تقارير

نعلين.. ستبقى شارة تزيّن جبين فلسطين

أحمد محيسن: هذه مدينتي نعلين الفلسطينية لمن لا يعرفها.. (عربي21)
أحمد محيسن: هذه مدينتي نعلين الفلسطينية لمن لا يعرفها.. (عربي21)

تقع بلدة نعلين شمال غرب رام الله.. الّتي يبلغ عدد سكّانها ما يقارب الثّلاثين ألفاً.. منهم ما يقارب السّتّة آلاف نسمة مازالوا يقطنون القرية.. وتلامس نعلين ما أسموه بالخطّ الأخضر الّذي أفرزه احتلال أرضنا عام 1948، حيث تمّ مصادرة أكثر من سبعين بالمائة من أراضي نعلين إبّان النّكبة.. أي ما يقارب 40000 دونماً من أصل 58000 دونماً.. 

كانت بلدتي نعلين تتبع قضاء الرّملة قبل عام 1948.. وبعد ذلك أصبحت تتبع قضاء رام الله.. وقد طالت يد الإستيطان البغيض ما يقارب 8000 دونماً لبناء أربع مستوطنات لقطعان المستوطنين تشوّه جمال طبيعة فلسطين.. وابتلع جدار الضّمّ والفصل العنصري ما يقارب 2500 دونماً.. ولم يترك الاحتلال لأهالي بلدتي نعلين سوى الجزء اليسير الّذي لا يتجاوز 7000 دونماً.. منها فقط ما يقارب 1000 دونماً يُسمح فيها بالبناء.. وما تبقّى يُصَنّف بمنطقة (C) ويُمنع فيها البناء بفضل أوسلو الّلعينة.. 

 


وبذلك نستطيع القول بأنّ الإحتلال ومنذ النّكبة قد سرق ما يقارب 90% من أراضي نعلين.. ورغم ذلك ستبقى نعلين صامدة.. مَخْرزاً في عيونهم.. تتصدّى للاحتلال البغيض حتّى التّحرير والعودة..

نعلاوي يا صبر

تشتهر نعلين المجتمع القروي الفلّاح.. بشجرة الصّبر الفاكهة الّتي تُزَيّن القرية.. ويُقال نعلاوي يا صبر.. في إشارة للجودة العالية المتميّزة.. إضافة لبقيّة الأشجار المُثْمِرة.. تتقدّمها شجرة الزّيتون المُباركة.. والتّين والّلوزيات كما الخضراوات بأنواعها..

وبقيت نعلين متواضعة بما تبقّى من مساحة أراضيها بفِعْل اغتصاب الاحتلال البغيض لمساحاتها.. ولكنّها كبيرة بطيبة أهلها وبعطائها.. وهي تُقدّم خدماتها لأكثر من خمس عشرة قرية مجاورة للبلدة، حيث يوجد في نعلين كلّ ما يحتاجه الإنسان من تصريف للأمور الحياتيّة اليوميّة من احتياجات.. فعلى صعيد الخدمات الطبّيّة والعلاجيّة تحتضن نعلين مركزاً صحّياًّ وعيادات للطّبّ العام والأسنان.. وصيدليّات ومختبرات وكذلك مركزاً بيطرياًّ..

وعلى الصّعيد التّعليمي فهي تبدأ برياض الأطفال.. والمدارس للذّكور والإناث حتّى المرحلة الثّانوية.. ويأتيها الطّلّاب من القرى المجاورة.. وفيها محكمة شرعيّة.. ومصرف.. ومركز للبريد.. وبعض المصانع المتواضعة.. والمحال التجارية.. والورش المهنيّة ومحطّة وقود.. ومعاصر الزّيتون.. وصالونات الحلاقة.. ومسبح ومتنزّه للتّرفيه.. ومركزاً ثقافياً.. ومركزين خصيصاً للنساء.. ونادي رياضي وملعب لكرة القدم.. وشهدت القرية مؤخراً تعبيد وتزفيت وتوسعة الشوارع.. وتخطو الخطى بتواضع.. لتصبح في مصاف المدن الفلسطينية..

تشتهر نعلين بمقاومتها العنيدة لبناء سور الفصل العنصري.. حيث تخرج القرية أسبوعيّاً في مسيرات مناهضة للسّور.. وهي تشتبك وتقاوم الاحتلال بالصّدور العارية وبكلّ الإمكانيّات والسُّبُل.. وقدّمت نعلين كغيرها الشّهداء والجرحى والأسرى دفاعاً عن عروبة فلسطين..

