كتب

استراتيجية جيش الاحتلال في مواجهة حزب الله وحماس.. قراءة في كتاب

 يمكن اعتبار أن الأهداف السياسية البعيدة المدى في سياق دولة الكيان الصهيوني الخاص هي أهداف ثابتة في جوهرها، تتمثل في الحفاظ على الوجود القومي في الدولة وتحصينه..
يمكن اعتبار أن الأهداف السياسية البعيدة المدى في سياق دولة الكيان الصهيوني الخاص هي أهداف ثابتة في جوهرها، تتمثل في الحفاظ على الوجود القومي في الدولة وتحصينه..
الكتاب: "الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله"
الكاتب: د. غابرييل سيبوني ومجموعة أخرى من الباحثين الإسرائيليين 
ترجمة وتقديم: د. عدنان أبو عامر
الناشر: مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاسراتيجية، الطبعة الأولى 2011، بيروت- لبنان
(عدد الصفحات: 203 من القطع الكبير).


يركز هذا الكتاب على كشف "الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ضد حماس وحزب الله" في مختلف فصولها السبعة، والوثائق الست ذات الصلة بحرب تموز / يوليو 2006 بين الكيان الصهيوني وحزب الله، والذي أشرف على إعداده الجنرال المتقاعد الدكتورغابرييل سيبوني، (وكان في الوقت عينه المشرف العام على دورية "الجيش والإستراتيجية"منذ العام 2006، انطلاقاً من خبرته الطويلة في الخدمة العسكرية، والمجال الأمني والاستشارات العملياتية، حيث عمل قائداً في وحدة غولاني في المنطقة الشمالية)، وبمشاركة نخبة من الجنرالات العسكريين الإسرائيليين المتقاعدين، وباحثين متمرسين في مجال الدراسات العسكرية، يلفت هذا الكتاب الانتباه إلى أن الكيان الصهيوني يواجه حركات مقاومة تمتلك بنية عسكرية قادرة على التعلم ،وهي مؤهلة لفهم البيئة التي تعمل فيها، ولديها القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة ورؤية الأمور من وجهة نظر العدو ،والوقوف على المنطق الذي يحركه.

ويشير الكتاب، الذي هو عبارة عن مجموعة من الأبحاث نشرت في دورية "الجيش والإسترتيجية" إلى التغييرات التي طرأت على مبادئ الأمن القومي الصهيوني، وأهمية التركيز على البعد الاستخباراتي، معتبرًا أنَّ التطورين الخطيرين على أمن الكيان الصهيوني ما بين حرب 2006 ضد حزب الله، وحرب 2009 ضد حماس، تمثلا في العمليات الاستشهادية والصواريخ، من أجل استنزافه. لذا يوصي هذا الكتاب، بأنَّه لا بد من تطوير الفعل الاستخباراتي، في ضوء القناعة الإسرائيلية السائدة بأنه لا رادع جدياً في مواجهتهما، ولا يمكن حسم المعركة تماماً معهما. ويُعَدُّ هذا الكتاب  الأكثر تفصيلاً واستشرافاً للجوانب الإستراتيجية والعسكرية لدى الكيان الصهيوني، سواء من جهة التوقيت أو الأقلام المشاركة فيها.

ويحتل هذا الكتاب أهمية خاصة لدى صناع القرار العسكري والأمني في تل أبيب، انطلاقاً من الحرفية والمهنية التي تمتاز بها دراساتها وتحقيقاتها التي تنشغل عادة بـ تغير البيئة الإستراتيجية للكيان الصهيوني، وطبيعة التهديدات التي تواجهه، وتأثيرها على مسارات النظرية الأمنية الإسرائيلية (العدوانية).

