مقالات مختارة

رأيت يافا.. النكبة والصمود في فلسطين

رمزي بارود
1300x600
1300x600
كتب رمزي بارود: عندما وقفت على حدود يافا، تشوش الخط الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو خيال فجأة، وتبين أن المدينة التي اشتهرت بأنها أكبر مoدن فلسطين لم تكن مجرد نسج خيال جدي، ولكنها مكان حقيقي فيه رمل وهواء وبحر، وهويتها الفلسطينية العربية كانت جلية في كل مكان.

كان عمري ثمانية أعوام في الصف الثالث الابتدائي وكانت أول رحلة مدرسية لي، كان يسمح للغزيين في وقتها بالذهاب لإسرائيل وغالبا كعمالة رخيصة. وكانت عائلتي أخرجت من فلسطين خلال النكبة التي شهدت تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم. وكانت عائلتي من الفلاحين البسطاء من قرية بيت داراس. واشتهر عن أهل قريتي حبهم لأكلة المفتول، كما أنه عرف عنهم عنادهم الأسطوري وشجاعتهم واعتزازهم. وكانت يافا بالنسبة لأهل القرية هي مركز جوانب كثيرة من حياتهم. وكانت يافا مرفأ ومركزا تجاريا ينبض بالحياة، وقد اشتهرت في أنحاء العالم ببرتقالها حيث كانت مركزا لأكبر الأسواق في جنوب فلسطين.   

كانت يافا مركزا للثقافة العربية وكانت نموذجا للتعايش بين الأديان، ولكن الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917 تحول إلى حكومة انتداب عام 1922، فتغير المسار التاريخي الطبيعي الذي جعل يافا قلب فلسطين النابض.

وكانت طبقة من النخب المثقفة في يافا رفعت من مستوى الوعي السياسي في المدينة إلى مستوى يمكن اعتباره عاليا، حتى بمقاييس اليوم في الشرق الأوسط. فالسياسيون والفنانون ومديرو البنوك والصناع والطلاب، منحوا يافا طبقة متوسطة لعبت دورا مهما في الحرب ضد الاستعمار البريطاني وحلفائه الصهاينة، قبل النكبة وقيام إسرائيل بسنوات كثيرة.

وكان أعضاء الاتحاد اليافاوي نشطوا في الدفاع عن حقوق العمال بصرامة، حيث كان يتم تسريح العمال الفلسطينيين وتوظيف عمال يهود ممن هاجروا من أوروبا. وأصبح نشاط الاتحاد جزءا من إضراب وثورة عام 1936، التي تعتبر أول انتفاضة فلسطينية شاملة وما زالت تلهم الأجيال الفلسطينية حتى يومنا هذا.

وكانت الكثير من القرى والبلدات تستأنس بيافا للتوجيه وأحيانا للبقاء. كان جدي الذي يملك قطعة أرض صغيرة في بيت دراس صانعا للسلال، وكان كل عدة أيام يأخذ ما صنع من السلال إلى أسدود وأحيانا المجدل ليبيعها ويحصل على بعض الدنانير الفلسطينية لتعزيز دخله البسيط. ولكن كان يوفر أحسن ما يصنع ليافا لأن اليافاويين كانوا ذوي أذواق رفيعة. وكان لهذه الرحلة يلبس أحسن ما عنده، وبعد أن يطعم حماره يحمل السلال على العربة ليبدأ رحلته الطويلة. 

كنا نجلس إليه ونرجوه أن يقص لنا عن مغامراته في يافا، بينما يجلس على فرشة قديمة في جانب خاص به من بيت متهالك في مخيم للاجئين في غزة. وكان يحكي لنا قصصه بأسلوب مشوق ويسلك فيها خطا بين الحقيقة والخيال. وعندما كبرت أدركت أن الخيال في قصص جدي لم تكن فقط بهدف تسليتنا كأطفال ولكن لأن يافا كانت تمثل لجدي أكبر انتصاراته وأنكر هزائمه. 

وربما ساعده الخيال على محاولة فهم العالم الذي تركه خلفه. عندما ثار العرب عام 1936 رد الاحتلال البريطاني عليهم بغير رحمة ولم يقم الإنجليز بقتل وسجن وإبعاد الكثير من اليافاويين، ولكنهم قاموا بتشويه معالم المدينة وتم مسح أجزاء كاملة من المدينة القديمة. لقد تم مسح التاريخ بطريقة عنيفة.

 ولم يتحدث جدي كثيرا عن الإضراب العام الذي أعلنته الأحزاب السياسية الفلسطينية والثلاث سنوات من الثورة التي تبعته، حيث تم قتل وسجن وإبعاد آلاف الشباب.

كان واحدا من الآلاف الذين دافعوا عن فلسطين حتى النهاية، مع أنه كان فلاحا علم نفسه كيف يصنع السلال للعيش، وبعدها باع كل شيء ليشتري بندقية تركية قديمة للدفاع عن بيت دراس في الوقت الذي كانت تسقط فيه القرى المجاورة بأيدي الصهاينة الواحدة بعد الأخرى.

