آراء ثقافية

مسلسل الطاووس.. تواطؤ السلطة و رجال الأعمال

مسلسل الطاووس
مسلسل الطاووس

منذ أيام، هبت على السوشيال ميديا رياح غاضبة، بعد نشر البرومو الخاص بمسلسل "الملك"، الذي يحكي سيرة الملك أحمس، محرر مصر من الهكسوس.

 

سارعت شركة سينرجي المملوكة للمخابرات العامة إلى سحب المسلسل من السباق الرمضاني لفحصه وتعديله إذا لزم الأمر. في دول كثيرة، قد يبدو الأمر عاديا؛ أن يستجيب صناع مسلسل لغضب الجمهور هو أمر مألوف، فالأندية الأوروبية الكبرى تخلت عن حلمها القديم بإنشاء بطولة سوبر أوروبي تنعم، بأرباحها، دون مشاركة الأندية المتوسطة والصغيرة، وحين غضبت الجماهير، تراجعت الأندية فورا.

تلك علاقة طبيعية بين مقدم أي سلعة ومستهلكها، سواء فنية أم رياضية، لكن في مصر تختلف الأمور. فبعد سيطرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على المجال العام، ثم على شركات الإنتاج الفني والمجالس النيابية والرقابية، أصبح انتصار الجمهور إنجازا يحتفي به النشطاء، أولا لأنه انتصار لإرادة شعبية على سلطة عسكرية غاشمة، وثانيا لأنه انتصار يمكن تكراره، فميدانه هو السوشيال ميديا، التي لم تجد السلطة في مصر منفذا لقمعه أو السيطرة عليه.

وهذا ما يجعل الانتصار الثاني للسوشيال ميديا مهما. فقد فوجئ النشطاء بقرار عنتري من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بإحالة منتجي مسلسل "الطاووس" للتحقيق العاجل، وحمل بيان المجلس دلالات مقلقة، مثل استدعاء القنوات التي تعرض المسلسل للتحقيق أيضا، وهو ما يبدو نذيرا بإيقاف المسلسل وربما إحالة منتجيه لتحقيق جنائي، فالمتابع لقضايا حبس فتيات التيك توك، أو العارضات، أو غيرهن، يلاحظ أن لغة بيان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تحتوي على مسببات الحبس التي تتكرر في تلك القضايا. 

يقول البيان: "قرر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، التحقيق فوراً مع المسئولين عن إنتاج مسلسل "الطاووس"، ومسئولي القنوات التي تقوم بعرضه، بعد أن تلقى شكاوى عديدة، حول استخدام لغة لا تتفق مع الأكواد التي أصدرها المجلس، وتؤكد على ضرورة إعلاء القيم وعدم المساس بالأسر المصرية أو الحط من شأنها، أو إظهارها في صورة تسيء إليها".

 


هنا انفجرت السوشيال ميديا. لأن الجميع يعلم أن السبب الذي انتفض لأجله المجلس الموقر هو تحريض من عائلات المتهمين في قضية "الفيرمونت" الشهيرة، التي سميت باسم الفندق الذي ارتكب فيه مجموعة من الشباب الأثرياء، من أبناء العائلات النافذة جريمة اغتصاب فتاة بعد تخديرها، وتصويرها وتداول الفيديو على مجموعات واتساب، ومن ثم تسربه.

 

وحين بدأت بعض قضايا التحرش والاغتصاب تنكشف على نحو فضائحي عبر السوشال ميديا في مصر، ومن ثم اتخذت السلطات إجراءات قانونية ضد المتهمين، تشجعت ضحايا هؤلاء الشباب على التقدم بشكاوى وبلاغات قانونية ضدهم، لنكتشف أن بعضهم متورط في جرائم اغتصاب مروعة في غير هذه القضية.

ولأن المصريين يعرفون معنى النفوذ العائلي المبني على الثراء والعلاقات بمسؤولين سياسيين وأمنيين كبار، فقد أدرك الجميع أن معالجة القضية لن يكون سهلا، لذا حُبس الشهود الذين أدلوا بشهادات ضد المتهمين، وسُرِّب مقطع فيديو حميمي لشاهدة، وكان أثره مدمرا، مع أنها كانت زوجة المتهم وقتها. واستمرارا لذلك كله، حين انتفض المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، أدرك الجميع أن انتفاضته ليست إلا أمرا من مسؤولين نافذين بمنع المسلسل الذي يعالج قضية اغتصاب تشبه قضية الفيرمونت.

قصة مسلسل تدور حول الفتاة الفقيرة "أمنية"، التي ذهبت للعمل في قرية سياحية، فوقعت ضحية اغتصاب جماعي، ارتكبه ثلاثة شباب، بتأثير مادة مخدرة. كما صوروا جريمتهم، فانتشرت على السوشيال ميديا.