وتحرص دورية "الجيش والإستراتيجية" التي تصدر بصورة فصلية خلال كل عام على دراسة وتفحص التغييرات التي تطرأ بين الحين والآخر على معطيات بناء القوة العسكرية لدى أعداء الكيان الصهيوني، دولاً وقوى منظمة، ومدى تأثيرها على استعداد الجيش الصهيوني لوضع إجابات ميدانية عليها!

يبدو أن حرب الأيام الستة في عام 1967 وخصائصها لن تتكرر مرة أخرى. لذا، تحتاج الحروب القادمة إلى وضع مفاهيم جديدة تنسق بين توقعات الجيش الصهيوني والقرار السياسي ومواطني الدولة. ويجب أن يقوم هذا التنسيق على خطاب استراتيجي ذي صلة بهدف الجيش الصهيوني الأعلى، حيث يجب فيه إحراز إنجازات ثابتة.
كما وتنشغل الدورية، والوحدة التي تصدرها، بأهم مجالات التطوير الحاصلة في الصناعات العسكرية للجيش الإسرائيلي، ومعرفة مدى استجابتها للتهديدات التقليدية والمنظمات المسلحة، وإمكانية تعرض الجبهة الداخلية لسيل كبير من الصواريخ متعددة المديات، إلى جانب تركيزها البحثي في الأعداد الأخيرة على التهديدات غير التقليدية، وعلى رأسها البرنامج النووي الإيراني!

وتخصص الدورية بين عدد وآخر دراسة أو أكثر ـ لفحص طبيعة العلاقات السائدة في الكيان الصهيوني بين المستويين السياسي والعسكري، ومعرفة كيفية اتخاذ القرارات في هذه المجالات الحساسة، من خلال استكتابها لساسة وعسكريين كانوا إلى وقت قريب من صناع القرار في مجالات عملهم.

ومن الدراسات التي أصدرتها الوحدة في الآونة الأخيرة: الحرب والانتصار، من الانتفاضة الثانية مروراً بحرب لبنان الثانية وانتهاء بـالرصاص المسكوب، حروب الاستنزاف وأثرها على نظرية الأمن القومي الصلاحيات والمسؤوليات الملقاة على عاتق الجيش الإسرائيلي: نقد تقرير فينوغراد، من غزة إلى لبنان.

تحديات جديدة وطرق مستحدثة

يشير الكتاب إلى أن حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي تنتهج حروب العصابات، قد غيرت من طبيعتها، سواء منظمة حزب الله أو حركة حماس، اللتان استفادتا كثيراً من دروس الحربين الأخيرتين 2006 في لبنان، و2009 في غزة.

ولا يخفى على واضعي هذا الكتاب أن جبهتي لبنان وغزة مختلفتان في التضاريس والطبيعة الطبوغرافية، ومع ذلك، فإن كلا التنظيمين (حزب الله وحركة حماس) قد درسا وقائع الحربين الأخيرتين، كما فعل الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي وجد ترجمته العملية في السلوك العسكري لحركة حماس في غزة (2009) التي استفادت من حرب لبنان (2006). كما تشير الدراسة إلى أن حزب الله استفاد كثيراً من عملية الرصاص المسكوب، وهو ما سيجد ترجمته الميدانية في الحرب القادمة.

الكتاب في مختلف فصوله، يُسلّط الضوء على أبرز التحديات التي تنتظر الكيان الصهيوني، انطلاقاً من التجديد المتسارع الحاصل داخل منظمة حزب الله على سبيل المثال. وأهم هذه التحديات:

1 ـ بناء القوة العسكرية

تدعي الأوساط العسكرية والاستخبارية الصهيونية أن حزب الله يمتلك ما بين 6 ـ 8 آلاف مقاتل، فقد ما يقرب من 10 ـ 15% منهم خلال حرب تموز 2006، ما جعله بحاجة ملحة لتجنيد المزيد من العناصر الجديدة في المناطق المحاذية لجنوب لبنان والقرى الشيعية، وإرسالهم لاحقاً للتدرب على مختلف الأساليب والوسائل العسكرية الجديدة في منطقة البقاع اللبناني، وسوريا وإيران.