وتجد من أبناء نعلين من يعمل على توثيق تاريخ البلدة.. بالكلمة والصّورة والصّوت.. وشهادات الأعيان.. الشّاهدين على العصر.. ومسح ممنهج للحواري والأزقّة والمواقع.. والكروم والطّرق والبيوت والمساجد والمواقع.. مثل مقام ستّنا القبّة.. ومقام سيدنا الرّفاتي.. ووادي العين.. ومغارة البس.. ومرج قبيّة.. والمهلّل والصوّانة والوعر.. وكلّ معالم البلدة وجوارها..

صحيح أننا عشنا طفولتنا في مدينة عمّان قبل احتلال ما تبقّى من فلسطين عام 1967.. بحكم عمل الوالد رحمه الله.. إلّا أنّني كنت دوماً.. وكلّما سنحت الفرصة أرافق الأهل والعمومة رحمهم الله.. في السّفر لنعلين وقضاء فترة العطلة الصيفيّة في أحضانها.. ولم تكن الرّحلة تستغرق أكثر من بضع سويعات من عمّان إلى نعلين.. حيث الضّفّة الشّرقيّة.. شقيقة الضّفّة الغربيّة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى وتفاصيل..

كنّا نشهد في القرية.. موسم قطاف الزّيتون وما يرافق ذلك من طقوس رائعة.. ونذكر عندما كنّا نجمع كأطفال.. ما يتبقّى من حبّات الزّيتون ـ يُطلقون على ذلك اسم تَصْييف الزيتون ـ ونذهب بما جمعناه لبقالة العمّ مصطفى حسين أبو عطا رحمه الله.. أو العم يوسف الزّين أبو محمد.. ليُعطينا بدل الزّيتون  قطعا من الحلوى (حامض على حلو).. أو الكعك.. أو المكسّرات..

نذكر بعض الأعراس الّتي أُقيمت في البلدة وزفّة العريس الرائعة على الحصان.. وليالي السّهرات الّتي تُقام فيها الدّبكة الفلسطينيّة والأهازيج التّراثيّة بالزّيّ الفلسطيني في ساحات البلدة.. حيث ترقص كلمات الأووف والعَتابا والميجَنا على أنغام.. الشّبّابة (النّاي) واليرغول (المجوز).. وترى مشاهد الفرحة والبهجة والسّرور.. لن تراها ولن تتذّوق طعم حلاوتها.. كما هي في قرية نعلين..

كنّا كأطفال نستمتع برعاية الحيوانات وركوبها.. وكذلك الماشية والطّيورعلى اختلاف تسمياتها.. ولن ننس عندما كانت جدّة والدتي وضْحة رحمها الله.. تحضر لنا البيض البلديّ المسلوق الملوّن بصبغة قشرة البصل.. وكانت والدة جدّتي عزيزة أم شحادة ترافقنا صباحاً لشراء كعك الأصابع من بقالة العمّ أبو حمد.. ونذهب لزيارة بيت العمّ أبو جاسر.. والعم الذّيب حشمة أبو إبراهيم.. ونستمع للجدّة أم ابراهيم وهي تعلّمنا أنشودة يا حلالي يا مالي يا ربعي ردّوا عليّا..

أجواء قرويّة حميميّة عشناها في نعلين.. صباحاً تشاهد النّسوة والصّبايا يحملن جرار الماء متوجهات لحاووز الماء.. ويجلس الرّجال أمام البقالات يتبادلون الأحاديث والأخبار.. أو أمام صالون الحلاقة للعمّ عبد القادر وسيلة.. أو في مقهى البلدة للعمّ محمود رشيدة.. حيث كان المذياع (الراديو) من الحجم الكبير.. ويعمل على البطّاريّة النّاشْفة.. ويصْمت الجمع عند الإستماع لنشرة الأخبار من صوت العرب.. وكان هناك المقعد أي الدّيوان.. حيث يجتمع الرّجال لبحث شؤون البلد.. وعادة ما يتمّ استقبال الضّيوف هناك..    

ولا ننسى مذاق خبز الطّابون البلدي المخبوز على الرُّظُف (حجارة الزّلط الصّغيرة).. الّذي كانت رائحته الرّائعة تملأ البلدة.. وهي تخرج من الطّوابين (جمع طابون).. حيث كان الطّابون بمثابة الملتقى لنساء القرية.. ويتم فيه تبادل الأحاديث ونقل الأخبار.. فقد كان التّجمّع عند الطّابون بمثابة دور النّشر ووكالة الأنباء والصّحافة.. ولا ننسى كذلك الأكلات الشّعبيّة الشّهيّة الرّائعة.. الّتي كانت تُقدّم لنا على أيادي الأمّهات المناضلات.. من مْسَخّن وملاتيت ومْطَبّق وزغاليل والمُعجّنات بأنواعها.. ولا ننسى شتّى أنواع الحلويات الشّعبيّة..

