايات ) . وإذا كانت إليزابيث درو أرادت أن تعلمنا من قبل كيف نقرأ الشعر من أجل أن نفهمه، فإن مانغويل لا يريد أن يعلمنا كيف نقرأ السرد. إنه عاشق متصوف فحسب ينقل تجربة عشقه للكتب التي سلبت عقله. مكتبة بابل كاملة في ذهن هذا الرجل. إنه مثل ذلك الأمير الفارسي الذي يحدثنا عنه في «يوميات القراءة» والذي كان يصطحب مكتبته الضخمة على ظهر قافلة من الجمال مصنّفة بحسب الأحرف الأبجدية. فما أحرانا أن نستفيد من تجارب الآخرين أياً كانوا؛ شريطة ألا نجعلهم موجهين لعقولنا أو حكاماً على ثقافتنا الأصيلة ذات الجذور العميقة في نفوسنا، والتي تحتم علينا الفخر بها ديانة قبل أن تكون عصبية وحمية.