هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ذات مفترق جيو ـ سياسي غير بعيد في الزمن، لم يتردد البعض في إسباغ البُعد التاريخي على منعرجاته، بات مصطلح «الحرب على الإرهاب» أقرب إلى تعبير مفرَغ من أيّ معطى عملي يتصل بمضمونه العملي والفعلي؛ وذلك رغم رواجه الواسع والسريع، والميل الأسرع إلى استخدامه كيفما اتفق، بصرف النظر حتى عن تفسيراته اللغوية المحض.
في ذاك الزمن، حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وهيمنة المحافظين الجدد على مفاصل الإدارة السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية، كان للسير مايكل هوارد، المؤرّخ البريطاني الأخصائي بتواريخ الحروب، رأي آخر لافت لا يسير على خطوط مناهضة تماماً لمحتوى التعبير، فحسب؛ بل أيضاً نحو سجال مناهض يتوخى التسفيه والتعرية، قبل النقض والدحض.
لقد أسقط عن الصراع ضدّ الإرهاب صفة الحرب، وسخر استطراداً ممّن يتشدّقون بالقول إنها «حرب عالمية» وأعاد التشديد على حقيقة مزدوجة، ليست البتة جديدة في واقع الأمر: أنّ أمريكا ترى نفسها في صفّ الخير ضدّ الشرّ، كالعادة، وأنّ خصمها الفعلي الراهن هو الإسلام المتشدد (بعد أن كان الشيوعية، أساساً) وليس أيّ مفهوم مجرّد لـ«الإرهاب». ولقد تساءل هوارد عمّا إذا كانت تسمية «الحرب» تمنح الفريق الثاني، أي «الإرهابيين» أنفسهم، صفة شرعية تستوجب حصولهم على الحقوق، مثل خضوعهم للواجبات، المنصوص عنها في المواثيق الدولية الخاصة بالحروب؟
والذكرى السنوية لهجمات 11/9، وهي في أيلول (سبتمبر) الجاري تسجّل 21 سنة بالتمام والكمال، تردّ إلى الذاكرة سلسلة محاور ومواقف وقرارات وأحلاف ومعارك وُضعت على برامج «الحرب على الإرهاب» ولكن تعددت أجنداتها أو تقاطعت أو تناقضت، ويندر أنها تكاملت، على مبعدة مثيرة من معترك الحرب ذاتها، أية حرب بأية صيغة.
بين الأكثر دراماتيكية، حيث الميلودراما أيضاً، كان ذلك الوعيد الشهير الذي أطلقه جيمس وولزي، من رئاسة وكالة المخابرات المركزية ولكن من حرم جامعة كاليفورنيا، ربيع 2003، ضدّ «أضراب مبارك» و«العائلة الملكية السعودية»؛ من أنّ عليهم أن «ينرفزوا» بشدّة لأنّ أمريكا تعتزم، بعد احتلال العراق، الانفتاح على الشعوب المقهورة في الشرق الأوسط، وخوض الحرب العالمية الرابعة معها، كتفاً إلى كتف! وأمّا الترجمة العملية لذلك «الانفتاح» على الشعوب، فقد تولّته وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، كوندوليزا رايس، حين عقدت اجتماعاً رباعياً مع رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، ومدير المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان، ومدير المخابرات في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ هزاع بن زايد، ومدير المخابرات الأردنية محمد الذهبي!
بيد أنّ خواتيم الـ21 سنة، كما تأتي أكلها هذه الأيام، هي انتصار الطالبان في أفغانستان، ومشهد الاستعصاء الذي يشهده العراق داخل الصفّ الشيعي تحديداً؛ إذا صرف المرء النظر عن عشرات الحركات الجهادية والإرهابية التي توالدت وتكاثرت سنة بعد أخرى، في أعقاب لافتة بوش الابن الشهيرة على متن البارجة أبراهام لنكن مطلع أيار (مايو) 2003، التي أعلنت أنّ «المهمة اكتملت».
أو وضع المرء جانباً ستراتيجيات/ تخبطات ثلاثة رؤساء أمريكيين بعد تلك اللافتة، الأشبه بفضيحة معلنة سوف يحتاج صاحبها إلى خمس سنوات قبل أن يضطرّ إلى الاعتذار عن هرطقاتها. أو إذا ذهب أبعد فتبصّر حصاد «انتصارات» أمريكية عسكرية واستخباراتية استعراضية، مثل اغتيال أسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري؛ على ضوء ما أسفرت عنه تلك العمليات من تصفية الأجساد دون اجتثاث جذورها في النفوس، أو في خلايا يقظة وأخرى نائمة.
ما تبقى من تلك «الحرب» هو الرسوبات العديدة، والكثير منها بات تشوّهات مستعصية، متخلقة عن تلك النظرية الثابتة واليقينية والتبسيطية التي ابتدعها بوش الابن: 11/9 كانت جولة للشرّ ضدّ الخير، ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا في أفغانستان والعراق.