أما السّيسعة والجَلَثون.. فهي نباتات تنمو في الحقول.. ولم أتذوّق وأشاهد مثلها إلّا في فلسطين.. إضافة إلى الأسماء العديدة من النّباتات الّتي تنمو في البرّيّة وتُطهى وتُحضّر بعدّة طرق مثل العَكّوب.. ومن الأعشاب مثلاً.. الميراميّة والبابونِج ودقّة العدس والجعدة وغيرها من النّباتات.. بنكهة مميّزة تُضاف للشّاي أو تُحضّر لوحدها لمعالجة بعض العوارض الصّحّيّة مثل المَغص (أوجاع المعدة)..  

وأمّا عن فاكهة الصّبر فمذاقه النّعلاوي الطّيّب.. لن تجد لمثله في فلسطين مثيلاً.. وأمّا خضار مرج نعلين .. فحدّث ولا حرج.. وأذكر منها الفقّوس مثلاً وليس حصراً..

أُقرّ بأنّ العلم في الصّغر كالنّقش في الحجر.. كنت طفلاً.. وأذكر كل ذلك وكأنّه بالأمس.. والفضل يعود للأجداد والآباء رحمهم الله.. الّذين بقوا يُغَذّون ذاكرتنا طوال الوقت في السّهرات والجلسات والّلقاءات.. بالمواقع والقصص والأحداث والذّكريات والعادات والتّقاليد في فلسطين.. ويحدّثونا عن بطش الإستعمار والإحتلال.. وكذلك عن بطولات أبناء شعبنا في تصدّيهم للعدوان.. ويغرسون فينا عقيدة التّمسّك بذرّات تراب فلسطين وبالمقاومة.. ولن أنسى كلمات جدّي أسكنه الله فسيح جنّاته وهو يقول إيّاكم وبيع الأرض.. الأرض هي العرض.. ومَن يفرّط بأرضه يُفرّط بعرضه.. وهو الرّجل الشّهم الطّيّب الّذي اشترى في شبابه البندقيّة الألمانيّة الصُّنْع.. بمئة جنيه فلسطيني وهو في صفوف المناضلين يُدافع عن الوطن..

ونذكر أنّه كان يذهب للقرية بعد عام 1967 لزيارة الأرض وغرس شجر الزّيتون.. وقد انتقل إلى الرّفيق الأعلى وهو يوصينا بالأرض.. حيث كان يُسمّيها (بالرِّزْقات جمع رِزق).. 

وعندما زُرْت البلدة عام 1996 برفقة الزّوجة والأبناء.. أكرَمَنا الله بزيارة المدينة المقدّسة والصّلاة في المسجد الأقصى وقُبّة الصّخرة.. وتطهّرنا بحباّت رمال نعلين.. وزُرْنا الأرض الّتي ارتوت بعرق الأجداد.. كنّا نجلس تحت الخَرّوبة.. وأمام مغارة البِس.. وجلسنا بالقرب من فوّهة بئر الماء.. وقبّلنا حجارة السّلاسل الّتي تصنع حدوداً للأرض مع الجيران.. وتزوّدنا بالطّاقة والعزيمة والثّبات.. ونحن نتبارك بأشجار الزّيتون.. وقُمنا بتصوير أوّل فلم فيديو للقرية آنذاك.. 

 



دخلنا البيوت القديمة في القرية.. ومنها بيت العمّ خليل يوسف أبو عطا رحمه الله.. وشاهدنا أثاث البيت.. والخابية وجرة ماء الشرب.. وصحون الفخّار.. واصطحبت معي من البيت إلى عمّان ما يسمى بالعود.. وهو عبارة عن قطعة خشبيّة تُستخدم في عمل حُفرة بسيطة في الأرض لزراعة الشّتل.. سلّمته للعمّ الشيخ عمر خليل من رائحة بيتهم..