ويلفت الكتاب الانتباه إلى أنًّ حزب الله ركّز دوماً على تجنيد أبناء الطائفة الشيعية في صفوفه، العسكرية منها خاصة. إلا أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة قام باستيعاب عناصر سنية، ودرزية ومسيحية!

ويهدف الحزب إلى العمل على اختراق الطوائف اللبنانية الأخرى لنفي الصفة الطائفية عنه، واستبدالها بهوية سياسية بالدرجة الأولى!

2 ـ الوسائل القتالية:

يشير الكتاب إلى حاجة الكيان الصهيوني الملحة لمتابعة آخر التطورات البنيوية الحاصلة، في ضوء أن حزب الله يركز جل قدراته العسكرية على المنظومة الصاروخية، والتي هي بالأساس من صناعة روسية، وهي تصله من خلال سوريا وإيران. وتتراوح مديات الصواريخ بين 20 ـ 250 كم، ومنها صواريخ مزودة برؤوس متفجرة من النوع المطور.علماً بأن العودة لوقائع حرب لبنان تموز 2006 تشير إلى أثر كبير لهذه الصواريخ على مجريات المعركة، سواء على صعيد الجبهة الداخلية أو ساحة القتال.

ويشير  الكتاب إلى الطرق التي يتزود بها حزب الله بالصواريخ المذكورة، كما يلي: يبلغ طول الحدود السورية ـ اللبنانية 360 كم، 100 كم منها في المنطقة الشمالية، والباقي حدود شرقية تصل إلى منطقة البقاع. وعلى طول هذه الحدود، توجد خمسة معابر رسمية، اثنان منها في الجهة الشرقية. ومع بداية عام 2008، تمركزت على الحدود الشمالية قوة لبنانية مكونة من 800 جندي برقابة ألمانية، فيما الحدود الشرقية مفتوحة تماماً أمام حزب الله؛ وعلى الطريق الواصلة بين بيروت - دمشق تمر يومياً 200 حافلة وشاحنة تخضع 30 منها فقط للتفتيش الرسمي!

ويتحدث الكتاب  عن الجهود الحثيثة التي بذلها حزب الله بعد الحرب الأخيرة للتسلح والتزود بأكبر قدر من الذخيرة والصواريخ عبر سوريا وإيران. وفيما قدر مخزون الحزب الصاروخي في صيف 2006 بـ 12 ألف صاروخاً، فقد ارتفع العدد في صيف 2007 إلى ما يزيد عن 20 ألفاً، وفي العام 2008 وصل إلى 42 ألفاً!

3 ـ التدريبات التأهيلية:

يتطرق الكتاب في إطار قراءته للمواجهات السابقة، إلى أن عناصر حزب الله وحماس يخضعون لتدريبات ميدانية قاسية على أنماط حروب العصابات والاستنزاف، ويتلقون دورات تدريبية في مختلف المجالات والعلوم، ومنها: إطلاق القذائف والصواريخ، جمع المعلومات، المواجهة المباشرة وجهاً لوجه. كما تجري حركات المقاومة مناورات اختبارية لتقييم مدى جاهزيتها لأي مواجهة جديدة مع الكيان الصهيوني، وهو ما أكدته المعلومات الأمنية المتوفرة لدى جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المعروف باسم أمان.

4 ـ الانتشار الميداني:

ينظر الجيش الصهيوني بعين من الحذر والتوجس إلى طريقة انتشار المجموعات القتالية لقوى المقاومة. ففي حين نجح حزب الله في التحايل على القرار (1701) الذي يحد من حرية حركته، تمكنت حماس في قطاع غزة من أن تجد لها متنفساً تحت الأرض من خلال شبكة الأنفاق التي أتقنت إقامتها وإخفاءها.

