كتاب عربي 21

نهاية القوميين العرب

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
يحق لنا طرح الأسئلة؛ فقد وضع القوميون العرب أنفسهم في مرمى الأسئلة  الحارقة. وأول الاسئلة: ماذا بقي من القوميين ومن القومية بعد انسحاق صباحي رافع لواء الناصرية الأخير تحت الحذاء العسكري؟ لكن هل كانت هذه هي الميتة الأولى للتيار القومي العربي؟

الفكرة والتيار

من العسير تلخيص تاريخ التيار القومي العربي في مقال والإحاطة بكل تنظيرات بناء الأمة والتي أبدع كثيرون في ترتيبه في كراسات تحول بعضها إلى مواثيق ثورات ثم مع فعل الزمن تحولت إلى كتب مقدسة ووضعت فوق النقد التاريخي. ومن الظلم والإجحاف الحكم على كل هذا التيار من خلال النهايات الفاشلة التي يقف عندها الآن مشتتا متذبذبا لا إلى الثورة ولا إلى غيرها.

لذلك فإن المقال ليس إعلان وفاة بقدر ما هو بحث عن احتمالات حياة ممكنة في تيار العروبة العريق. الملاحظة المهمة في هذا أن التيار القومي في مواقع قطرية عديدة  يكرر أفكارا متشابهة ويعيد انتاج نفس التكتيكات ويسلم لنفسه أبدا بصواب الرؤية غير القابلة للنقض.

وقد فاجأت الثورة العربية الحديثة هذا التيار مشتتا تائها وبلا خطة تنظيمية فأعلن عدائها ووصفها بالمؤامرة الخارجية المخططة كالعادة من العدو الازلي ثم ناصبها العداء منخرطا في سيرورة متجددة من الانقلابات العسكرية وهو الأمر الذي يتقنه منذ قرن. وكانت مقابلة حسنين هيكل مع الأهرام في فيفري 2011 وحديثه عن مؤامرة كونية خاصة بعد ظهور الصهيوني برنار ليفي في بني غازي بعد انطلاق الثورة الليبية بمثابة ايعاز عسكري للتيار القومي لكي يتخذ سبيل النكوص عن المشاركة في تطوير الفعل الثوري ودفعه ليتبلور في تغيير جذري (دون ان يعني ذلك أن المناضلين في التيار قد ارتدوا عن النضال) لكن بداية من التوجيه المذكور سيتولى القوميون التشكيك في كل حركة والبحث فيها عن مبرر عدم تطويرها وزادت حجتهم قوة بعد انحراف الثورة السورية عن مسارها السلمي وتحولها إلى حرب كونية.

لقد انقذت نظرية المؤامرة التيار القومي من مشقة تطوير تنظيراته السياسية  ووجد فيها فتوى تعال عن النقد والتطور الذاتي. فبقي حيث هو منتظرا انقلابا ما

تيار اللفظ الثوري في تونس

ليس هناك من يزايد على القوميين التونسيين في إعلان محبة الوطن(الأمة)  والذود عن كيانه(ا) ففوق كل مزايد نجد قوميا يرفع السقف. وقد كان هذا ديدن التيارات القومية في الجامعة التونسية على سبيل المثال. فإذا دعا داع لاجتماع طالبوا بمسيرة وإذا قال بمسيرة طالبوا برفع السلاح فتخلد عند الكثيرين أن الغلو غير جدي وانه غير منتج بالضرورة وهو غلو طهوري ثوري لم ير أحد نتائجه على الأرض.في تواز مع المغالاة  ظهر التيار بعد الثورة خاصة برؤوس كثيرة  حتى سخر البعض بأنه الجيش المكسيكي حيث الجنرالات أكثر من الجنود.

