أفكَار

ملاحظات منهجية عن الوجود والجذع المشترك بين الفلسفة والدين

الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي يقدم قراءة في التفسير الهيغلي ـ الماركسي للتاريخ (أنترنت)
الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي يقدم قراءة في التفسير الهيغلي ـ الماركسي للتاريخ (أنترنت)

لازال سؤال النهضة العربية والإسلامية يؤرق النخب السياسية والفكرية على حد سواء.. ولئن سعى مفكرو النهضة العربية مطلع القرن الماضي للجواب عن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وقدموا أطروحات متعددة ومتنوعة حاول السياسيون ترجمتها على مدى عقود الاستقلال، لكن كل ذلك كان بلا جدوى على أرض الواقع.

وقد عاد الحلم ليظهر مجددا منذ نهاية العام 2010، عندما تمكن التونسيون ومن خلال ثورة شعبية من إسقاط نظام استبدادي دام ثلاثا وعشرين سنة، وهي ثورات امتدت لتشمل غالبية الدول العربية معلنة عن ميلاد عهد سياسي عربي جديد يطمح لتأسيس نموذج ديمقراطي جوهره حرية الإنسان وكرامته وحقه في تقرير مصيره.

لكن هذه الثورات، وإن اختلفت الآراء والتصورات حولها، لم تفلح هي الأخرى في التأسيس لنهضة عربية وإسلامية حقيقية، بل إن كثيرا من دول العالم العربي والإسلامي غرقت في فوضى عارمة لم تخرج منها بعد.


أبو يعرب المرزوقي فيلسوف عربي تونسي، متخصص في الفلسفة العربية واليونانية والألمانية، وله توجه فلسفي إسلامي في إطار وحدة الفكر الإنساني تاريخيا وبنيويا، انخرط في العمل السياسي ضمن المجلس الوطني التأسيسي في تونس عن حركة "النهضة" نهاية العام 2011 لكنه سرعان ما استقال واعتزل العمل السياسي لصالح الاستمرار في مهمته الفلسفية. 

أبو يعرب المرزوقي يحاول في سلسلة مقالات تنشرها "عربي21"، البحث في أسباب تعثر النهضة العربية والإسلامية، على الرغم من كل التحولات السياسية التي عرفها العالم بما في ذلك المنطقة العربية والإسلامية.. وهي مقالات مطروحة على المفكرين العرب لمناقشتها والتفاعل معها.

وسيط بين الفصول الثلاثة المتقدمة على الفصل الرابع والثلاثة المتأخرة عنه

وصلنا إلى النص الأوسط من السبعة الموعود بها. ولا بد فيه من الاعتذارعن أمرين قبل مواصلة هذه المحاولة لفهم ما يجري بالاعتماد على رؤية خلدونية مطورة، لأنها تتضمن أثر ما يغفله التحليل الهيجلي الماركسي للتاريخ الإنساني، التحليل الذي لو اكتفينا به لاستحال فهم المشكل الذي نريد علاجه، ليس بوصفه أزمة نهوض الأمة فحسب بل بوصفه تكثف أزمة الإنسانية في تاريخها وظن الغرب أنها أزمة الإسلام ولم ير أن حصولها في كيانه دليل على أن شفاء الإنسانية رهن شفائه:

1 ـ الأول أني لم أستعمل الأداة التي تجعل ما قلته في رؤية ابن خلدون قابلا للصوغ العلمي المكمم أي القابل للرد إلى قوانين طبيعية يعبرعنها بعبارات كمية رياضية تمكن من فهم الموجود الحاصل والموجود الذي سيحصل لو تعاملنا مع كل العناصر وكأنها طبائع.

2 ـ والثاني أني لم أستعمل الأداة التي تجعل ما قلته قابلا للتصور العملي المكيف، أي القابل للرد إلى سنن تاريخية يعبر عنها بعبارات كيفية تمكن من فهم المنشود الحاصل والمنشود الذي سيحصل لو تعاملنا مع كل العناصر وكأنها شرائع.