ويتجسد هذا التحذير بما كشف عنه مؤخراً من قيام الجيش الصهيوني بحفر أنفاق في مرفقين للتدريب في سلاح الهندسة، لتأهيل جنوده على القتال داخلها، لمواجهة تحدي الأنفاق الذي برز خلال الحربين الأخيرتين على لبنان وقطاع غزة؛ وهي المرة الأولى التي يبني فيها الجيش مرافق تدريب تشمل شبكة أنفاق بلغت تكلفتها ملايين الشواكل، لتكون جاهزة في العام المقبل.

وتأتي أهمية هذه الأبعاد وخطورتها في ضوء القوة المتنامية لحركة حماس خصوصاً، وقدرتها على التعافي من ضربة الرصاص المسكوب خلال العام 2009. فما ترسله الأجهزة الأمنية - لاسيما الشاباك إلى مكتب رئاسة الحكومة  الصهيونية والوزارات ذات العلاقة، يبدو كما لو أن الحرب الأخيرة على غزة لم تسفر عن انتصار حاسم لـ لكيان الصهيوني ، أو عن هزيمة مدوية لـ حماس. بل إن الشعار الذي ورد أكثر من معنى له في متن  الكتاب يكاد يثبت المقولة الشائعة في الكيان الصهيوني عقب نهاية الحرب: بأن "إسرائيل" لم تنتصر، وحماس لم تنكسر!

ويأخذ الكتاب  منحى أكثر جدية، بعقده مقارنة حية ومباشرة بين ظروف المقاومتين العراقية والفلسطينية ضد الاحتلالين الأمريكي والصهيوني، من خلال القواسم المشتركة التالية:

1 ـ استخدام حروب الاستنزاف ضد قوات الجيش العسكرية.
2 ـ تفعيل سلاح القناصة في المناطق السكنية والمفتوحة.
3 ـ إطلاق النار من مبان مزدحمة وعلى مفترقات الطرق العامة الرئيسة.
4 ـ إطلاق قذائف الهاون والصواريخ مختلفة المدى بصورة مكثفة.
5 ـ الانتحاريون الذين يستهدفون المواقع العسكرية والحواجز الميدانية.
6 ـ استخدام السيارات المفخخة في عمليات معقدة.
7 ـ محاولات اختطاف الجنود وموظفي المنظمات الحكومية.

ومن ثم يضع الكتاب توصيات ومقترحات لـتحسين ظروف المواجهة القادمة من وجهة إسرائيل، وأهمها:

1 ـ توجيه ضربات موجعة للعدو، من خلال المس والإضرار بمكونات قوته السياسية والعسكرية، والوصول معه إلى مرحلة الإبادة الكاملة، بحيث لا تتكرر أخطاء حربي لبنان وغزة، وجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقرر الدخول مع إسرائيل في مواجهة جديدة!

ويقدم هذا الكتاب معطيات للبيئة الإستراتيجية الشرق أوسطية، وكيفية مواجهتها بالوسائل الدبلوماسية أو العسكرية الملائمة، مع التحليل والبحث المقارن لتهيئة الأسباب والتخطيط، والإعداد لتوظيف جميع الموارد المتاحة والممكنة لتحقيق النجاح في المجالات المدنية والعسكرية، حيث أدت مفاعيل الصراع العربي الإسرائيلي، إلى إكساب هذه البيئة طابع الحركية المستمرة، والفاعلية المتجددة.

وأخيراً، يعطيالكتاب محفزاً للقراءة والمتابعة، لاسيما وأنها تقدم خارطة طريق لصانع القرار الاستراتيجي والعسكري في إسرائيل حول النهج الأكثر تفضيلاً للتعامل مع ظاهرة المقاومة في فلسطين ولبنان، على أساس أن المنطقة قد تكون فعلاً على مشارف مواجهة جديدة، ستكون حتماً أكثر إيلاماً وأفدح ثمناً لكيان الاحتلال خصوصاً من أي مواجهات سابقة!

