كتاب عربي 21

عقابيل تحالف كورونا وواتساب

جعفر عباس
1300x600
1300x600

مع الاعتذار لبعض من يراسلونني عبر واتساب، لا أملك إلا أن أقول إن هذا التطبيق البديع، والذي جعل التواصل الصوتي والنصي ميسورا وبلا مقابل مادي، فضح الكثيرين، وأبان مدى سذاجتهم التي تتمثل في تصديقهم لكل ما يرد إليهم عبر واتساب، ثم حسبانهم أنهم يفعلون خيرا بإعادة إرسال كل ما يصلهم من غث وسمين إلى من يتواصلون معهم من أقارب ومعارف. 

ومعلوم لدى كل مسلم أن واتساب هو الذي كرس بدعة "جمعة مباركة"، فقبل عصر الهواتف الذكية، لم يكن واردا أن يرسل إليك شخص يحبك وتحبه رسالة بالبريد التقليدي أو الإلكتروني، أو حتى يقابلك وجها لوجه يوم الجمعة ويتمنى لك جمعة مباركة، وحتى في عصر الهواتف الجوالة محدودة الذكاء، لم يكن هناك من يذكرنا ببركات الجمعة بالرسائل النصية التي يتم بثها نظير رسم مالي، فهل حلت البركة في يوم الجمعة بواسطة واتساب؟

وبينما معظمنا يتململ خلال الأسابيع الأخيرة من لزوم بيت الطاعة، عملا بنصيحة من قال إنه في ظروف جائحة الكورونا، فإنه من الخير أن تبقى الشوارع خالية من الناس طوال خمسة عشر يوما، بدلا من أن تصبح البيوت خالية من البشر بعد خمسة عشر يوما، صار واتساب أداة لنقل وباء الغباء في أمور تتعلق بفيروس لا يعرف حتى أهل الاختصاص عنه كثير شيء.

 

جميعنا أصبحنا مثقفين كوروناوياً، ونعرف كل ما ينبغي أن نعرفه عن هذه الآفة وسبل الوقاية منها، فلنرحم بعضنا البعض بالكف عن تبادل أي معلومة صحيحة او زائفة عنها


وصحيح أن كورونا حرمت التافهين ممن يسمون أهل الفن من الأضواء بتسليطها على أهل العلم النافع، ولكنها شجعت الكثيرين على ارتداء مسوح أهل العلم والحكمة، حتى كاد واتساب أن يصاب بانهيار إلكتروني تحت وطأة ما يبثون من إرشادات وحكايات مختلقة عن المرض ووسائل اتقائه، ومن تلك الوسائل، الميرامية بالبشاميل، واستنشاق بخار الماء المنبعث من فوهة خرطوم إناء به ماء مغلي، ومن تلك الحكايات أن الطليان أدركوا أن الإسلام هو الحل فانضم الكاثوليك منهم إلى المسلمين في صلاة جماعة في ميدان عام في نابولي، ورفع مئات الآلاف من سكان العاصمة الإسبانية مدريد الأذان عبر النوافذ، عطفا على قيام مواطن إسباني بتكسير الأصنام التي في بيته (وتظهر في لقطات الفيديو الخاصة بهذا المشهد مجسمات من الجبس للمسيح وأمه وهي تتعرض للتهشيم)، وهناك الوحش الروسي فلادمير بوتين الذي أطلق أربعمائة أسد في شوارع موسكو، لردع كل من تسول له نفسه التجول في ظروف جائحة الكورونا.

وبداهة فإن بعض تلك الخرابيط حسنة السبك والحبك بدرجة يصعب تكذيبها ودحضها، وهكذا وقعت صحيفة "ذا صن" البريطانية ضحية اتخاذ واتساب مصدرا للأخبار، فنشرت في عددها ليوم الثلاثاء الماضي (24 آذار/ مارس الجاري) خواطر منسوبة لبيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، يتكلم فيها عن الدروس المستفادة من تفشي جائحة الكورونا، ولأن تلك الصحيفة تنتمي إلى منظومة مالكها روبرت ميردوك الإعلامية شديدة الاصفرار، والتي تُعنى كثيرا بأخبار وفضائح المشاهير، فلم يكن مستغربا أن تصدق نسبة ذلك الكلام لغيتس، بعد أن أعادت عارضة الأزياء نيومي كامبل تدويره نقلا عن واتساب، واضطرت "ذا صن" للاعتذار عن تلك السقطة المهنية، بعد أن فضحتها صحيفة "ذا إندبندنت" الرصينة.

وتستعيد الذاكرة هنا فضيحة الأخت الكبرى لـ "ذا صن" وهي "نيوز أوف ذا ويرلد" التي كانت جوهرة تاج إمبراطورية ميردوك، لما لها من رواج، واضطر إلى إغلاقها بعد أن تم اكتشاف أنها كانت تمارس التنصت على هواتف العائلة المالكة البريطانية والسياسيين وأهل الفن، وترشو رجال الشرطة للفوز بأخبار الفضائح.

وبعكس أولئك السذج الذين يتداولون عبر واتساب كلاما وصورا تنم عن الغباء والسذاجة، فإن ما تم تداوله على لسان غيتس بعنوان ماذا يُعلمنا فيروس كورونا/ كوفيد 19 حقاً، يثبت أن هناك أشخاصا أذكياء وذوي فهم عميق في بعض جوانب الحياة والفكر، ولكنهم يفتقرون إلى الثقة بالنفس، ومن ثم ينسبون ما يصدر عنهم إلى أعلام على رؤوسها نيران سلفا.

 

إنه وفي ظروف جائحة الكورونا، فإنه من الخير أن تبقى الشوارع خالية من الناس طوال خمسة عشر يوما، بدلا من أن تصبح البيوت خالية من البشر بعد خمسة عشر يوما،


فإذا نظرت في محتوى النص المنسوب لغيتس، ستكتشف أنه يستحق القراءة والتأمل: هذا الفيروس يذكرنا بأن جميع البشر متساوون بغض النظر عن الثقافة والدين والوظيفة والثروة والشهرة، وبأن هناك رباطا بيننا، وبأن كل واحد منا يؤثر على الآخرين، وبأن الحدود السياسية القائمة زائفة، وها هو الفيروس يجتاز الواحدة منها تلو الأخرى بدون جواز سفر.

وهكذا يمضي بيل غيتس المزور ناثرا الدرر الجديرة بـ "الاقتناء" والتأمل، وفي هذا يقول أهل السودان "الخيل تجقلِب والشكر لحماد"، والخيول تجقلب (تركض محدثة جلبة) في مضامير السباق وتفوز، ولكن الشكر والثناء يكون من نصيب الجوكي حماد، فمن صاغ تلك الدرر أحس بأنها لن تجد الرواج لأنه "نكرة"، فنسبها لغيتس وتذكر الناس عند قراءتها كم هو حكيم هذا الغيتس فكالوا له الثناء.

وختاما: جميعنا أصبحنا مثقفين كوروناوياً، ونعرف كل ما ينبغي أن نعرفه عن هذه الآفة وسبل الوقاية منها، فلنرحم بعضنا البعض بالكف عن تبادل أي معلومة صحيحة او زائفة عنها، طالما المصادر الثقات متاحة للجميع، وفي ظروف حجر نعيشه جميعا قسرا وطوعا في نفس الوقت فآخر ما نحتاجه هو "التذكير النكير".

التعليقات (0)