كتاب عربي 21

طه حسين والأزهر

محمد عمارة
1300x600
1300x600
على امتداد عقود طويلة، ساد التوتر والصراع أجواء العلاقة بين طه حسين وبين الأزهر.

فلقد بدأ طه حسين حياته بالتمرد على شيوخ الأزهر وعلى مناهج التعليم فيه، ولقد حال شيوخ الأزهر بين طه حسين وبين النجاح في امتحان شهادة العالمية، فغادر الأزهر مطرودا ومغضوبا عليه إلى الجامعة المصرية الأهلية عام 1908م حيث درس فيها، وحصل منها على أول دكتوراه تمنحها هذه الجامعة عن "تجديد ذكرى أبي العلاء"، ثم سافر إلى فرنسا عام 1914م.

ولقد عبر طه حسين عن عدائه للأزهر بأن رمى عمامته إلى البحر، وتزيا بالزي الأوربي بعد أن كان يستنكر ارتداء هذا الزي ويحرم زواج المسلم بالأوربيات!.

وبعد أن عاد طه حسين من فرنسا عام 1919م وخلال عقد العشرينيات، بلغ العداء بين الأزهر وبينه الذروة وخاصة إبان معركة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925م للشيخ علي عبد الرازق، الذي دعا إلى علمنة الإسلام وتجريده من السياسة والدولة والتشريع، والذي أهال التراب على نظام الخلافة الإسلامية، حتى في عهدها الراشد، فطه حسين كان المحامي عن هذا الكتاب، بل وكان شريكا في تأليفه، حيث اعترف أنه قرأه قبل طبعه ثلاث مرات، وعدل فيه كثيرا.

وعندما أصدر طه حسين عام 1926م كتاب "في الشعر الجاهلي" وشكك فيه – بل وأنكر – عقائد إسلامية مثل الوجود التاريخي لأبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – ورحلتهما الحجازية، وإقامتهما قواعد البيت الحرام، هاجت الدنيا، بقيادة الأزهر، واندلعت مظاهرات الطلاب الأزهريين، وتقدم طلاب الأزهر وشيوخه بالبلاغات التي حققت فيها النيابة العامة مع طه حسين.

 ولقد تكررت هذه المعركة عام 1932م ضد كتاب طه حسين "في الأدب الجاهلي" الذي كان تطويرا معدلا لكتابه "في الشعر الجاهلي"، وضغط الأزهر على الحكومة وعلى البرلمان، وصدر قرار مجلس الوزراء بفصل طه حسين من الجامعة، وفي هذه المعركة أطلق طه حسين العنان لقلمه ضد الأزهر، حتى لقد وصف هو هذه الحدة بقوله: "يبدو أنني أهنت الشيخ الأكبر وكل المشايخ، ورئيس الوزراء وكل الوزراء، بل أهنت في النهاية كل الناس، وكان ذلك عملا أحمقا وشريرا"!.

ولقد دفعت هذه المحنة طه حسين – كما تقول زوجته – إلى التفكير في الانتحار!.

ولكن شاء الله أن تكون هذه المحنة بداية تحولات في التوجهات الفكرية لطه حسين، فلقد بدأ مع عدد من كبار الكتاب - منهم هيكل والعقاد وتوفيق الحكيم - الكتابة في الإسلاميات، وعندما عاد الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر عام 1935م، امتدت يد الأزهر إلى طه حسين، فدعته مجلة الأزهر إلى أن يكتب فيها عن ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم واستجاب طه حسين لهذه الدعوة وهذه التحية، فبدأت بعد ذلك لهجة طه حسين تتغير في حديثه عن الأزهر، حتى لقد أعلن أن الدراسة بالأزهر قد قامت دائما على الحرية، التي تثمر الاستقلال الفكري لخريجيه، وأنه قد سبق في ذلك كل الجامعات، الشرقية منها والغربية، فقال – في محاضرة له بكلية العلوم في شهر ديسمبر عام 1941م: "لقد بدأت التعليم في الأزهر، وكان الأزهر بيئة حرة إلى أوسع ما تستطيعون أن تتصوروا، كنا نستمتع بحرية لا حد لها، كنا أحرارا مع أساتذتنا، حتى أننا كنا نعذبهم أكثر مما كانوا يعذبوننا، كنا نناقشهم ونطيل عليهم، وأذكر أن بعض أساتذتنا عندما كنت أناقشه كان يرفع يديه إلى السماء ويقول: "الله حكم بيني وبينك يوم القيامة"!، كنا نقول لأساتذتنا كل ما يخطر ببالنا، فلما دخلت الجامعة القديمة التي أنشئت على نمط الجامعات الأوربية، وجدتها تشبه كثيرا نظام الأزهر، فلما ذهبت إلى السوربون، وجدت أنها ليست أقل حرية من الأزهر، بل كان دهشي شديدا عندما رأيت أن من الدراسات بالسوربون دراسات تشبه دراسات الأزهر، فلما عدت إلى القاهرة، اقتنعت وامتلأت نفسي بأن دراسة العلم لا تصلح ولا تثمر وتنتج إلا إذا كانت حرة على هذا النحو الذي كان في أقدم الجامعات، في الأزهر، وفي أحدثها، في الجامعات المصرية".

هكذا، ومن خلال المحن، ومع التحولات الفكرية، أخذ طه حسين يتحدث عن الأزهر بروح جديدة وأسلوب جديد، حتى بلغ الأمر حد اعترافه بالندم على اليوم الذي ألقى فيه عمامته في البحر!.
التعليقات (0)