مقالات مختارة

من صاحب السيادة؟

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
ثمة لغط لم يتوقف على مواقع التواصل الاجتماعي حول ملابسات رحلة الموت إلى جبال سانت كاترين التي أدت إلى تجمد ووفاة أربعة من المصريين بسبب العاصفة الثلجية التي ضربت المنطقة.

فأغلب الشهادات تحدثت عن تقصير في إنقاذهم، وعن أن الجهات المختصة تلقت استغاثتهم في الثامنة صباحا، لكن الطائرة لم تتحرك لإنقاذهم إلا في الساعة الثالثة بعد الظهر.

في هذا السياق يتداول النشطاء مزاعم ادعت أن التراخي في الإغاثة راجع لعدم وجود أجانب بين المجموعة.

وفي هذه الحالة فإن إصدار التصريح بإقلاع طائرة الإنقاذ يستغرق عشرة أيام. في المقابل فإن الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري ذكرت أنه فور تلقي الاستغاثة صدرت الأوامر بتخصيص طائرة للبحث والإنقاذ ودفع دوريات مترجلة من أجل البحث عن العالقين، إلا أن ذلك لم يوقف عاصفة الاحتجاجات الغاضبة التي نددت بالتقصير في إغاثتهم، واستهجنت التراخي في الإغاثة لعدم وجود أجانب بين المشاركين في الرحلة، وذهب بعضها إلى أن البدو هم الذين قاموا بإنقاذ الثلاثة الذين ظلوا أحياء، ولم يكن لأي طرف آخر إسهام في ذلك.

هذا اللغط ذكرني بما حدث في قصة عبارة «السلام» التي غرقت وتسببت في قتل 1300 مواطن مصري في عام 2006.

إذ أثبتت لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب آنذاك أن الجهات المختصة في مصر لم تتحرك إلا بعد مضي أكثر من سبع ساعات على تلقي أول إشارات الاستغاثة، الأمر الذي أخر عملية الإنقاذ ومن ثم أسهم في زيادة عدد الضحايا، وكان إثبات ذلك التقاعس من جانب مركز البحث والإنقاذ سببا في أزمة دعت رئيس مجس الشعب آنذاك الدكتور فتحي سرور إلى التردد في تسلم التقرير نظرا لحساسية هذه النقطة التي تنسب التقصير إلى أحد فروع القوات المسلحة، لكن رئيس لجنة التقصي الأستاذ حمدي الطحان أصر على ضرورة إثباتها، ورغم أن التقرير أجازه مجلس الشعب إلا أن أحدا لم يحاسب لا جنائيا ولا وظيفيا ولا سياسيا.

خصوصا أنه تم التلاعب في القضية التي حولت إلى جنحة، لأن النيابة آنذاك لم تعتبر قتل 1300 مصري جناية!
ليس لدينا ما يقطع بحدوث تقصير في إنقاذ المصريين الذين تجمدوا في رحلة سانت كاترين، وأتمنى أن يكون الإدعاء بوجود ذلك التقصير في غير محله. إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نسجل ملاحظتين من واقع الخبرة بالحالات المماثلة، الملاحظتان هما:

* إن تقاليد أجهزة الدولة الرسمية ترفض الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه. وتصر دائما على أنها ملتزمة بالقانون وبالقواعد الدولية المرعية، خصوصا ما تعلق منها بحقوق الإنسان، أو بقواعد فض المظاهرات. وفي الوقت ذاته فإن تلك المؤسسات تعمد إلى تغطية ممارسات أبنائها، وترفض تحميل أي منهم مسؤولية أي خطأ ارتكبه.

* إن في مصر مؤسسات لها ذات مصونة لا تمس ولا تناقش أو تراجع. وهي تصنف تحت عنوان هلامي وغامض يصفها بأنها مؤسسات «سيادية». وهي في هذه الحالة لا تعَّرف، وإنما تظل قائمة في الظل وبعيدة عن الضوء، رغم أنها تؤدي أدوارا مهمة للغاية في سياسة الدولة وإدارة المجتمع.

ولأنها محاطة بتلك الهالة فهي فوق النقد وفوق القانون وإن لم تصرح بذلك.

كما أنه ليس لأحد أن يدوس لها على طرف. وينبغي أن تجيز من جانبها ما يكتب عنها، وأي ذكر لها لا يمر بمصفاتها، بصرف النظر عن طبيعته، فإنه يعرض صاحبه لحساب عسير، ورغم أن الدستور يقرر أن السيادة للشعب، كما أن مجلس الدولة فرق بين ما يسمى بالقرارات السيادية التي يصدرها رئيس الجمهورية وبين القرارات الإدارية والتنظيمية التي يتخذها، وهذه وحدها تخضع لرقابة المجلس، إلا أن المؤسسات السيادية لها وضع مختلف تماما، ولها خصوصيتها التي أشرت إليها توا. وهو ما تنفرد به مصر خلافا لغيرها من دول العالم.

هذه الهالة التي أحاطت بممارسات السلطة وتلك الحصانة العملية التي تم إضفاؤها على بعض مؤسسات الدولة دون غيرها أهدرت قيمة الاعتراف بالتقصير أو الخطأ. وذلك لم يؤد فقط إلى طمس الحقائق وإشاعة البلبلة بين الناس. وإنما ترتب عليه أيضا أن الأخطاء التي يستشعرها المجتمع لم تعد تنسب إلى فاعليها دون غيرهم، وإنما باتت تنسب إلى المؤسسة بكاملها.

وهو ما لاحظناه في حالة المجموعة التي تعرضت للعاصفة الثلجية في سانت كاترين. إذ بدلا من أن يعترف بالتقصير الذي ثبت ويحاسب المسؤولون عنه، فمما يؤسف له أن تعليقات عدة وجهت أصابع الاتهام إلى القوات المسلحة كلها. وما لا يقل أهمية عما سبق أن ذلك السلوك بإهداره لقيمة الاعتراف بالتقصير يربي المجتمع على إنكار تلك الفضيلة التي تعد من مقومات العافية لأي مجتمع.

يؤيد ما أدعيه أن إسرائيل حين فوجئت بعبور الجيش المصري في عام 1973، فإنها شكلت لجنة لدراسة الثغرات التي أدت إلى حدوث المفاجأة، وشكلت لجنة من الخبراء أصدرت تقريرا كان عنوانه «التقصير» (المحدال)، في حين أننا في هزيمة 67 لم نفكر في تحرير ما جرى، وترك الأمر لمذكرات البعض واجتهاداتهم، وكانت النتيجة أن الرأي العام ظل يتعامل مع الحدث باعتباره مسكونا بالأحاجي والألغاز.

غياب الديمقراطية هو أصل المشكلة، فدولة المؤسسات والقانون تتساوى فيها الرؤوس ولا تستعلي في ظلها مؤسسة على أخرى، ويخضع الجميع لرقابة البرلمان الذي يمثل السيد الحقيقي المتمثل في الشعب، كما أنها تعترف بحق الناس في المعرفة، إلى غير ذلك من المواصفات التي تبدو لنا الآن أحلاما بعيدة التحقيق.

مع ذلك فإنني حرصت على التذكير بها، لا لشيء سوى أنني أخشى أن ينساها كثيرون في أجواء التلوث والهستيريا المخيمة على الفضاء المصري هذه الأيام.

(عن بوابة الشرق 22 شباط/ فبراير 2014)
التعليقات (0)