أو، أخيراً وليس آخراً، إذا شاء المرء إقامة روابط (ليست خاطئة ولا افتراضية) بين الكثير من مظاهر الهوس الجماعي الشعبوي في مساندة «الحرب على الإرهاب»؛ وبين صعود دونالد ترامب، والترامبية عموماً، وما اقترن به وبها من شروخ شعبوية وعنصرية وانعزالية وميليشياتية في قلب المجتمع الأمريكي.
جوانب أخرى ليست أقلّ أهمية كانت، وتظلّ، مدى تمسّك قطاعات مختلفة من الجمهور الأمريكي بمصطلح «الحرب على الإرهاب» اتكاءً على محطة كبرى في تطويره هي الاجتياح الأمريكي للعراق سنة 2003؛ وما تبقى من ذلك الهوس الذي اكتسب هيئة الظاهرة في حينه، الشعبية والشعبوية في آن معاً، وكانت قواسمه العظمى ترتدّ إلى معاني الولاء الوطني والأمن الجَمْعي.
من الخير في هذا الصدد العودة إلى أنتوني ديماجيو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليهاي، بنسلفانيا، ومؤلف كتاب «فاشية صاعدة في أمريكا: يمكن أن تحدث هنا»؛ الذي أشرف على استطلاع رأي أجرته الجامعة مؤخراً بالتعاون مع مجموعة هاريس المعروفة، أظهر أنّ ٪79 من الأمريكيين المستطلَعين يناهضون الحرب التي شُنّت ضدّ العراق، تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» بالطبع. أسبابهم تتنوّع، وهذا أمر جدير بالتمعّن: ٪20اعتبروا أنها كانت خطأ ولا تقود إلى الظفر، و٪17 بسبب كثرة الضحايا في صفوف الأمريكيين، و٪15 لأنها لم تكن مبررة أخلاقياً، و٪11 لأنّ كلفتها كانت عالية من منظور مالي. ليس خافياً، إلى هذا، مغزى غياب أيّ نسبة تناهض تلك الحرب لأنّ أكلافها البشرية والمادية والعمرانية والبيئية كانت باهظة وفادحة على الشعب العراقي ذاته، في المقام الأوّل.
غير أنّ الجديد الهامّ في استطلاع الرأي الذي أشرف عليه ديماجيو هو طرح السؤال الحاسم، ربما للمرّة الأولى في تاريخ استطلاعات الرأي حول «الحرب على الإرهاب»: ما الذي تعتقد أنّ مناهضي الحرب على العراق يقصدونه في قولهم إنها غير مبررة أخلاقياً؟ هنا، أيضاً، تنوّعت التأويلات: ٪64 اعتقدوا أن الحديث عن أخلاقيات تلك الحرب على صلة بالمزاعم الكاذبة، خاصة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛ ٪31 اعتبروا أنها تخصّ بالأعداد الكبيرة من الضحايا، في صفوف الجنود الأمريكيين؛ و٪31 افترضوا أنها ناجمة عن حرب شُنّت بغرض الهيمنة على العراق ونفطه؛ واللافت، أخيراً، أنّ ٪22 ربطوا انعدام أخلاقية الحرب بالأعداد الكبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين العراقيين. وفي ظنّ هذه السطور، وبصرف النظر عن التباينات المختلفة عند قراءة نتائج ذلك الاستطلاع، أنّ الخلاصة الأبرز قد تكون قناعة 8 من كلّ 10 أمريكيين أنّ «الحرب على الإرهاب» كانت خديعة مدروسة، أو تضليلاً متعمداً، أو حتى أكذوبة مصنّعة.
وهكذا فإنّ ما تبقى من تلك «الحرب» هو الرسوبات العديدة، والكثير منها بات تشوّهات مستعصية، متخلقة عن تلك النظرية الثابتة واليقينية والتبسيطية التي ابتدعها بوش الأبن: 11/9 كانت جولة للشرّ؛ ضدّ الخير (الذي ينبغي أن يبدأ من هنا: من واشنطن، والقِيَم الأمريكية، و«طرائقنا في العيش» وديمقراطيتنا، وفلسفات سياستنا واجتماعنا واقتصادنا…)؛ ولا وسيلة لانتصار الخير على الشرّ إلا بما فعلنا في أفغانستان والعراق (ثمّ في فلسطين ولبنان وسوريا… بالإنابة، أو بالتفويض، ضمن الشراكة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي)؛ وهذه الحرب على الإرهاب، بقيادة أمريكية دائماً، هي سمة القرن الحادي والعشرين. مع فارق أنّ 21 سنة انقضت من هذا القرن، والانتكاسات لا تتعاقب هنا وهناك في أفغانستان والعراق خاصة، والحليف الإسرائيلي لا ينحطّ أكثر فأكثر نحو أسوأ أنماط الأبارتيد، فحسب؛ بل لقد بلغ الأمر درجة الانقلاب الداخلي على «طرائقنا في العيش» إياها، سواء عبر التمرّد على صناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات الرئاسية، أو مهاجمة الكابيتول قلعة الديمقراطية الأمريكية، أو النكوص عن مكاسب وحقوق مدنية تبدأ من حرية المعتقد ولا تنتهي عند الحقّ في الإجهاض.