هكذا حدث ما لم يتوقعه أحد. بعد أن كان المسلسل مغمورا، لم يسمع به ولم يتابعه الكثيرون، أصبح عاصفة من الغضب على السوشيال ميديا، ولأن السلطة في مصر تخشى من أي تعبير عن الرأي، ومن أي انتشار لأي شيء على السوشال ميديا، حتى مقاطع فتيات التيك توك، التي لا تختلف في شيء عن المقاطع التي تبثها فتيات القرى السياحية الخاصة بالصفوة... لذلك كله، ترتبك السلطات كلما انتشر شيء ما على السوشيال ميديا، وغالبا ما تميل إلى اعتقال طرف أو أكثر، مثلما اعتقلت شباب الفيرمونت رغم نفوذهم، لأن المغامرة بإغضاب جماهير كبيرة، غير مسيسة هو آخر ما يسمح به النظام المصري.


وبعد أن كان المسلسل في مؤخرة السباق الرمضاني، صار متصدرا له، حتى اضطرت الأجهزة النافذة إلى إصدار أمر للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بإصدار بيان مضحك يتراجع فيه عن عنتريته السابقة، تحت مبرر عبثي، هو أن التحقيق انتهى إلى أن المسلسل نال موافقة الرقابة الفنية على المصنفات، وكأن مسؤولي المجلس لا يعرفون أنه من المستحيل إذاعة حلقة واحدة من أي مسلسل دون موافقة جميع الجهات المعنية في مصر!

واستمرارا لعبثية الموقف، نلاحظ أن تفاعل الناس مع البوست الذي نشره المجلس على صفحته على الفيس بوك، لإعلان انتهاء المشكلة، حظي بالكثير من الـ"هاها" وليس الإعجاب، مثلما حظي البوست الذي أعلن فيه التحقيق الفوري مع صناع المسلسل بكثير من الوجوه الغاضبة.

 


بالطبع يعلم الجميع أن المسلسل عُرض على الرقابة على المصنفات الفنية، وأنها الجهة المنوطة بذلك منذ عشرات السنين، وأن المجلس مستحدث فقط لتمنع السلطة من تريد منعه، لكن تحت ستار الوصاية الأخلاقية. يقول الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد: "وأحب أقول أن تدخل المجلس الأعلى للإعلام في المسلسلات أو الافلام ليس عمله. هناك إدارة للرقابة الفنية هي صاحبة الرأي... تدخله باسم الدفاع عن القيم والأسرة هو نوع من الفاشية التي صارت طريقة كل مسؤول والتي دمرت أمم وشعوب... الشعارات الكلية زي القيم والأسرة والأخلاق والتراث دي مقصود بيها ماحدش يقول رأيه غير السلطة..".


نستطيع أن نقول إن حال الإعلام والدراما والسينما بائس إلى الدرجة التي يعتبر النشطاء أن إنقاذ مسلسل مجهول هو انتصار بشكل ما على سلطة تعادي الإبداع بضراوة، ببساطة لأنها تعادي منبعه: الحرية.

