أفكَار

نقاش علمي هادئ حول مراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام (1من2)

محمد يتيم: توجه الشريعة الإسلامية يعطي الأولوية إلى الحق في الحياة على حق الحق في القصاص  (الأناضول)
محمد يتيم: توجه الشريعة الإسلامية يعطي الأولوية إلى الحق في الحياة على حق الحق في القصاص (الأناضول)

دافع القيادي البارز في حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، محمد يتيم، على تعليق تنفيذ عقوبة الإعدام بالمغرب، معتبرا أن التضييق على ثقافة القتل والقصاص يُعد توجها تشريعيا عاما في الشريعة الإسلامية. 

واعتبر الوزير السابق في حكومة العثماني، في ورقة ننشرها في "عربي21" على جزأين، أن قاعدة التخيير في القصاص وفي حد الحرابة في الإسلام، تشكل مدخلا لمراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام، داعيا إلى تضييق حالات تطبيق هذه العقوبة إلى الحد الأقصى في القانون الجنائي المغربي، وفي الممارسة أيضا.

يركز الجزء الأول، الذي ننشره اليوم على شرح دوافع مراجعة الموقف من عقوبة الإعدام في العالمين العربي والإسلامي، من خلال إعادة العقوبة إلى جذورها.. 

 

                               محمد يتيم

أولا ـ في دواعي مراجعة الموقف من عقوبة الإعدام 

يقف كثير منا موقفا رافضا للدعوة إلى اإغاء عقوبة الاعدام. ودون شك فإن أهم حائل يحول بينهم وبين  ذلك هو حرجهم من أن يكون في هذا الموقف تعارض مع الشريعة التي تقر مبدأ القصاص واعتقادهم أنهم بذلك سيتبنون موقفا معاكسا لأمر محسوم به من الناحية الشرعية خاصة وأنه بالإضافة إلى مبدأ القصاص، وقاعدت الواردة في قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم قال تعالى  بعدها ـ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 178، 179].
 
توجد مجموعة من الأحكام الشرعية التي تتبنى حدودا تقوم على "إعدام" الواقعين فيها مثل زنى المحصن أو قتل "المرتد" المبدل لدينه المفارق للجماعة.. ثم يأتي في المقام الثاني بالنسبة إليهم مختلف الحجج التي يستدل بها المدافعون عن عقوبة الإعدام وخاصة الجانب الردعي للعقوبة الذي هو موضع خلاف كبير بين المناصرين لبقاء عقوبة الإعدام والداعين إلى إلغائها نطقا أو تنفيذا .

وحيث أن القانون الجنائي المغربي يعطل اليوم كثيرا من أحكام الشريعة أو الحدود التي تذهب إلى حد الإعدام، كما هو الشأن في جريمة الزنا وجريمة الردة وجريمة السرقة، وفي كثير من حالات القتل العمد مما لا يكون معه من الصواب الدفع بالجانب الشرعي من المسألة والاحتجاج بالأحكام التي ورد فيها (القتل) أو الحكم بالإعدام بلغة العصر على رفض إلغاء عقوبة الإعدام.
 
وحيث إن كثيرا من أحكام الشريعة قد نسخت نسخا فعليا رغم أنها لم تنسخ شرعيا حسب قواعد النسخ المعروفة عند علماء الإسلام كما هو الشأن بالنسبة للأحكام الخاصة بالرق والتسري وملك اليمين، كما أن عددا من الحدود قد تم توقيف العمل بها كما هو الشأن بالنسبة لحد الردة وحد السرقة وحد الزنا من الناحية العملية فضلا عن أن القانون الجنائي المغربي لم يأخذ بها، وحيث أن عددا من القرائن ترجح أن كثيرا من أحكام الشريعة محكومة في تطبيقها بمراعاة المال وتخضع لقاعدة جليلة من قواعد الشريعة هي قاعدة التخيير.

وإن عددا من الأحكام التي وردت فيها عقوبة القتل تدخل على الأرجح في باب التعزير الذي يرجع فيه النظر إلى "الإمام" أو الدولة بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية بالمعنى المعاصر، كما أن للإمام أن يدرأ الحدود بالشبهات وأن يستبدله او يضيف إليه عقوبة تعزيرية، حيث إن من القواعد المقررة شريعة قاعدة درء الحدود بالشبهات، ومراعاة المآلات عند الإجراء والتنفيذ مما يستدعي العدول عن إجرائها وتطبيقها لعدم تحقق مقاصدها إلى غيرها مما يمكن أن يقدر اجتهادا.