كان يحكي لنا جدي عن مدى جمال يافا، وكيف يستقبلك نسيم عليل عندما تدخلها وكيف يشعرك هذا النسيم بأن روحك ارتدت إليك، و أخبرنا كيف أنه في ليلة ظلماء لاحقته الضباع خلال عودته من المدينة، وما أنقذه منها كانت علبة من الكبريت، حيث أن الضباع تخاف من النار. وكان يخبرنا كأنه يعيشها وكانت جدتي تومئ براسها إشارة على صدق القصة، ولكن جدي كان يعود دائما بالرغم من الحيوانات المفترسة والميليشيات الصهيونية والشرطة الإنجليزية، لأنه حين عودته إلى يافا فقط تعود إليه روحه. 

 وعندما سقطت بيت دراس بعد معارك بين الميليشيات الصهيونية وأهل القرية المسلحين ببعض البنادق فقط، سجنت روح جدي إلى الأبد. 

وعندما طبقت الخطة د وهي خطة الاستيلاء بعنف على معظم فلسطين بعد الرحيل المحسوب للقوات البريطانية، جاء احتلال يافا تتويجا لحملة من العنف الصهيونية.

وكانت مراحل الخطة  عبارة عن 6 عمليات كبيرة، اثنتان منهما وكلتا إلى مجموعتي النهشون والهاريل، والهدف منهما هو تدمير القرى الفلسطينية في محيط الحدود بين يافا والقدس. وبفصلهم للجزئين في الوسط والتي كان من المقترح أن تشكل جزءا من الدولة الفلسطينية، بحسب خطة التقسيم للأمم المتحدة استطاع الصهاية النجاح في منع احتمال وجود دولة فلسطينية متصلة جغرافيا. 

وشهدت الطريق الواصلة بين يافا والقدس معارك بطولية توجت بمعركة القسطل بالقرب من مدينة القدس. وكانت آخر معركة خاضها القائد الفلسطيني الأسطوري عبد القادر الحسيني حيث قاد هجوما معاكسا ناجحا. وقامت الأرغون وستيرن بمذبحة دير ياسين على بعد 3 أميال من القسطل، حيث قتلوا حوالي 250 فلسطينيا في مذبحة كانت فاتحة للمزيد من سفك الدماء الفلسطينية.

وتم احتلال عروس البحر يافا ما بين نيسان/ أبريل و أيار/ مايو 1948، وكانت قد بدأت الهجرة إلى شرق الأردن وسوريا ووضعت القوات الصهيونية من الهجانة والأرغون خلافاتهاما جانبا وتحركوا ضد يافا.

وقد تم إطلاق ثلاث حملات عسكرية في آن واحد تشامتز وجيفوزي ويفتاتش والتي تم احتلال مناطق ياف حول القدس والجليل الشرقي وعندما احتلت يافا تحطم كبرياء فلسطين.

وحوصرت المدينة مما اضطر آلاف الناس للهجرة عن طريق البحر إلى غزة ومصر وغرق الكثيرون في مراكب الصيد المكتظة وكانت القيادات العربية تأمل ألا يسمح الانجليز للصهاينة باجتياح يافا ولم يكونوا جاهزين ولم يكون هناك أي خدمات طوارئ.

وكان عدد أفراد الميليشيات اليهودية (وعددهم 5000 مقاتل مدربون بشكل جيد) مقابل 1500 متطوع عربي ولم يكن بالإمكان فعل شيء دون عون من الخارج، ولم يكن هناك أي عون ومات الرجال والنساء بأعداد كبيرة وهاجر عشرات الآلاف على الأقدام ولكن الأكثر كانت الهجرة بالبحر.

ومنذ ذلك الوقت يحاول سكان يافا الجدد محو تاريخ المدينة بما يحله من عبء أخلاقي، ولكنهم لا يستطيعون. فأهل يافا الذين بقوا هناك لا يزالون يقاتلون من أجل هويتهم وهوية مدينتهم واليافاويون في الخارج ملتزمون بإرث أجدادهم.

بعمر الثامنة أدركت أن يافا حقيقة وليست خيالا، ثم اكتشفت بعد ذلك بزمن أن يافا مع أنه تم غزوها إلا أنها لا تزال قائمة في الذاكرة الجمعية لليافاويين. 

ومع أن مصطلح النكبة مصطلح يصف ما وقع للشعب الفلسطينين عام 1947-1948 إلا أن الصمود هو ما يجعل ملايين الفلسطينيين يصرون على العودة بعد 66 عاما من غزو بلاد بساتين البرتقال والصمود هو ما سيبقى يافا حية للأبد.

رمزي بارود: مدير تحرير الميدل إيست مونيتور وكاتب عمود تنشر مقالاته في الصحافة حول العالم ومستشار إعلامي ومؤلف ومؤسس الصحيفة الإلكترونية بالستاين كرونيكال وآخر كتبه "كان أبي فدائيا: قصة غزة غير المروية" (باللغة الإنجليزية) بلوتو برس.

(عن موقع ميدل إيست آي)
التعليقات (0)