كما وزُرت بيت جدي محمد حسن إعليّان المُلقّب والمعروف في البلدة بعنتر لشِدّة بأْسِه ورجولته وعنفوانه.. رحمه الله وأسكنه الجنة.. وقَرَأْنا الفاتحة على ضريحه.. وجلست على عتبة الشُّبّاك (القُصّة) التي كانت تجلس عليها والدتي رحمها الله.. وهي تطرّز الحرير على القماش.. وتُهَنْدس الزّيّ الفلسطيني.. وهو ما يعجز عن فهمه مهندسي الحواسيب اليوم.. كما وتشرفنا بزيارة ابنة العم الحاجة محبوبة أم حسين..

 


طفت البلدة حارةً حارة.. وشارعاً شارعا.. وبما سمح به الوقت زُرت معظم أهالي بلدتي.. وكنت في معظم المواقع.. وكم كنت أشعر بالفخر والإعتزاز.. وأنا أحتسي القهوة صباحاً أمام بقالة ابن الخال عبد الرازق مصطفى رشيد ابن خال جدتي رحمهم الله.. والمارّة من أهل البلدة يقفون يسلّمون ويرحّبون.. ويقولون هذا الرجل أكيد من دار أبو محيسن.. على دمّهم وعلى تَرِمْهُم يقولونها بالّلهجة الفلّاحيّة.. والمقصود هنا التشبيه على الأجداد والآباء.. 

نعلين الوطن.. ذلك العِشق الذي لن يتوقّف.. ونهرالعطاء الّذي لن ينضب.. نعلين الشّجرة الطيّبة.. الّتي تكبر في أرض الصّمود والتّضحيات.. ارتوت أرضها بدماء أهلنا وأحبّتنا.. وستبقى نعلين نجمة في سماء فلسطين.. وقبلة على محيّا الوطن.. نعلين الكرامة حيث يكسب المجد مجداً..

 



إنّها بلدتي نعلين الصّامدة.. حيث تتدفّق فيها ينابيع الطّيبة والبساطة والحُبّ والخير والشّموخ.. وهي تطريزة الشّهامة والعزّ.. الّتي نُسجت بالأصالة والألفة والمحبّة والعطاء.. لتُشكّل لوحة رائعة.. فسيفساؤها متشابكة ومتداخلة متلاحمة ببعضها.. لتكون الصورة المُشرقة المتكاملة.. وهي الأمر الواقع الجميل.. الّذي يتّسم بالجوامع وبالعفوية والطّيبة والتّلقائيّة الدّافئة.. بِدِفْء مشاعر أهلها وطيبتهم..

بلدتي نعلين تأسر قلبك ومشاعرك وتأخذك هناك.. إلى الكروم والحقول والسّهول والجبال والينابيع والوديان.. إلى ناسها الطيّبين.. إلى صبرها وتينها ولوزها وأغصان شجر الزّيتون والّليمون.. تنقلك إلى رائحة الطّابون وهو يجود برائحة الخبز الّذي صنعته الأيدي الخشنة المُباركة..

في نعلين.. تُحَلّق هناك في سمائها.. وتستمتع في ربوعها وأحواشها وأزقّتها ومرجها وخلوتها.. وعينها وصوّانتها ومغارة النّاطوف.. والجسور ووعرة القبّة.. ووادي العين ومعاصر الزّيت وبابور الطّحين..

 



في نعلين تستمع بشغف لأحاديث الطيّبين.. لمن يُحدّثونك عن تاريخها العريق.. وعن بطولة ونضال أبنائها من المناضلين الّذين قاوموا المستعمر والمحتلّ.. الذين لم يبخلوا بدمائهم ولا بأموالهم ولا بأولادهم فلذات أكبادهم.. وكأنّك تستنشق رائحة التّاريخ المُشرّف المرسوم في شوارعها وحواريها وأزقّتها.. وتحدّثك نفسك وتهمس في أذنيك..

 

أنت هنا في قرية نعلين.. حيث الحصاد والبذْل والعطاء والإنجاز.. وفي نعلين ما نفخر به ونحدّث عنه.. ومن نعلين رجال تزرع الأفكار كالخمير في العجين.. إذا جاعوا أكلوا التراب.. وإن عطشوا عصروا الصخر.. نعلين الّتي يتجسّد فيها معنى الكرم والشّهامة والنّخوة.. نعلين التي يُصنع فيها المجد لأهل المجد.. نعلين.. أرض الصّمود والتّحدي.. وأرض الشّهادة والكرامة.. وهي الّتي أنشدها المناضل شاعر الثورة الفلسطينيّة المرحوم أبو عرب رحمه الله وأسكنه الجنة..

 

*المتحدث الرسمي للمؤتمر الشعبي الفلسطيني الخارج

 

 

 

 

0
التعليقات (0)