صحافة دولية

ذي أتلانتك: بوتين يسعى لدفن الماضي وتشكيل الحاضر

تاغو: بوتين رجل حديث يتفاعل مع العالم الحديث مستخدما الأساليب الحديثة في محاولة صنع شيء جديد- جيتي
تاغو: بوتين رجل حديث يتفاعل مع العالم الحديث مستخدما الأساليب الحديثة في محاولة صنع شيء جديد- جيتي

قالت مجلة "ذي أتلانتك" إنه يوجد توجه حديث خاص لوصف الأشياء التي لا نحبها على أنها تنتمي إلى الماضي. طالبان من العصور الوسطى، وأنصار دونالد ترامب متخلفون، وأنصار البريكست يحنون إلى الإمبراطورية.

تحت هذا العنوان، يعتبر فلاديمير بوتين ارتدادا سوفييتيا والحرب التي قد يبدؤها قريبا في أوكرانيا، كما أشار جون كيري ذات مرة، تشبه بعض مناوشات القرن التاسع عشر التي تم نقلها إلى القرن الحادي والعشرين، وفق مقال للصحفي توم ماك تاغو نشرته المجلة الأمريكية.

وأضاف أنه من المريح أن نتخيل أن هذه الأشياء التي لا تتوافق مع أفكارنا عن الحداثة ليست حديثة. التفكير بهذه الطريقة يعني أننا حداثيون وفي "الجانب الصحيح من التاريخ". بالنظر إلى العالم بهذه الطريقة فإن كل الأشياء السيئة التي نراها من حولنا تشبه أشباح الماضي التي قد تعيق التقدم لفترة لكنها لا تستطيع إيقاف عجلاته في نهاية المطاف.. هذا بالطبع محض هراء.

فبوتين.. رجل ينتمي إلى عالمنا.. وهو ليس حديثا فقط مثل أي زعيم غربي، ولكن بالمقارنة مع أولئك الذين يبدو أنهم يعتقدون أن الحداثة هي مرحلة وصلنا إليها في حدود عام 2000، فهو أكثر حداثة إلى حد كبير.

ومن المؤكد أن الحديث لا يعني أنه "جيد" أو "معقول" أو "صحيح". كما أن حداثة بوتين لا تعني أنه كان - أو سيكون – ناجحا.. إن القول بأن الرئيس الروسي حديث، في الواقع، لا يعني إصدار حكم قيمي على الإطلاق.. ومع ذلك، فإن فهم بوتين كظاهرة حديثة أمر مهم بشكل أساسي إذا أردنا تجنب خطأ التصنيف الذي يفترض أن الخطر الذي يمثله هو وأشكاله يتمثل في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وليس تسريعها، وإعادة إنشاء عوالم قديمة وليس جديدة.

وأضاف الكاتب قائلا إنه يقرأ حاليا كتابا عن المافيا للمؤرخ البريطاني جون ديكي الذي يوضح أنه لعدة قرون، رفضت السلطات في إيطاليا الظاهرة باعتبارها نتاج تخلف صقلية. قيل إن المافيا ستختفي بمجرد سيطرة قوى الحداثة على الجزيرة، وتجلب الديمقراطية والليبرالية والازدهار.

في الواقع، كانت المافيا نتاجا للحداثة، ولدت من الأرباح الهائلة التي حققتها صقلية من بيع الحمضيات في جميع أنحاء العالم بعد انهيار النظام الإقطاعي القديم. بعبارة أخرى، كانت المافيا منظمة إجرامية حديثة تستغل الاقتصاد الحديث. منذ ذلك الحين، تمكنت من البقاء من خلال التكيف مع العالم الحديث.

معلقا بأن الخطر اليوم هو أننا نكرر نفس الخطأ، فقط على نطاق أوسع بكثير مع روسيا والصين. بغض النظر عما نعتقده عن الصين، فإن تحول البلاد نحو الاستبداد والقمع في عهد شي لا يعني أنها اتخذت خطوة إلى الوراء من شأنها إضعاف اقتصادها أو تحديها للنظام الأمريكي.. في الواقع، ليس تخلف الصين هو ما يجعلها مخيفة للغاية، ولكن حداثتها. إن محنة الأويغور هي حالة مروعة في صميم الموضوع.

وينطبق شيء مشابه على روسيا، التي يبدو أنها نوع من دولة المافيا الفوضوية، التي يسيطر عليها عراب في الكرملين. لكن لمجرد أن هذا النظام يبدو غير مستقر وكارثيا للشعب الروسي لا يعني أنه متخلف أو أنه لا يستطيع تحقيق أهدافه المحدودة. إن روسيا التي تحشد قواتها على الحدود الأوكرانية ليست تلك التي جاءت من قبل، في ظل القياصرة أو السوفييت، ولكنها شيء جديد تماما ومخيف.

