مقالات مختارة

معارضة إسرائيل من الداخل

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
كتب ميرون رابوبورت: لا يقتصر النقد الموجه إلى الحكومة على المتقاعدين من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، فالمسؤولون الذين على رأس عملهم ينتقدون حكومتهم أيضاً. ما الذي يفهمه هؤلاء مما استعصى على نتنياهو استيعابه؟
 
في عام 2011، حينما رشح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رئيساً جديداً لجهاز المخابرات الإسرائيلي الداخلي "وكالة الأمن العام" (التي تعرف بالعبرية باسم شين بيت)، كان الرهان على أن رئيس قسم الدائرة اليهودية داخل الوكالة هو الذي سيقع عليه الاختيار.
 
إلا أن نتنياهو اختار بدلاً منه يورام كوهين الذي أصبح أول يهودي أرثوذكسي (متدين) يرأس الشين بيت، والذي قيل في حينها إنه اختير للمنصب إثر ضغوط مكثفة مارسها لوبي المستوطنين، والذي يحتمل أنه رأى في كوهين الرجل الأنسب لهذه المهمة.
 
ولكن، وأيا كانت رؤى كوهين السياسية، فقد وجه في الأسبوع الماضي ضربة غير لطيفة للجهود التي كان يبذلها نتنياهو لإقناع الرأي العام الإسرائيلي والمجتمع الدولي، بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبا مازن) يتحمل المسؤولية المباشرة عن الهجمات الإرهابية التي وقعت مؤخراً في القدس.
 
في شهادته أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، وهي لجنة مرموقة، قال كوهين إن "أبا مازن لا هو مهتم بالإرهاب ولا هو يقود إلى الإرهاب… ولا هو ممارس له من تحت الطاولة". فما كان من البرلمانيين اليمينيين إلا أنْ جن جنونهم وراحوا يطالبون كوهين بالاستقالة.
 
كما أن رئيس الشرطة الإسرائيلية يوهانان دانينو لا يحسب على اليسار ولا ينتمي إليه. وهو الآخر تم ترشيحه للمنصب من قبل نتنياهو وأقره على ذلك أفيغدور ليبرمان الذي يمسك حزبه "إسرائيل بيتنا" بحقيبة وزارة الأمن الداخلي. ومع ذلك، لم يشذ دانينو عما ذهب إليه نظيره في الشين بيت حينما ناقض بالأمس الرسالة الواردة من حكومة نتنياهو.
 
قال دانينو في حوار مفتوح إن كافة التصريحات المعلنة بشأن الرغبة في تغيير الوضع القائم في جبل الهيكل (الحرم الشريف) كان لها تأثير سلبي على العالم الإسلامي بأسره. وكان تصريحه ذلك بمثابة سحب للبساط من تحت أقدام المسؤولين الإسرائيليين الذين ما فتئوا يزعمون بأن مصدر التوترات المتصاعدة حول الأقصى هو التحريض الفلسطيني وليس أي إجراء إسرائيلي. ما إن نطق دانينو بذلك حتى توالت المطالبات سراعاً بإعفائه من منصبه.
 
لا يزال كل من دانينو وكوهين على رأس عمله، وهذا يعني نظرياً أن حريتهما في التعبير عما يجول بخاطرهما تظل محدودة. إلا أن ما صدر عنهما يشير بلا أدنى شك إلى وجود هوة آخذة في الاتساع بين أجهزة الأمن والنخب السياسية. وكان يوفال ديسكين، سلف كوهين على رأس الشين بيت، قد خلع قفازاته قبل ذلك بوقت طويل. فقد حذر قبل عام من الآن بأن "انفجاراً هائلاً" يوشك أن يحدث بسبب سياسة إسرائيل المستمرة في استعمار الضفة الغربية، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين نحو فقدان الأمل والغرق في حالة من اليأس والإحباط. بل لقد تحول ديسكين في الأسابيع الأخيرة من عمله إلى ما يشبه المتنبئ بأحداث آخر الزمان إذ زعم أن سياسة إسرائيل التي تعتمد استخدام القوة لإخماد الانتفاضة الفلسطينية قد أفلست.
 
