هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سنة 2016، قبل أسابيع قليلة من انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، نشر الفتى جيمس دافيد فانس (مواليد 1984) كتاباً بعنوان «مرثية ريفيّ» يجمع بين المذكرات والسيرة الذاتية، ويشدد على مشاقّ الحياة في منطقة مدلتون، أوهايو، وفي بقاع الأبالاتشي الجبلية. الكتاب أصبح في عداد الأكثر مبيعاً خلال أيام قلائل، ولم تمضِ أسابيع حتى تجاوزت المبيعات ملايين النسخ، فكان طبيعياً أن تسارع نتفلكس إلى اعتماد الرواية في فيلم أخرجه رون هاوارد وقامت غلين كلوز بدور البطولة فيه. اليسار الأمريكي، خاصة ذاك التائه الباحث يائساً عن تمثيلات مجتمعية في الأصقاع الريفية النائية، تلقف الكتاب وصاحبه فهلل له ورحّب به؛ متشجعاً، كذلك، بمواقف فانس المناهضة للحزب الجمهوري ولمرشحه الرئاسي دونالد ترامب.
ولسوف تحتاج أمريكا إلى ستّ سنوات فقط كي ينقلب ذلك الشقيّ الجبلي الكئيب إلى ذئب ضارٍ متوحش، بكلّ ما تعنيه شراسة النوع وخصائصه في الواقع كما في المجاز، إذْ أصبح أحد كواسر ترامب في المنطقة، واعتمده الأخير على لائحة مرشحيه في الانتخابات النصفية الأخيرة، وفاز بالفعل بمقعد في مجلس الشيوخ. وحين اختاره واحتضنه، سياسياً ومالياً، لم يكن ترامب يجهل تفوهات فانس القديمة ضده، وبعضها كان مقذعاً تماماً؛ لكنّ الرئيس السابق حرص على «تأديب» الفتى/ السناتور اليوم في الكونغرس، فأعلن أنّ الأخير جاء إليه و»لحس الحذاء» على سبيل الزلفى وإعلان الولاء، فسامحه الأب/ الأخ الأكبر للحزب الجمهوري، وأدرجه على لائحة عشرات المرشحين الذين ساندهم.
والحال أنّ تحولات فانس ليست نموذجاً عجيباً أو طارئاً في الحياة السياسية الأمريكية، وربما على صعيد أعرض نطاقاً يشمل التقلبات الإيديولوجية من أقصى إلى أقصى نقيض؛ إلا أنّ المغزى الأهمّ فيها هو روحية الانقياد شبه الأعمى التي باتت تتصف بها جماهير ترامب، ليس في صفوف الحزب الجمهوري وحده، بل كذلك في عمق الاجتماع الأمريكي إجمالاً. غريزة القطيع، التي يصحّ الاستئناس بها هنا في فهم عقلية الاتّباع لدى الأتباع، لم تترك للناخب الذي صوّت لصالح فانس أيّ هامش مراجعة، سواء حول ماضي شتائمه المقذعة ضدّ ترامب، أو حاضر لعق الحذاء مقابل اعتماد الترشيح، أو مستقبل ما سيفعله للمناطق ذاتها التي شهدت شظف عيشه وشقاء عائلته.
الماضي القريب، ضمن سجلّ الانتخابات النصفية إياها، كان في سنة 2018 قد سجّل انتصار الحزب الديمقراطي وحيازة 41 مقعداً في مجلس النواب، وتلك حقبة لم تكن بعدُ على أعتاب تسمين الكواسر من ذئاب وضباع في مزرعة ترامب، على غرار الفتى فانس؛ إذْ توجّب تفعيل اختمار من طراز آخر، كان استثماره لا يبدأ من التشكيك في صحة الانتخابات الرئاسية، ولا ينتهي عند اقتحام مبنى الكابيتول. لكنّ صنفاً آخر من الوحوش الكاسرة ظلّ يترعرع في كنف ترامب والترامبية، وكان مسعاه المركزي هو حشر التوراة في صناديق الانتخابات النصفية، على مثال جون كيلباتريك، راعي كنيسة في ولاية ألاباما، الذي قارن بين ما يواجهه ترامب من «أعمال السحر» الخبيثة، وما سبق أن واجهه النبي إيليا مع إيزابيل الزانية الساحرة (في سفر الملوك 2، 9:22). وبتفويض من هتاف المؤمنين في الكنيسة، تابع كيلباتريك خيط الهلوسة والاستيهام هكذا: «لستُ سياسياً، ولكني لا أرى كيف يستطيع الرئيس ترامب تحمّل هذا كله. إنه أقوى من أيّ رجل عرفته في حياتي. ولكن اسمعوا ما قاله لي الروح القدس الليلة الماضية، وطالبني أن أخبركم به. قال: أبلغ الكنيسة أن ترامب كان طيلة الوقت يجابه آخاب. لكن إيزابيل تتآمر الآن كي تنبعث من الظلمات. هذا ما أبلغني به الروح القدس».
وبين الراعي المديني كيلباتريك والريفي الجبلي فانس لا تغيب أمريكا الأعمق، بل تواصل الحضور والتضخم في اجتماع غريزة القطيع وكواسر الذئاب.
(القدس العربي)