وإن التوجه التشريعي العام للشريعة الإسلامية كان متجها إلى إعطاء الأولوية إلى الحق في الحياة على حق الحق في القصاص، وأن تشريع القصاص كان تعاملا يراعي ثقافة كانت منتشرة في الجاهلية عمل الإسلام على تهذيبها ومحاصرتها تدريجيا من خلال التشريع ومن خلال تغيير الثقافة شأنها في ذلك شأن أحكام التسري، مما يجعل من حكم القصاص حقاً من حقوق الجماعة، أي أن الأمر يرجع فيه إلى الجماعة وتقديرها وثقافتها وأنه يمكن العدول عنه إلى العفو أو إلى عقوبة تعزيرية تحمي المجتمع من الثارات والأحقاد والحروب المتواصلة.

وحيث انه لا يجوز أن نتصور القصاص اليوم من خلال المبادرة الذاتية لأولياء الدم وأهل القتيل وأنه لذلك ينبغي أن يؤول إلى الدولة التي عليها أن تنظمه وأن تقننه، باعتبار ولايتها العامة على المواطنين ونيابتها عنهم في ظل الدولة المعاصرة، وأنه يجوز للدولة أو الإمام أن يجتهد في الأمر وأن يميل عن الإعدام إلى عقوبة بديلة على سبيل التخيير ومراعاة المآلات.
 
وحيث أنه لا ضير في اعتبار التوجهات الحقوقية الدولية في المسألة والانخراط فيها باقتناع وهو أمر معتبر عمل به الرسول صلى الله عليه وسلم حين عدل عن قتل بعض المنافقين حين قال: "أخاف أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه"، مع التأكيد أن التأمل الدقيق، والفهم المستوعب للشريعة ومقاصدها وقواعدها الكلية يفضي إلى إدراك علوية الشريعة وتقدمها في مراعاة حقوق الإنسان أكثر مما يمكن أن تراعيها أي شريعة أو شرعية أخرى.
 
انطلاقا من ذلك مما ستفصل فيه هذه الورقة أرجح التوجه المعمول به في المغرب وهو تعليق تنفيذ  عقوبة الإعدام وتضييق حالات تطبيقه إلى الحد الأقصى في القانون الجنائي المغربي وفي الممارسة أيضا.

التضييق على ثقافة القتل والقصاص توجه تشريعي عام في الشريعة
                       
ما تمت الإشارة إليه في أحكام الاسترقاق يمكن في نظرنا والله أعلم أخذه بعين الاعتبار كذلك في موضوع القصاص.. إن إقرار القصاص في الشريعة الإسلامية جاء كي يعالج حالة اجتماعية كان الثأر فيها عملة رائجة وثقافة سارية، حالة كانت تسفر عن حروب قبلية طاحنة لا تكاد تنتهي في الجزيرة العربية.. 

جاء الاسلام كي يكبح هذه الحالة من الإسراف في الدم والإسراف في القتل من خلال عدة مداخل منها مداخل تربوية تقوم على إعادة ترويض نفسية العربي في الجاهلية والتسامي بها عن غريزة القتل التي تحولت إلى حالة اجتماعية وثقافية مترسخة وذلك من خلال إعادة الاعتبار لحرمة الزمان أي الأشهر الحرم وحرمة المكان أي الحرم المكي، فحرم القتل والاقتتال في الأشهر الحرم كما حرم  الصيد البري لما فيه من قتل ومن استدعاء لغريزة القتل وسفك دم الصيد على عكس الصيد البحري الذي ليس فيه دم ولا يستدعي غريزة القتل.

 

لاحظ أن حكم القصاص حكم ديناميكي محاط بعدة شروط تتجه في المجمل إلى التضييق عليه وأنه كان مرتبطا بحالة ثقافية سائدة هي ثقافة الغلبة والثأر، ولذلك لم يمنعه الإسلام لكن توجهه العام كان هو التضييق عليه ومعالجته، ولم يجعل القتل مقابلا للقتل بصفة آلية جريا على القاعدة التي كانت سائدة عند العرب والقائلة: "القتل أنفى للقتل"

 


  
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ".
 