وحتى شاباتي شافيت، الرئيس السابق للموساد والمعروف عنه أنه من غلاة الصقور، نشر مقالاً في هآرتس الأسبوع الماضي أشبه بالإنذار. فقد كتب يقول: "للمرة الأولى، كإنسان بلغ من العمر ما بلغ، أشعر بقلق شديد على مصير المشروع الصهيوني. فأنا قلق من ناحية بسبب الكم الكبير من الأخطار التي تتهددنا، وقلق من ناحية أخرى بسبب العمى والشلل السياسي والاستراتيجي للحكومة".
 
لا يمكن القول إن أياً من هؤلاء المسؤولين الكبار الحاليين أو السابقين في أجهزة الأمن الإسرائيلية يتعاطف بأي شكل من الأشكال مع الفلسطينيين أو مع القضية الفلسطينية. فبينما كان ديسكين ينتقد الحكومة لعدم الدخول في حوار جاد مع الفلسطينيين، إلا أنه شجع إسرائيل خلال عملية الدرع الواقي في عام 2002 على إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل. إذن، ما الذي يفزع قادة الأمن الإسرائيليين؟ وما الذي يحفزهم على مواجهة حكومة نتنياهو ومعارضة سياساتها؟
 
في حالة كوهين، الجواب في غاية البساطة، فكل ما يفعله الرجل لا يتجاوز توصيف الواقع اليومي. فالسلطة الفلسطينية تحافظ على استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل بالرغم من تدني شعبيتها يوماً بعد يوم لدى الجمهور الفلسطيني، وخاصة بعد الحرب المدمرة الأخيرة على قطاع غزة.
 
فكرئيس للشين بيت يعلم كوهين ذلك أكثر من أي شخص آخر في إسرائيل، وإنكار ذلك لن يكون فقط خداعاً وكذباً - بل قد يقوض العلاقات الوثيقة التي تربط وكالته بأجهزة الأمن الفلسطينية. ويعلم كوهين أن الرئيس عباس لا يرغب في رؤية انتفاضة جديدة لأسباب ذاتية تتعلق به هو، ولئن كان يفعل ذلك ليس بهدف إسعاد إسرائيل، فالمهم أن النتيجة واحدة.
 
إلا أن الأمر يتعلق بأكثر من مجرد الحرص على الصدح بالحقيقة، ولا أدل على ذلك من أن أحد البرلمانيين الذين حضروا شهادة كوهين خرج بانطباع أن كوهين كان فعلاً في غاية القلق. فمهمة الرجل تقتضي الحد من العنف وإبقاءه في أدنى مستوياته، ولكنه في الوقت ذاته يرى حكومته تفعل كل ما في وسعها لإذكاء لهيب الوضع المتأزم. في مثل هذا المناخ القابل لمزيد من الاشتعال، يشعر كل من كوهين ودانينو، بوصفهما موظفين في الدولة مكلفين من قبلها، بأنهما غير قادرين على القيام بمهامهما كما يجب.
 
يمكن الاستنتاج من عبارات كوهين أنه يرى خطورة كبيرة في الجهود التي تبذل لتغيير الوضع القائم في جبل الهيكل وأنه حذر نتنياهو من الدفع باتجاه مثل هذه الخطوة. أما رئيس الشرطة دانينو فلم يشعر بالحرج من أن يذكر ذلك علانية أمام الجمهور، وذلك حين صرح بالأمس بأن القرار بالسماح للسياسيين اليمينيين بالذهاب إلى هناك (أي إلى داخل ساحات المسجد الأقصى) كان خطأً.
 
إذن، إذا كان مثل هؤلاء المسؤولين الأمنيين رفيعي المستوى يحذرون علانية وداخل الحجرات المغلقة من خطورة الاستمرار في التصعيد، فلماذا يسمح نتنياهو بحصول ذلك في المقام الأول؟
 
ما يجري تداوله داخل الأوساط السياسية يفيد بأنه إثر النتائج المخيبة للآمال للحرب على غزة أصبح نتنياهو ضعيفاً جداً أمام حركة جبل الهيكل وأتباعها من اليمينيين ولم يعد يقوى على الوقوف في وجوههم. وتقول هذه النظرية إن نتنياهو جر إلى هذا الوضع جراً، وما أن بدأت الأمور في التدهور حتى وجد نفسه أمام خيار واحد وهو توجيه إصبع اللوم إلى الرئيس عباس.
 