لذلك، فإن عودة ظهور الصين وروسيا تشكل تحديا خياليا. فجأة، يضطرنا إلى مواجهة احتمالية عدم "التقدم" في المستقبل نحو نظام أكثر استنارة وعدالة وعالمية. بدلا من ذلك، قد يكون المستقبل أكثر استقلالية وتنافسية وقومية وربما حتى حضارية. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يحدث إذا كنا في الجانب الخطأ من التاريخ، ليس لأننا كنا مخطئين بالضرورة ولكن لأننا هُزمنا فقط؟

وفي كتاب سيصدر قريبا بعنوان "الاضطراب: الأوقات الصعبة في القرن الحادي والعشرين"، من تأليف الأستاذة بجامعة كامبريدج هيلين طومسون، ترسم الكاتبة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية التي واجهها الغرب منذ نهاية الحرب الباردة. ونقل الكاتب عن طومسون قولها إن الأزمة على الحدود الأوكرانية اليوم هي جزء من قضية أوسع - وأقدم بكثير - تتعلق بكيفية إدارة الدول بين روسيا وألمانيا، الآن فقط في البيئة الجديدة للقرن الحادي والعشرين، حيث لا يستطيع الاتحاد الأوروبي الدفاع عن نفسه وتحالف عسكري غربي أوسع تقوده دولة مهيمنة منشغلة بالصين. وقالت إننا نعتقد أن بوتين عفا عليه الزمن، فقط لأننا أقنعنا أنفسنا بأننا تجاوزنا شكل سياسات القوة القائمة على المصلحة القومية التي يمارسها، إلى ما يتجاوز القومية.

وتكمن المشكلة في أنه بينما يُنظر الآن إلى الاستعراض العلني للقومية على أنها بغيضة إلى حد ما، وقديمة، وخطيرة في الغرب، فإن الدولة القومية نفسها لا تزال الأساس ليس فقط للعلاقات الدولية، ولكن للديمقراطيات الغربية. وكما قالت طومسون، لكي يختار الناس ممثليهم، يجب أن يكون هناك شعب في المقام الأول، وتاريخيا حددت الأمة من هو أي شعب ديمقراطي معين. أي إن الديمقراطية والقومية تسيران جنبا إلى جنب.

نشر بوتين مقالا العام الماضي حاول فيه إثبات أن الروس والأوكرانيين هم حقا شعب واحد، يحتلون أراضي "روسيا التاريخية". في مقالته، يلقي بوتين باللوم على قادة البلاشفة في إنشاء أوكرانيا منفصلة، متهما إياهم بمعاملة الشعب الروسي على أنه "مادة لا تنضب لتجاربهم الاجتماعية".

وردا على ذلك، نشر وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، روايته الخاصة مجادلا بأن "أوكرانيا كانت منفصلة عن روسيا لفترة أطول بكثير في تاريخها مما كانت عليه متحدة". كما أنه رفض زعم بوتين بأن شعب بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا هم شعب واحد ينحدر من "روسيا القديمة" واتهمه باختلاق التاريخ.

وتكمن المشكلة في كل هذا في أنه لا يوجد تاريخ حقيقي يمكنه تحديد درجة انفصال أوكرانيا عن روسيا أو عدم انفصالها عنها، فجميع الدول، في الواقع، هي عبارة عن تأليف، وتتطلب روايات أسطورية إلى حد ما. لكن مجرد تخيل الأمم لا يجعلها مزيفة. كما أخبر الفيلسوف جون غراي الكاتب: "التجربة الإنسانية برمتها خيالية. المال، والحدود، والقوانين، والسلطة - تعمل فقط إذا اتفقنا جميعا على أنها موجودة". النقطة المهمة هي ما يعتقده الناس في روسيا وأوكرانيا وما إذا كان أحد الطرفين يستطيع فرض إرادته على الجانب الآخر.

وهنا يكون بوتين هو الأقوى والأضعف.

في الأزمة التي أوجدها، كان لبوتين هيمنة تصعيدية واضحة على الغرب. لديه الوسائل وربما الإرادة لغزو أوكرانيا. لن يخوض الغرب ببساطة حربا من أجل استقلال أوكرانيا، على الرغم من أنه سيفرض ثمنا باهظا على بوتين مقابل أي توغل. إذن، يعكس سلوك بوتين العالم الموجود اليوم - هو عالم لا يستطيع فيه الاتحاد الأوروبي الدفاع عن الدول التي تريد الانضمام إليه وتتراجع أمريكا نفسيا عن حدودها الإمبريالية.

ولاحظ كارل ماركس أنه في لحظات الأزمة الثورية، يتم استدعاء أرواح الماضي لتقديم المشهد الجديد بطريقة يمكننا فهمها. هذا ما يفعله بوتين اليوم. المهم، كما لاحظ ماركس، أنه ليس في الواقع بعث الأرواح القديمة مرة أخرى، ولكن استخدام ذاكرتها لتمجيد النضال الجديد، وتضخيم المهمة في المخيلة العامة.