كل يزعم نفسه القومي الأخير والبقية أزلام النظام السابق أو في أحسن الحالات صنائع مخابرات محلية وخارجية. وهو ما وسع السخرية من هذه الزعامات التي تعلن توحيد أمة وتعجز عن التوحد في تنظيم سياسي قطري محدود. وما القوميون في تونس  إلا نموذجا يعمم على بقية زملائهم.(وإن المرء ليتساءل عن صدقية دخولهم في المؤتمر القومي الاسلامي وجديتهم في التزام مشروعه الذي كان سينهي نصف قرن من الخلاف بين التيارات القومية والإسلامية حلو مسائل فرعية)

لما هذا العجز في الفعل؟

هل الفكرة  (المشروع الوحدوي) القومية  فكرة خاطئة  وفي غير زمنها أم أن حملتها أو مدعيها أضعف من حملها؟ (وهنا لا أفرق بين المدارس والتيارات ناصرييها وبعثييها).

تحيلنا وقائع البدايات إلى مرحلة الإصلاح السياسي في الدولة العثمانية أو ما يعرف بعصر التنظيمات وهو المشروع الذي حاول إخراج الرجل العثماني المريض من فراش مرضه وإلحاقه بمسار التحديث الاوربي في نهاية القرن 19  لكنه انتهى بسقوط الخلافة و تقدم  المؤسسة العسكرية لحكم تركيا الحديثة وفرض نظام تغيير/ تحديث بالقوة العسكرية والسياسية. انتقلت الفكرة بسرعة الى الدول العربية الناشئة بعد دحر الاستعمار المباشر فنسجت على منوال الاتحاد والترقي وكمال أتاتورك وقفزت بمشاريع تحديث فوقية على ظهور الدبابات إلى سدة الحكم وكانت فكرة بناء الأمة العربية المشتتة والمقسمة والمهانة فكرة جامعة بين جميع العساكر كل يريد بناءها وتوحيدها وإدخالها التاريخ من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى ليبيا مرورا بمصر والجزائر.

 ولم يعز العسكريون منظرين حالمين يضعون لهم مبررات القوة لتوحيد الأمة دون المرور بالدلال الديمقراطي المائع. ومع ترسخ قدم العسكر في السلطة تكرست نظرية التغيير الفوقي (النابليوني الاتاتوركي) المستهينة بالعمل الشعبي والصبر على التغيير البطئي والثابت وصارت الدبابة حاملة للفكر القومي حيث ما مرت وصار المفكر القومي قائد دبابة فكرية تسير على كل فكر مخالف  تدينه وتعدمه بدعوى الرجعية وتخريب الأمة بالتخابر مع الأعداء. فإن لم يوجد الدليل تتكفل المخابرات الحربية باختلاقه ويتكفل القضاء العسكري بإغلاق ملف أي معارض من اليسار واليمين.(وحدهم القوميون نصبوا المشانق لشعوبهم والسيسي آخر الواصلين)

وطبيعي والحال هذه أن يقف القومي العسكري أو قائد الدبابة الفكرية ضد كل شكل من اشكال التغيير المعتمد على القوة الشعبية. لقد قفز القوميون إلى السلطة بشكل خاطف وحكموا لفترات متواصلة ومن الصدف انهم وضعوا تحت أيديهم أكبر ثورات النفط العربي(العراق والجزائر وليبيا) ولكن البلدان التي حكموها هي الأفقر بعد نصف قرن.(هذا ليس تمجيدا لبقية الأنظمة الفاشلة) وفي الحالة العراقية التي نتعاطف مع مشروعها في تملك القوة العسكرية والعلمية نصاب منها بخيبة أمل بالنظر لتبديدها أسباب القوة فهي مثال دال على أن امتلاك القوة دون تصرف مؤسساتي أي ديمقراطي بالضرورة تهدر القوة  وتجر نهايتها.

نهاية القومية وبقاء العروبة

لن يشفع عنوان النضال لتحرير فلسطين للقوميين هزائم الصمود والتصدي فلم ير العرب والفلسطينيون بالذات من ذلك إلا ممانعة تلفزية بعد هزائم مدوية. فمنذ هزيمة حزيران لم تعد  فلسطين أصلا تجاريا للتيارات القومية فالضربات الموجعة للعدو جاءته من غيرهم دون غمط حق  الشهداء العروبيين من أنحاء الوطن. وليس من الصدفة في شيء أن يكون حسنين هيكل منظر النظام الناصري وقائد كتيبته الدعائية  هو نفسه مصدر نظرية المؤامرة  ومنظر انقلاب العسكر المصري (الذي يتلقى التهنئة من العدو) على المسار الديمقراطي بحجة فلسطين نفسها. إنه آخر رهبان الفكر القومي بصيغته العسكرية بالطبع في هذا المشهد لا يعادل شخص في حجم البشير الصيد حجم حارس ثكنة بلا حذاء عسكري. هو جيل يخرج إلى نهايته ويود أن يجر معه التاريخ إلى قبره  لكن مجريات المرحلة تؤذن ببدايات أخرى.

لقد كشف الربيع العربي أن صيغة تحقيق المطلب الوحدوي ضمن أطروحة أو براديقم التنظيمات أي إمساك السلطة والتغيير بواسطة الأجهزة انتهت إلى غير رجعة.(يكفي أن نرى خليفة حفتر الصغير من حملتها). لقد انتهت لأنها لم تنتج إلا القتل والفقر والدمار الإنساني والنتائج لا يدافع عنها إلا مهزوم. لقد انتهت لأنها لم تنتج قدرة ذاتية على التطور عبر النقد الذاتي وقراءة مفردات الواقع المتحرك من حولها.

لقد استثمرت في حلم القوة وهو حلم كان مشروعا  ولا يزال لكنها حولته إلى عاطفة تجييش شعبوي وليس إلى مؤسسات بناء ديمقراطي منتج. ولذلك رأينا أنه كلما سقط منها نظام لم تجد فلوله من يشفق عليها لقد صارت القومية بصيغتها العسكرية (الانقلابية) بعد تجربة نصف قرن في الحكم في أكثر  البلدان العربية قوة  علامة على الفشل السياسي والاقتصادي والهزيمة المعنوية.

هل انتهت العروبة وهل انتهى حلم القوة العربية عبر التوحد السياسي والاقتصادي؟

رغم مرور قرنين من الحلم  وقرن من النضال في سبيل ذلك إلا إن المشروع لم يفقد بريقه وقدرته على التحشيد ولكنه غير أدواته وتغير حاملوه لقد صارت الوحدة الاقتصادية مشروعا أوسع من مدعيه من القوميين فالشعب يريد تحرير فلسطين  رفعها الجميع و سارت تحت راية التحرير شعوب بكاملها فأغلب الفكر السياسي العربي الحديث يقدر أهمية قوة اقتصادية عربية (اقليمية ثم  وحدودية) و التيار التفكير العملي (البراقماتي) مال إلى صناعة القوة بالديمقراطية والمؤسسات المدنية.

لقد انتهى الإصلاح السياسي التركي بعد ثلاثة أرباع قرن من الاتاتوركية  الغاشمة  إلى تجربة حكم مدني متجاوز للقومي العرقي ونتائجه تبهر العالم وتثير حسده. والوحدويون الذين قبلوا (وسيقبلون) هذا البارديقم  سيواصلون الحلم القومي  الوحدوي ضمن سياق مختلف عن البيان رقم واحد على أن لا يزغردوا لأول انقلاب يحصل بجوارهم وانه لمن البؤس المؤذن بالنهاية الوشيكة أخلاقيا وسياسيا أن يدخل المناضل الوحدوي في مسار تحول ديمقراطي  مدني ويؤلف الاحزاب ويتصدر الجمعيات ثم يصطف وراء انقلاب عسكري  يقوده عسكري لم يطلق رصاصة. إن الذين يتظاهرون بالمدنية ويزغردون لأول انقلاب يثبتون دوما أنهم خطأ كبير في القصيدة. 
التعليقات (0)