التعليقات (1)
sandokan
الخميس، 22-04-2021 02:52 م
كيف سرق الأغنياء “لعبة الفقراء”؟ في كتابه الشهير “كرة القدم بين الشمس والظل” يقول الكاتب الأورغواياني “إدواردو قاليانو”: “لعبة الفقراء ابتدعوها دحضاً للقهر وتفوّقاً على الأحزان”، إذ كانت كرة القدم سليلة أحياء فقيرة بمدينتي ليفربول ومانشستر حيث يسكن عمّال المناجم والمصانع، ثمّ انتشرت بمرور السنين إلى كل مناطق الفقر في العالم، كونها كانت ملاذاً للتفوق على السادة، ورمزاً لحضور لاعبيها في المجتمع، بل صوتاً للمهمشين والمنسيين في هذا العالم. لوقت قريب كانت كرة القدم لعبة الفقراء، فهم من ابتكرها، وهم من نجح في عالمها المثير قبل أن يسرقها منهم الأغنياء خلال السنوات الأخيرة ويحولونها إلى مصدر لمزيد من الثراء، فمنذ العشريات الأولى للقرن الماضي كانت الساحرة المستديرة اللعبة التي يتناسى بها الفقراء همومهم ويضمدون بها جراحهم، يلعبون في الشارع والساحات العامة، وهي لا تكلف شيئاً لأن الكرة قديماً كانت عبارة عن كومة قماش، ولاحقاً كانت تُباع بثمن زهيد. تحوّل المصطلح الذي كان رائجاً في بداية القرن التاسع عشر من “لعبة الفقراء” إلى “لعبة الشعب” وبدأ البساط يُسحب مرّة بعد مرّة من تحت فقراء العالم، إذ تحوّلت لعبتهم التي تُعبّر عن أحزانهم والتي من خلالها يفجّرون إبداعاتهم ويُبلغون رسائلهم إلى السادة المهيمنين، لتُصبح مجالاً لرأس المال المتغطرس، رغم أن الفقراء هم من كتبوا تاريخ كرة القدم وهم أساطيرها ونجومها على مرّ التاريخ، فـ “بيليه” كان مسّاح أحذية في شوارع البرازيل و”مارادونا” و”ميسي” قدما من أحياء فقيرة في الأرجنتين، و”كريستيانو رونالدو” سليل عائلة فقيرة تسكن جزيرة ماديرا في البرتغال، “وجورج ويّاه” بفضل كرة القدم تحوّل من طفل مشرد في ليبيريا إلى نجم عالمي توج بالكرة الذهبية ثم بات رئيساً لبلاده. لقد تم سرقت اللعبة الحلم من الفقراء، بدأً من حقوق النقل، إلى ارتفاع قيمة التذاكر، مروراً بصعوبة حجز مقعد لهم على المدرجات بسبب الاحتكار . فالجماهير لم يعد بوسعها اليوم متابعة مباريات كرة القدم مجاناً والتفاعل معها والاستمتاع بمفاجآتها للترفيه ونسيان مصائب ومصاعب حياتهم. بل سُرقت منهم وخُطفت من أقدامهم وباتت دجاجة تبيض ذهباً للأغنياء.. ومنذ شروع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في بيع الحقوق إلى شبكات معينة بعقود طويلة الأمد، تحوّل المشاهد إلى دمية في يد أصحاب القرار، يستغلون حاجته في المشاهدة ويرفعون من أسعار الباقات المخصّصة للبطولات الكروية التي يحتكرون حقوق بثها في مناطق جغرافية معينة. ليست حقوق البث وحدها من حوّل كرة القدم إلى عالمها الثري، فالأندية أيضاً حوّلت كيانها إلى شركات تسعى للربح فقط، فأصبح كل أمر يتعلق بها تجارياً له أنظمته وتشريعاته القانونية، من عقود اللاعبين إلى حقوق النقل التلفزيوني إلى العلامات التجارية الراعية وكل الأمور الأخرى. هذا الوضع حوّل أسلوب الإدارة في الأندية إلى الأسلوب الاستثماري، من خلال إدخال الاستثمار في هيكلية الإدارة لتحقيق العوائد الكبيرة التي تُمكّن النادي من الاستمرار في النمو وتحقيق الأموال والبطولات. لقد شن المال هجوماً كاسحاً على الملاعب العالمية، وأصبح العامل الرئيس في صناعة النجوم، بل والمدافع الأساسي في كل ملعب كرة قدم، فقبل سنوات قليلة، وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين شهدت كرة القدم بداية حقبة الاستثمارات، وقد قال أحد المتخصصين: “قديماً في الملاعب كان هناك 11 لاعباً يتنافسون في مبارة لكرة القدم، أما اليوم ففي كل ملعب يوجد 11 رجل أعمال يلعبون الكرة . بدأت الأندية تتحوّل إلى شركات مساهمة ربحية من عملية بيع اللاعبين وشرائهم، وتسويق منتجات النادي عن طريق رموز اللعبة المتواجدين في كل فريق عالمي؛ كـ “ميسي” و”رونالدو”، و”نيمار” وغيرهم، ليُسيطر عالم المال على الكرة بشكل كامل، وكان أول بدأ عالم الرأسمالية في أجواء الساحرة المستديرة هي الأندية الإنكليزية، حيث يعتبر الدوري الإنجليزي أعلى البطولات أجراً، من حيث بيع حقوق النقل التلفزيوني، لأن العائدات توزّع بالتساوي على أندية كرة القدم في الـ”بريميير ليغ”، سواء أكان الفريق في أول الترتيب أم آخره، والكل يناله نصيب وافر من حقوق نقل المباريات تلفزيونياً.. لذلك لا يُمكن أن نتفاجأ حين نسمع أن الإحصائيات المتعلقة بمونديال روسيا 2018 أقرّت بأن أكثر من ثلثي فقراء العالم لم يشاهدوا المباريات بواسطة نقل مباشر، بل تعرّفوا على النتائج فيما بعد بوسائط أخرى غير تلفزيونية، وهو مؤشر يشي بأن تغيرات جذريّة حصلت داخل منظومة كرة القدم العالمية، من خلال مزيد هيمنة رأس المال. (بقلم محمود محمد دياب، المدير العام ورئيس التحرير ) مجلة كيو بزنس .
الأكثر قراءة اليوم