إلا أن هناك تفسيراً ذا طبيعة أكثر تآمرية، ومفاده أنه بعد انتهاء عملية الدرع الواقي هذا الصيف دون تحقيق انتصار يذكر، أو هكذا تقول النظرية، رأي نتنياهو أن إسرائيل باتت محصورة في الزاوية، وأن الضغوط الدولية عليها كانت تتزايد، بينما ظلت المفاوضات مع الفلسطينيين في حالة موت سريري، فاختار اللجوء إلى التحريض المتعمد من خلال السماح لحركات جبل الهيكل القيام بعملها أملاً في أن "تحرك المياه الراكدة". يبدو أن هذه الخطة آتت أكلها بشكل أفضل - أو ربما أسوأ - مما توقع نتنياهو.
 
لا توجد أدلة حقيقية تدعم هذه النظرية، إلا أن الحقيقة هي أن زيارات السياسيين اليمينيين إلى جبل الهيكل توقفت تماماً بعد أن دُعي نتنياهو إلى عمان قبل أسبوعين للقاء عاهل الأردن الملك عبد الله ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري. وهذا يثبت أن نتنياهو كان بإمكانه وضع حد لهذا الأمر في وقت مبكر لو أنه فعلاً أراد ذلك.
 
بشكل أو بآخر، من الواضح أن على نتنياهو وتحالفه الحكومي اليميني الآخذ في التطرف بشكل متزايد معالجة المعارضة المتنامية داخل الأجهزة الأمنية. وهي معارضة لا تنجم عن أسباب أيديولوجية كما لا تنجم عن إدراك هؤلاء المسؤولين الأمنيين الكبار فجأة أن الاحتلال خطأ وينبغي التوقف عنه، وإنما هي ناجمة عن شعور هؤلاء بأن حكومتهم في حالة من التيه وأنها باتت لا تعرف في أي اتجاه ينبغي عليها أن تمضي.
 
ربما ليس من المصادفة أن تصدر المعارضة عن أجهزة تتحمل مسؤولية الأمن الداخلي مثل الشين بيت والشرطة. فبدلاً من أن يتركز داخل الضفة الغربية المحتلة أو داخل قطاع غزة، غدا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً داخلياً، صراعاً بين اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون تحت السلطة الكاملة لإسرائيل – إنه صراع مع فلسطينيي القدس الشرقية أو فلسطينيي إسرائيل ذاتها. لقد وُعد الإسرائيليون بأن جدار العزل سيبقي الصراع بعيداً عنهم، داخل الضفة الغربية وداخل قطاع غزة، إلا أن الصراع بات الآن معيشًا بشكل متزايد في المناطق التي يحيط بها الجدار، في القدس الشرقية وإلى حد ما في أم الفحم وكفر كنة في شمال إسرائيل، وفي غير ذلك من المناطق.
 
قد يفسر تحول الصراع إلى صراع داخلي تدفق التشريعات المناهضة للعرب، بدءاً بقانون الأمة سيئ الصيت إلى مقترحات القوانين التي تجرد الفلسطينيين من إقاماتهم أو حتى من جنسياتهم إذا ما تورطوا في "دعم الإرهاب". وقد يفهم كوهين ودانينو وغيرهم أنه إذا تحول هذا الصراع إلى صراع بين التجمعات السكانية فسيكون صعباً جداً، إن لم يكن مستحيلاً، التحكم به، وهي المهمة المناطة بهم أصلاً في المناصب التي يشغلونها.
 
(عن "ميدل إيست آي" اللندنية).. يمكن الرجوع إلى النص الأصلي على الرابط: 
https://www.middleeasteye.net/columns/opposition-within-1420536545
التعليقات (0)