أهداف الحرب العسكرية

يقف تهديد إطلاق الصواريخ المائلة المسار اليوم على رأس قائمة التهديدات التي يجب على دولة  الكيان الصهيوني أن تواجهها. فهذا التهديد يقوم على استعمال سلاح تقليدي: صواريخ وقذائف صاروخية وقذائف رجم بمقدار كبير. ويأتي هذا التهديد إلى جانب التهديد التقليدي الكلاسيكي الذي قام على استعمال أطر عسكرية كبيرة في معارك مناورة. يمكن أن نسمي هذين التهديدين تهديداً تقليدياً، وتهديدات مختلفة في ماهيتها تهديد غير تقليدي، وتهديد المقاومة في الداخل وفي الخارج.

أما هذا  الكتاب، فيتناول أهداف محاربة التهديد التقليدي. فوضع دولة  الكيان الصهيوني الجغرافي ـ الإستراتيجي لم يتغير منذ إقامتها. فهي لا تستطيع إنهاء الصراع مع جيرانها باستعمال القوة. لذلك، هي تعمل وفق مبادئ إستراتيجية دفاعية أساسها محاولة الحفاظ على الوجود القومي في "إسرائيل" وتحصينه. وبالتالي، فجميع حروب "إسرائيل" تقريباً انبثقت عن هذا التصور الإستراتيجي.

وفي هذا السياق، أوضح بن غوريون وضع دولة "إسرائيل" الخاص، بحديثه أمام قادة الجيش الصهيوني، حين قال: يوجد فرق عميق... بين وضعنا في هذا الصراع وبين وضع العرب فيه. هاجمنا العرب؛ إنتصرنا. إنهم يدبرون الجولة ثانية لنفرض أن تأتي جولة ثانية في سنة وننتصر ثانية، سيبادرون آنئذ إلى جولة ثالثة. لا يوجد عندنا إمكان حل نهائي للصراع بيننا ما دام العرب لا يريدونه..  ولا إمكان عندنا أن تنهي الصراع، لكنهم يستطيعون؛ وأنئذ سينقضي الصراع بيننا. إن الزعم التاريخي والتأسيسي لـ كلاوز فيتس، في شأن غلبة الأهداف السياسية للحرب على الأهداف العسكرية ساري الفعل هنا أيضاً. لكن، في ضوء وضع دولة "إسرائيل" الخاص، كما وصف بن غوريون أعلاه، فإن الهدف السياسي لاستعمال القوة العسكرية لديها، هو هدف دفاعي ثابت، ينحصر في الحفاظ على الوجود القومي فيها.

الخروج للحرب

إن هدف استعمال القوة العسكرية هو إحراز أهداف سياسية. لذا، يمكن اعتبار أن الأهداف السياسية البعيدة المدى في سياق دولة الكيان الصهيوني الخاص هي أهداف ثابتة في جوهرها، تتمثل في الحفاظ على الوجود القومي في الدولة وتحصينه. ومن هنا اشتقت مبادئ استعمال القوة. ومن أجل تعميق النقاش، يُحسن أن نفحص في أي سيناريوهات يُراد أن تخرج دولة الكيان الصهيوني  للحرب، أو في عملية عنيفة ذات قوة كبيرة.

تخرج دولة الكيان الصهيوني للحرب في واحد من السيناريوهات الثلاثة الآتية:

1 ـ وقف عمل عنيف للمقاومة الفلسطينية واللبنانية التي تتسلّح من الشمال والجنوب بسلاح مائل المسار. وهو سلاح موجه يُستخدم ضد أهداف مدنية وعسكرية فيالكيان الصهيوني . فكلما احترست  المقاومة من استعمال هذا السلاح، ولم يمس نسيج الحياة المدنية في المنطقة، فإن غاية استعمال قوة الكيان الصهيوني تكون في الحفاظ على الردع، والمس قدر المستطاع بإجراءات بناء المقاومة لقوتها. لكن، مع تحقق هذا التهديد، يرد الكيان الصهيوني عليه بعملٍ سريعٍ ، كي يُنشئ ردعاً جديداً. وبهذا السيناريو، يرد على التهديد المتحقق بالفعل.