وقال تعالى: "أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ".

كان القصاص آنذاك عملة رائجة وممارسة ثقافية متأصلة، والشارع راعى هذا الأمر وجعل المرجع فيه إلى الجماعة وأهل القتيل، ومن ثم لم يجعل من تنفيذ عقوبة القاتل هي الإعدام كحكم قطعي نهائي أو عقوبة أصلية أي حقاً من حقوق الله بل جعله حقاً من حقوق أهل القتيل، مما يعني أن الشريعة لم تجد حرجا في فتح الباب للعدول عن تطبيق حكومة الإعدام إلى غيرها إذا عفا أهل القتيل.

ومن الملفت للانتباه والتوقف عند التعقيب الوارد في آية القصاص حين فتح إمكانية العفو من أهل القتيل، حيث يشير إلى أن التوجه التشريعي العام إذا كان هو إقرار مبدأ القصاص وأن فيه حياة فإنه أيضا هو التخفيف والرحمة.

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة: 178 ـ 179].

كما يشهد لهذا التوجه أيضاً وصية الشارع بعدم الإسراف في القتل مع توصيته بالعفو، فحين جعلت الشريعة الاسلامية القصاص في يد أهل القتيل فإنها وهي تعطيهم حق تنفيذه وتفسح المجال للعفو وقبول الدية، أوصت أولياء الدم أن لا يسرفوا في القتل قصاصا في قوله تعالى "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل" (الإسراء 33) أي أن للأولياء القتيل سلطانا واختيارا أن يقتلوا القاتل أو يأخذوا منه الدية ولكنه أوصى أولياء الدم بالعفو لأن العفو أقرب للتقوى.. مما يؤكد أن التوجه التشريعي العام كان يتجه نحو التضييق على ثقافة القصاص من خلال القتل أو الإعدام والبحث عن عقوبات بديلة ومراعاة الثقافة السائدة مع العمل على تغيير وجهتها بالتربية والتدرج في مجال التشريع.
 
ومما يشهد لهذا التوجه ويؤيده ما أحاطت به الشريعة عقوبة القصاص من ضمانات وشروط ومن الموانع التي تضيق من تطبيقها إلى أقصى قدر ممكن، ومن ذلك مثلا :

ـ أن لا يكون المقتول جزء القاتل، فلا قصاص بقتل الوالد لولده أو الجد لحفيده ولا كل أصل لفرعه.

ـ أن لا يكون المقتول معصوم الدم، فلا قصاص إذا كان المقتول مهدور الدم بأن كان مرتدا عن الإسلام أو حربيا كافرا لعدم عصمة دمه.
  
ـ  حالة تعدد الأولياء في قصاص مشترك، "فإذا عفا أحد من هؤلاء الأولياء سقط القصاص عن القاتل، إذ أن محل القصاص أو انعدامه كتعذرا إيقاع القصاص بسبب موت الجاني بحيث يستحيل تنفيذ العقوبة.

 ـ العفو: وهو تنازل ولي المقتول عن حقه في القصاص لأن القصاص حق شخصي يسقط بإسقاط المجني عليه أو وليه لحقه.. قال تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة).

ـ الصلح: اتفق الفقهاء على أن القصاص يسقط بالصلح كما يسقط بالعفو ومقتضى الصلح أن يتفق ولي المجني عليه مع الجاني على سقوط القصاص لقاء مال يدفعه الجاني لهم سواءا كان هذا المال أقل من الدية أو اكثر منها (د. مازن ليلو راضي ـ مركز العراق للأبحاث / الديواني) .

وبذلك يلاحظ أن حكم القصاص حكم ديناميكي محاط بعدة شروط تتجه في المجمل إلى التضييق عليه وأنه كان مرتبطا بحالة ثقافية سائدة هي ثقافة الغلبة والثأر، ولذلك لم يمنعه الإسلام لكن توجهه العام كان هو التضييق عليه ومعالجته، ولم يجعل القتل مقابلا للقتل بصفة آلية جريا على القاعدة التي كانت سائدة عند العرب والقائلة: "القتل أنفى للقتل".


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم