مقالات مختارة

مبدأ المقاومة يهزم مشروع الثورة المضادة

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600
كتب د. سعيد الشهابي: من الذي زين للإسرائيليين التورط بشن حرب ضد غزة؟ وكيف فشلت أجهزة استخبارات العدو في تقييم الموقف واعتقدت أن بإمكان الجيش الإسرائيلي تحقيق ما لم يستطع إنجازه قبل خمسة أعوام؟ أمور عديدة تميز المشهد العربي بين حقبتين تفصلهما خمسة أعوام، وهو تمايز ساهم في تشجيع بنيامين نتنياهو للإسراع في «اغتنام الفرصة»، ولكن سرعان ما اتضح خطأ تقديرات الاستخبارات الصهيونية وساسة تل أبيب، فسارعوا ومعهم داعموهم في واشنطن ولندن وعواصم عربية للدعوة لوقف اطلاق النار حفاظا على سمعة «الجيش الذي لا يقهر». ولكن برغم خطأ التقديرات الإسرائيلية، فان المشهد العربي عشية العدوان الحالي على غزة كان حقا مغريا لمن يريد أن يصفي حساباته مع أي طرف عربي أو إسلامي.

فلم تشهد الأمتان العربية والإسلامية حالة من الشتات والتمزق والاحتراب الداخلي والاستقطاب السياسي والعرقي والمذهبي كما شهدته في العامين الأخيرين. فما سر قدرة أهل غزة على التصدي لعدوان كاسح لم يوفر قادته أي سلاح مدمر في حرب كانت تبدو «مضمونة النتائج» لان طرفي النزاع غير متكافئين في القوة الذاتية أو الدعم الخارجي؟ الأمر المؤكد أن رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، ومعه مستشاروه الأمنيون والعسكريون، كانوا يعتقدون أن سحق «حماس» و «الجهاد الإسلامي» نتيجة مضمونة بسهولة وسرعة وبدون خسائر تذكر. فأين الخلل في تقديراتهم؟ وكيف ستنتهي الجولة الحالية من العدوان الكاسح الذي يغوص قادته في الوحل يوما بعد آخر؟

جاء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 في أوضاع عربية مختلفة عما هي عليه الآن. يومها لم يكن قد مضى على حرب 2006 سوى 42 شهرا، وكانت الشعوب العربية والإسلامية تعيش نشوة النصر الذي كان الأول من نوعه منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في 1948. لم يكن هناك من أنظمة رسمية أو قوى شعبية من يجاهر بالعداء للمقاومة أو التحالف مع الإسرائيليين. بل خرجت المسيرات في دول عربية عديدة لدعم المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وكتبت المقالات والقصائد للتعبير عن روح النصر التي سرت في أوصال الأمة. وبرغم ما كان يجري في العراق من حمامات دم ومحاولات مستمرة لإذكاء الطائفية، فقد كانت حقنة النصر اللبنانية كافية لمنع انتشار ذلك الداء في جسد الأمة. ولذلك فحين شن العدو الإسرائيلي عدوانه على غزة عام 2008 وقفت الأمة داعمة لاهل فلسطين وداعية لهم بالصمود والنصر. السعودية وحدها وقفت ضد «حماس» واتهمتها بـ «المغامرة وجر المنطقة الى الويلات». كان المقاتل الفلسطيني يستمد جانبا من قوته وصموده من المشاعر العميقة بحتمية النصر بعد ما تحقق في 2006. كان المشهد بشكل عام ايجابيا لصالح المقاومة التي خرجت الاحتجاجات والمسيرات في اغلب العواصم العربية لدعمها. ولكن المشهد الذي سبق العدوان الإسرائيلي الحالي مختلف تماما. فقد استطاعت قوى الثورة المضادة قلب ذلك المشهد تماما، بعد أن انقلبت على الثورات العربية واجهضتها وسعت لاحداث تغيير في اللاشعور العربي بعدم جدوى السعي للتغيير السياسي أو التصدي للاحتلال الإسرائيلي. ويتألف تحالف قوى الثورة المضادة من كيانات سياسية قلقة من صعود تيار التحرر العربي والاسلامي جمعتها مصالح مشتركة تتصدرها الرغبة في القضاء على ما تسميه «مجموعات الاسلام السياسي» التي كانت تبدو المستفيد الاكبر من انتصارات المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. ومنذ عقود كان الغربيون وحلفاؤهم العرب ينظرون لقضية فلسطين انها مصدر الوعي السياسي ومنطلق المشاعر الثورية، وان من الضروة بمكان غلق ملفها لمحاصرة وعي الشعوب وازالة دوافعها للتمرد على أنظمة الحكم القائمة.

منذ الاسابيع الاولى لانطلاق ثورات الشعوب العربية في 2011 بدأ تحالف قوى الثورة المضادة يخطط لاستهداف المجموعات المذكورة بعد افشال تلك الثورات. واستخدمت سلاحين مدمرين جدا: الارهاب والطائفية. وما أن تمت هندسة أوضاع الدول التي حدثت فيها الحراكات الشعبية حتى اصبح الوضع مهيأ للمزيد من الهندسة السياسية التي تهدف لغلق ملف القضية الفلسطينية. ونظرا لغياب وعي قيادات العمل الإسلامي المرتبط بمجموعات الاسلام السياسي، تمكنت قوى الثورة المضادة من نشر ثقافة الكراهية والعنف والتشطير وفق خطوط الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية بمعدلات غير مسبوقة. بل أن بعض الرموز الاسلامية والوطنية استدرج لمسايرة الاطروحات المذهبية والارهابية، بشكل مقزز جدا. لم يكن متوقعا أن تصبح تلك الرموز ادوات بايدي قوى الثورة المضادة فتصرح وتتخذ المواقف غير المسؤولة وتتبنى سياسة التكفير وتدعم مجموعات التطرف والعنف من منطلقات طائفية. 

ومن اكبر ضحايا تلك الحملة المسعورة مصطلح «المقاومة» وما يرتبط به من تحالفات وعلاقات داخل المنظومة الاسلامية. الوضع العربي اذا كان مستقطبا بشكل واضح ضد محاولات التغيير السياسية أو الترويج لمقولات المقاومة والتصدي للاحتلال. وتم تجنيد وسائل الاعلام التابعة لقوى الثورة المضادة لترويج ثقافة الكراهية ضد مجموعات المقاومة والاسلام السياسي، واعتقد من انساق وراء ذلك انه يساهم في مشروع اصلاح ديني جديد، وغاب عن الكثيرين أن المبالغة في الحديث عن «مجوسية» ايران أو «رافضية العراق، أو «فساد حكم الاخوان» أو «تطرف حماس» أو «طائفية حزب الله» انما هي جانب من خطة الانقضاض على جميع المطالبين بالاصلاح أو التغيير أو التحرير. فوفقا لمنظور قوى الثورة المضادة لن يكون الشرق الاوسط المستقبلي مضمونا لها، الا بانهاء حقبة «الصحوة الاسلامية» التي ادت الى قيام الثورات وتنامي المقاومة وتعمق روح التحرر والتحرير لدى شباب الامة. ونظرا للحالة الدينية السائدة في مجتمعات المنطقة، كان لا بد أن يكون البديل ذا صبغة دينية ايضا، فجاءت مجموعات التطرف الديني ممولة ومسلحة من قبل تلك القوى المتوفرة على وفرة مالية غير محدودة. قوى الثورة المضادة سعت لتغيير المزاج السياسي العربي والاسلامي بعيدا عن قضايا الحرية والتحرير، وتوفير بديل ديني لمجموعات الاسلام السياسي. ويعتبر المشروع الداعشي من اهم البدائل التي طرحت حتى هذه الساعة لاستقطاب الشباب المسلم من كافة اقطار الارض والزج به في طواحين حروب عبثية تنخر في جسد الامة لتمزقها وابعادها عن القضايا الحقيقية المرتبطة بالحريات العامة والقضاء على الاستبداد والفساد أو التصدي للاحتلال والهيمنة الغربية.

مخططو الحرب على غزة هذه المرة ارادوها الحلقة الاخيرة في مسلسل ضرب مشاريع الاصلاح والتحرير، وإكمالا لخطط حصار مجموعات الاسلام السياسي (كما حدث للاخوان في مصر وتونس) والمقاومة (كما حدث لحزب الله اللبناني). وتمت هندسة الوضعين العربي والاسلامي بالشكل الذي يحاصر حماس والجهاد الإسلامي ويمنع التعاطف معهما اذا ما تعرضتا لضربة اسرائيلية مركزة. وبانتهائهما ستكون قوى الثورة المضادة قد قطعت شوطا مهما على طريق تطويق ظاهرة الصحوة الاسلامية التي افضت الى ثورات الربيع العربي. كان أمل هذه القوى أن يتم التخلي عن مجموعات المقاومة من قبل الجهات التي دعمتها سابقا، خصوصا ايران وحزب الله اللبناني. ولكن الذي حدث مختلف تماما، فقد صمدت المقاومة حتى الآن، واتضح أن الخطط التدميرية لم تحقق نجاحا كاملا، وان المقاومة ما تزال متواصلة في ما بينها ومتجاوزة المعوقات المذهبية والسياسية. كانت مفاجأة العدو الإسرائيلي كبيرة حين اكتشف أن حماس والجهاد الإسلامي تمتلكان من التكنولوجيا العسكرية المتطورة ما جعلهما قادرتين على قصف اقصى المواقع الإسرائيلية في حيفا ويافا وتل ابيب. واتضح كذلك أن الإسرائيليين لم يحققوا نجاحا كبيرا في اسقاط صوارخ المقاومة الفلسطينية، وان نسبة نجاحهم لم تتجاوز الربع. بل أن خسائر الإسرائيليين تجاوزت حتى الآن ما فقدوه من جنود في حرب 2009. فبرغم تغير المشهد السياسي العربي وخريطة التحالفات وتصاعد الفتنة الطائفية واختلاق الازمات بين فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبث مجموعات الفتنة والتكفير والطائفي والارهاب، الا أن حصيلة العدوان ليست مشجعة لداعميه ومشجعيه.

(القدس العربي)
التعليقات (0)