وذلك بدراسة العوامل الخمسة التي بنى عليها باب المقدمة الخامس أي الجغرافيا الطبيعية التي توجد فيها الجماعة وأفرادها والتاريخ الطبيعي للجماعة وأفرادها، وفعل العامل الأول في العامل الثاني بتوسط تفاعل الفرد والجماعة معهما أو الاقتصاد والثروة، وفعل العامل الثاني في العامل بتوسط تفاعل الجماعة والفرد معهما أو الثقافة والتراث وما يوحدها جميعا، أي المرجعية التي تمثلها الرؤية الدينية والفلسفية للوجود التي تربى عليها الأفراد. والعلة هي أني اعتمدت في البحث ثمرات نظرية المعادلة الوجودية التي وضعتها في محاولات سابقة والتي لم أوردها هنا لئلا أثقل البحث وهي مضمرة فيه وتقبل:

1 ـ القراءة بالتثليث لفهم الفلسفة الهيجلية والماركسية فتكون مقصورة على الأمر الأول إما بالتركيز على التوحيد بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الحضاري مع تقديم وتأخير للفاعلية واعتبارها محايثة في عالم وحيد وفريد ليس له ما يتعالى عليه، ومن ثم فالحلول كلها ترد إلى وحدة الوجود سواء كانت طبعانية خالصة (سبينوزا) أو طبعانية مذوتة لإضفاء الطابع لروحنة الوجود التي تصالح معه الرب (هيجل واعتبار الجوهر ذات).

2 ـ أو القراءة بالتخميس فتكون من الجنس الثاني الذي يتضمن الجنس الأول (وهو المستوى الأول من موضوع علم ابن خلدون -العمران البشري لسد الحاجات المادية بالتبادل والتعاون والتعاوض العادل) ولا يلغيه بل يعتبره أداة الجنس الثاني (وهو المستوى الثاني من موضوع علم ابن خلدون الاجتماع الإنساني لسد الحاجات الروحية بالتواصل والتآنس الصادق) الذي يعتبره غاية .وطبعا فالأداة هي الاستعمار في الارض والغاية هي الاستخلاف فيها. وقد ظن المسلمون أن الغاية مغنية الأداة. وظن الغرب أن الأداة مغنية عن عن الغاية.

 

إذا جردنا المعادلة مما فوق الإنسان بقي الإنسان، وإذا جردنا الطبيعة والتاريخ مما بعدهما (أي قوانين الخلق وسنن الأمر) بقيت الطبيعة وكأنها خالقة لنفسها والتاريخ وكأنه آمر لنفسه.


والمعادلة الوجودية التي وضعتها لضبط هذه العلاقات جعلت قلبها علاقة الإنسان المباشرة برب مفارق بوصفها علاقة "خليفة بمستخلف" وكلاهما حر، وهي علاقة بين حريتين خالقة ومخلوقة كاملة ومتكاملة وهي الرؤية القرآنية التي يعتبرها ابن خلدون ضرورية دون كلام حول المسألة الإيمانية لأنه من فرضيات نظريته في عمل العناصر الخمسة التي يتألف منها الباب الأول المؤسس. وهي قلب لمخمس وجودي على النحو التالي: 

1 ـ فهي تضع على يمين علاقة القلب الوجود الطبيعي، 2 ـ وتضع على يساره الوجود التاريخي، وبينهما علاقة ما بعدية وهي مجانسة للعلاقة الأولى بين الإنسان والله لكنها ذات التفاتين: أحدهما التفات إلى الطبيعة هو ما بعد (ولنسمه قوانين الخلق) والثاني التفات إلى التاريخ (ولنسميه سنن الأمر) وهذا المابعد المضاعف هو ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ وهو شبه انعكاس للعلاقة الأولى بين الإنسان وربه لكنه بين عالمين: عالم الخلق وعالم الأمر طلب قوانين الأول وسنن الثاني هما أداتا الإنسان لكي يعمر الأرض ويستخلف فيها.