2 ـ تثبيط تهديد محدد ومحسوس حيث توجد أوضاع ينشأ فيها تهديد، يرى الكيان الصهيوني في وجوده واحتمال استعماله خطراً كبيراً. لهذا، يبقى استعمال القوة كآخر بديل في مسار إدارة الأخطار، وبعد استعمال أدوات تثبيط ليست في مجال القوة إقتصادية وسياسية. وفي حالة كهذه، تستعمل القوة لإحداث ضربة استباقية هدفها الأعلى تثبيط طاقة التهديد الكامنة. وفي هذا السيناريو، يبادر الكيان الصهيوني إلى استعمال قوته على احتمال تهديدالمقاومة .

منذ حرب أكتوبر عام 1973، حصلت تغييرات جوهرية في طبيعة المواجهات التي خاضتها "إسرائيل"، ومن بينها بالتأكيد طبيعة العمليات التي أدارها الجيش الصهيوني، وفيها تم الانتقال من المرحلة الكلاسيكية في مواجهة الجيوش النظامية إلى المرحلة الحديثة من مواجهات غير مسبوقة قبل تلك الحرب.
3 ـ رد استراتيجي على عملية للمقاومة: يوجد أحياناً وضع يتحقق فيه احتمال تهديد، وليست من عملية لوقفه ذات صلة. مثلاً، عندما يتعرض الكيان الصهيوني لهجوم لمرة واحدة بصواريخ بعيدة المدى، أو يواجه مقاومة مسلحة كبيرة، تستخدم "إسرائيل" آنذاك قوة هدفها لضرب منجزات إستراتيجية موجهة إلى أهداف مختارة عندالمقاومة. وبذلك، ترد "إسرائيل" على تحقيق المقاومة بتهديد بالفعل. أما المشترك بين جميع مخططات استعمال القوة، فيتمثل بالإستراتيجية الصهيونية في إدراك أن استعمال القوة في الكيان الصهيوني، لا يأتي بخدمة أهداف سياسية بعيدة المدى؛ بل يبعد التهديد عن جدول العمل، ويمنح سنين من الهدوء، تمكن القرار السياسي من القيام بعمله حتى يقبل العرب وجود "إسرائيل" في المنطقة.

وفي السيناريوهات الثلاثة كلها، مبادئ عمل ثابتة للجيش الصهيوني ، والعناصر المتغيرة تتعلق في الأساس بصورة التسوية التي تأتي إثر العملية العسكرية. وكما قال بن غوريون، ليس الحديث هنا عن تسوية سياسية سلمية، بل عن تسوية مكانية تأتي لإحداث ظروف توقف إطلاق النار. وهنا يؤثر السياق السياسي المحدد في صورة استعمال القوة؛ لكن هذا التأثير يبقى ضئيلاً لأن إطار العمل يبقى ثابتاً. أما النقاشات المتعددة التي حصلت قبل الخروج إلى المعركة في قطاع غزة، في حين كانت تطلق مئات الصواريخ على الكيان الصهيوني ، فكانت بلا معنى، ولم تكد تسهم في فاعلية العملية العامة.