والتاريخ مهم إذن، لأنه يشكل طريقة تفكيرنا في العالم ومكاننا فيه. والطريقة الرئيسية التي نفهم بها التاريخ هي من خلال تاريخ الأمم. على هذا النحو، فإن التواريخ الوطنية هي بالضرورة قصص وليست دراسات علمية. هل مات ملايين الأوكرانيين جوعا في ظل ديكتاتورية جوزيف ستالين؟ نعم. هل كان المواطنون الروس العاديون هم أيضا ضحايا البلشفية، كما يحتج بوتين؟ نعم. هل كان انهيار الاتحاد السوفياتي تحررا أم مأساة؟ هذا يعتمد على موقفك السياسي، بالنسبة للكثيرين، ربما كان كلاهما.

ومثلما نقل الكاتب عن مؤرخ الحرب العالمية الثانية آلان ألبورت، فإن بوتين، مثل أي شخص آخر، شكّله التاريخ وهو يستخدمه في أغراضه الخاصة. قال: "نعمل جميعا على هذين المستويين".


يجادل ألبورت بأن النقطة لا تكمن حقا في ما إذا كانت الروايات التاريخية صحيحة أم لا، ولكن ما إذا كانت وظيفية أم لا. ولكن من الذي يقرر ما هو وظيفي وما هو غير فعال؟ في بريطانيا، على سبيل المثال، هناك أسطورة روح الحرب الخاطفة، الفكرة التي مفادها أن سكان لندن العاديين توحدوا معا تحت القصف الجوي الألماني. قال ألبورت إنه حتى في ذلك الوقت، كان الناس يعرفون أن تلك كانت أسطورة.. وحتى اليوم، يحب البريطانيون الاعتماد على هذه الأسطورة للحفاظ على الهدوء والاستمرار، وهو أمر إيجابي غالبا ولكن يمكن أيضا، اعتمادا على وجهة نظرك السياسية، أن يكون شكلا من أشكال اللامبالاة. ربما هناك أوقات تكون فيها قلة التفاؤل أفضل.

يحب البريطانيون اليوم تصديق ما وصفه ألبورت بأنه "أسطورة أليمة".. بأنهم مهووسون بشكل فريد بالحرب العالمية الثانية، في حين أن "الواقع هو أن الجميع مهووسون بالحرب العالمية الثانية". يظهر هذا الهوس بطرق مختلفة في أماكن مختلفة، كما نشهد الآن مع اختلاف ردود الفعل الفرنسية والألمانية والبريطانية والأمريكية على تهديدات بوتين لأوكرانيا. في كل حالة، يمكن النظر إلى ردود الفعل هذه على أنها انعكاسات للدروس المستفادة من الحرب العالمية الثانية: يجب على ألمانيا أن تسعى إلى السلام ويجب أن تظهر فرنسا استقلالها ويجب على بريطانيا ألا تسترضي ويجب على أمريكا أن تقود.

الحقيقة هي أن الأمم وأفكارها مهمة؛ حين نضعها في الماضي وننتقل إلى عالم ما بعد وطني أو عالم "عقلاني"، ظننّنا أننا ملكناه ولكن تلك كانت أسطورة في حد ذاتها اخترنا تصديقها، لأنها ساعدت في فهم عالمنا الذي يسيطر عليه الغرب، ما جعلنا نشعر بالرضا. نحن في الغرب نحب أن نتجاهل حقيقة أن وراء هذا النظام الدولي تكمن القوة الأمريكية الهائلة. بالنسبة لمعظمنا في الغرب، هذا ليس شيئا سيئا - في الواقع، مكاننا في هذا النظام الإمبراطوري مفيد للغاية. يبدو أن الأوكرانيين اليوم يرغبون كثيرا في أن يكونوا جزءا منه. لكن لا يزال علينا مواجهة ما سيحل محله.

لقد ذهبت تلك اللحظة التي اعتمدنا فيها في الغرب على القوة الأمريكية. من المرجح أن تظل أمريكا القوة البارزة في العالم، لكنها في حالة تدهور نسبي بسبب النمو الاستثنائي للصين. هذا هو سياق الانتقام الروسي، وهو تعبير عن العالم الحديث، وليس السياق الذي تلاشى عن الأنظار منذ فترة طويلة.

إذن، بوتين رجل حديث، يتفاعل مع العالم الحديث، مستخدما الأساليب الحديثة في محاولة لصنع شيء جديد. إنه يستحضر أرواح الماضي في خدمته، ويلبس عدوانه ثوب التنكر العريق. ومع ذلك لا ينبغي أن يخدعنا هذا. الواقع جديد وحقيقي. يحاول بوتين دفن العالم القديم، وليس إعادته. وحقيقة أنه يشعر أنه يستطيع تشير إلى أننا وصلنا بالفعل إلى مكان جديد. السؤال هو من سيكون لديه الأدوات - والخيال – لتشكيله.

التعليقات (0)