فإذا جردنا المعادلة مما فوق الإنسان بقي الإنسان، وإذا جردنا الطبيعة والتاريخ مما بعدهما (أي قوانين الخلق وسنن الأمر) بقيت الطبيعة وكأنها خالقة لنفسها والتاريخ وكأنه آمر لنفسه. وذلك هو سر التثليث الهيجلي والماركسي: وكلاهما يفترضهما ويلغيهما لأنه ينسبهما إما إلى الطبيعة أو إلى الإنسان. لأن العناصر الثلاثة الباقية بعد حذف العلاقة الأولى بين الإنسان وربه وبين الطبيعة والتاريخ وما بعدهما هي الإنسان والطبيعة والتاريخ.

وحينئذ نكون في عالم قابل للقراءة الهيجلية التي عدلت السبينوزية بتذويت وحدة الوجود وبإحلال الله في الإنسان ونفي وجود عالم وراء عالمنا متعال عليه أو بالاكتفاء بالطبيعة طابعة ومطبوعة ومنها الإنسان لأنه ليس دولة في الدولة في رؤية سبينوزا. وتلك هي الماركسية التي نكصت إلى السبينوزية دون التذويت الهجلي.

لكني أعيد العلاقة الأولى المباشرة بين الله والإنسان والعلاقة الثانية بين الطبيعة والتاريخ أو المابعد ذي التوجهين. وليس ذلك أمرا عقديا بل هو فرضية عمل لفهم ما يجري في المعادلة الخلدونية بين الطبيعة والإنسان والتي اعتبرها متلازمة مع علاقة الإنسان بالوعي بالزمان ومحاولة الخروج مما يترتب على التذكر والتوقع في علاقة بالمكان وما ينتظره منه لسد حاجاته.

لكن إذا اعتبرنا الله محايثا في الإنسان أو في العالم (مفهوم المصالحة الهيجلية) أي في التاريخ وجعلنا الطبيعة والتاريخ غنيين عن ما وراء يصلهما بالخالق للأولى وبالأمر للثاني صار التاريخ بالمنطق الجدلي في حرب دائمة وأصبح ما هو من عرضيات التنافس على شروط البقاء هو الغاية وليس مجرد عرض ناتج عن الفشل في اكتشاف الحل الممكن من وجود السياسة العادلة تربية وحكما. والإنسان بفضل هذا المابعد المتعالي عليهما يبدع نظام قوانين طبيعية (رياضية تجريبية بلغة القرآن) ونظام سنن تاريخية (سياسية خلقية بلغة القرآن) فيصبح النظامان مرجعية الانتقال من الحرب الدائمة إلى السلم الدائمة.

فيتبين من ثم أن الإنسان لا يمكن من دونهما أن يتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ بالعلم وبالعمل تعاملا يحرره من سلطانهما عليه ومن الوثنيات التي تكون تأليها للطبيعة وللأقوياء بدلا من أن يطبق النساء 1 أساسا للاخوة والحجرات 13 أساسا للمساواة بين البشر فيكون الإنسان من حيث هو إنسان حائزا على التعريف الخلدوني "رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له".

وبدلا من اعتبار الحرية ثمرة صراع بين سيد وعبد تصبح الحرية علاقة بين رؤساء مستخلفين من الرئيس المشترك لجميع البشر خاصة ولجميع الموجودات عامة: وهذا هو الجذع المشترك بين الدين والفلسفة.

 

إقرأ أيضا: مقدمات علمية في فهم فلسفة التاريخ وواقع العرب والمسلمين

إقرأ أيضا: لماذا تراجع العرب والمسلمون؟ الأسباب البعيدة والمباشرة

 

إقرأ أيضا: في تفسير تعثر نهضة العرب والمسلمين.. العصبية والعولمة

 

التعليقات (0)