الخلاصة

يبدو أن حرب الأيام الستة في عام 1967 وخصائصها لن تتكرر مرة أخرى. لذا، تحتاج الحروب القادمة إلى وضع مفاهيم جديدة تنسق بين توقعات الجيش الصهيوني والقرار السياسي ومواطني الدولة. ويجب أن يقوم هذا التنسيق على خطاب استراتيجي ذي صلة بهدف الجيش الصهيوني الأعلى، حيث يجب فيه إحراز إنجازات ثابتة. وينبغي أن يبتعد الخطاب الاستراتيجي في "إسرائيل" عن مصطلحات مثل نصر وحسم سريعين مطلقين، أو أن يُحدّدا على الأقل من جديد في سياقات التهديد الحالي. أما استعمال لجنة فينوغراد لهذه المصطلحات، فقد أضر بالقدرة على إقامة خطاب استراتيجي مناسب.

فقد كشفت حرب تموز 2006عن سلسلة من الأخطاء والإخفاقات في أداء الجيش الصهيوني ضد منظمة حزب الله. وقد أدت تلك الإخفاقات إلى وضع لم يتمكن فيه الجيش الصهيوني من تحقيق أهدافه التي تطلع إليها من تلك الحرب. وقد أدى الكشف عن هذه الإخفاقات إلى قيام الجيش الصهيوني  بعملية تحقيقات معمقة ومكثفة، لمحاولة استخلاص الدروس والعبر من تلك الحرب. كما أن تطبيق التوصيات والاستنتاجات التي خرجت بها لجان التحقيق المكلفة، تستلزم المرور بمرحلة طويلة.

لجنة فينوغراد التي شكلتها الحكومة الصهيونية لفحص أخطاء وإخفاقات الحرب الإسرائيلية على حزب الله، عثرت على ثغرات أساسية في طبيعة إدارة الحرب، والخطط التي أُعدت لها. وقد خلصت اللجنة إلى أن الجيش الصهيوني بصورة عامة، لاسيما في مواقعه القيادية العليا وسلاح المشاة، حقق فشلاً ذريعاً في عدم وضعه إجابة ميدانية عسكرية كافية للتحدي الذي واجهه خلال مجريات الحرب في لبنان، ولم يوفر للمستوى السياسي قاعدة عسكرية تؤهله للتقدم في العملية السياسية.

لذا، فإن الإحباط الذي ولدته حرب تموز 2006 لم يأت من فراغ، بل جاء في ظل انعدام قدرة القيادة العسكرية، وذلك على الرغم من سلسلة من الانتصارات الميدانية التي حققها الجيش الصهيوني في مواجهات عسكرية ضارية خلال السنوات الأخيرة. ظروف عدة أدت إلى بروز انتقادات جماهيرية، وشعور بخيبة الأمل، وصلت ذروتها كما هو معروف، في أعقاب نشوب حرب تموز 2006.

لا شك في أنه ومنذ حرب أكتوبر عام 1973، حصلت تغييرات جوهرية في طبيعة المواجهات التي خاضتها "إسرائيل"، ومن بينها بالتأكيد طبيعة العمليات التي أدارها الجيش الصهيوني، وفيها تم الانتقال من المرحلة الكلاسيكية في مواجهة الجيوش النظامية إلى المرحلة الحديثة من مواجهات غير مسبوقة قبل تلك الحرب.

هذه المواجهات الجديدة تلخصت في خوض الجيش الصهيوني لعمليات قتالية ضد حركات مقاومة تخوض حرب استنزاف متواصلة، تتركز معظم عملياتها داخل المناطق السكانية المدنية؛ كما أن هذه الحركات تخوض حربها في كسب الرأي العام لصالحها. هكذا فعلت حماس في عملياتها الانتحارية، وهكذا أطلقت صواريخ القسام من قطاع غزة؛ وهي الطريقة نفسها التي انتهجها حزب الله في حرب تموز 2006.

وكما هو متوقع، فإن سوريا ستخوض حربها القادمة بذات النهج. هذه التغييرات تتطلب من الجيش الصهيوني بصورة أساسية العمل على مواءمة أنشطته العسكرية، حتى يكون مستعداً بصورة جيدة جداً لمواجهة التحديات الأمنية الماثلة أمام دولة الكيان الصهيوني .
التعليقات (0)