مقالات مختارة

التحقيق الداخلي الإسرائيلي لا يجب أن يمحو جرائم الاحتلال في رفح

بن وايت
1300x600
1300x600
على مدى الأسابيع القليلة الماضية في إسرائيل، وفيما يُسمى بـ”هجوم استثنائي واسع النطاق”، طالب السياسيون وكتاب الرأي ومحررو افتتاحيات الصحف، المدعي العام العسكري للجيش الإسرائيلي داني إيفروني بإنهاء التحقيقات في عدد من الحوادث، التي وقعت خلال الهجوم الأخير على قطاع غزة فيما عُرف باسم “عملية الجرف الصامد”.
 
ومن بين عشرات الحوادث والمخالفات، أمر إيفروني بفتح 13 تحقيقاً جنائياً فقط، (عدد منها يتعلق بحالات نهب وسرقة). لكن كان ذلك على قلته كثيراً جداً بالنسبة للأشخاص مثل نفتالي بينيت، الذين يؤمنون أن “جنود إسرائيل الشجعان” تجري مهاجمتهم بشكل غير عادل.
 
ما يطغى على النقاش الآن، وما يؤثر في آلية اتخاذ القرار لدى المدعي العام العسكري، هو الاحتمال الوشيك لانضمام الفلسطينيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، سعياً من أجل إثبات الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد المسؤولين الإسرائيليين. المسؤولون الفلسطينيون في رام الله أكدوا بالفعل أن الهجوم على غزة في الصيف الماضي سيكون على رأس جدول فلسطين في المحكمة.
 
تهديد الجنائية الدولية

هذا هو الاحتمال الذي أقلق الحكومة الإسرائيلية لفترة طويلة. في فبراير الماضي، حذر مسؤول قانوني كبير في وزارة الخارجية الإسرائيلية أن الانضمام الفلسطيني للجنائية الدولية قد يكون “تحدياً كبيراً جداً” و”بعيد المدى”. وفي الوقت نفسه تقريباً، تم الكشف عن أن “الجهود القانونية الكبيرة التي قام بها القسم الجديد نسبياً في وزارة العدل الإسرائيلية، كان يجري توجيهها إلى منع الفلسطينيين من متابعة مسار المحكمة الجنائية الدولية”.
 
لكن ما علاقة ذلك كله بالمدعي العام العسكري؟ بالنسبة للبعض، وربما هذا يتضمن إيفروني نفسه، فإن تحقيقات الجيش الإسرائيلي في انتهاكات جنوده هو الدفاع الأكثر فعالية ضد الملاحقات القضائية الدولية. وفي مقال نُشر مؤخراً بعنوان “قطع الطريق على لاهاي: كيف يسعى الجيش الإسرائيلي لتجنب اتخاذ إجراءات قانونية دولية”. أوضح فيها مراسل صحيفة هآرتس عاموس هارئيل ما نصه:
 
“تفترض إسرائيل، على خلفية كل من أحداث عملية الجرف الصامد، وبعد تقرير غولدستون في 2009 بشأن عملية الرصاص المصبوب في قطاع غزة، أن التحقيق الداخلي الشامل سوف يقلل من الضغط الدولي، وقد يحبط الإجراءات القانونية ضد ضباط الجيش الإسرائيلي في الخارج.”
 
وبالتالي، وفقاً لهارئيل، في حين أن قادة الجيش الإسرائيلي غير راضين عن التحقيقات بالأساس، إلا أن إيفروني مقتنع بأنها ستجنبهم الملاحقة في المحكمة الجنائية في لاهاي.
 
عارئيل ليس وحده في هذا الاستنتاج. فقد قال إيلان كاتز، وهو نائب سابق للمدعي العام العسكري، لأسوشيتد برس، أنه “إذا كان يمكن لإسرائيل أن تظهر أنها قامت بتحقيقاتها الخاصة بحسن نية، فإن ذلك قد يجنب إجراء تحقيق خارجي”. كما كتب صحفي إسرائيلي خلال الأسبوع الماضي كيف أن إيفروني “أوضح أن التحقيقات الجنائية تهدف إلى تبرئة القادة، وإلى تجنب لجان التحقيق الدولية”.
 
الأمر أيضاً لا يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، فهناك أيضاً جلسات مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي يرأسه ويليام شاباس. في الحقيقة، إن مدافعين عن لواء جعفاتي كانوا قد نُقل عنهم في صحف إسرائيلية رفضهم أن يكونوا “ضريبة شاباس”، في إشارة إلى فكرة “أن يحتاج محامو الجيش الإسرائيلي إلى التحقيق جنائياً مع عدد من الجنود لتخفيف الضغط الدولي، ولتفسير مقتل أكثر من 2000 فلسطيني”.
 
الآن يعتقد الكثيرون، كما يفعل الكاتب في بلومبرج نوح فيلدمان، أن أبرز عائق أمام تدخل الجنائية الدولية هو تحقيقات إسرائيل، إذ يحتاج المرء أن يؤمن أن إسرائيل لديها نظام قضائي قوي، وأن الجيش يعمل تحت إشراف قضائي، وهذا ما لا مثيل له في أي مكان في العالم.
 
ثقافة الإفلات من العقاب

ومع ذلك، فإن الإحصاءات تروي قصة الإفلات من العقاب. ففي فترة 13 عاماً، حيث قُتل أكثر من 5000 فلسطيني على يد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، لم تدن المحاكم العسكرية الإسرائيلية سوى سبع جنود فقط في جرائم قتل المدنيين، ووفقاً لمنظمة ياش دين الإسرائيلية، فإن “احتمالية أن يتم التحقيق في قتل جندي مدنياً فلسطينياً، فضلاً عن عقابه، ضئيل إلى حد غير موجود بالمرة”.
 
عملية الجرف الصامد كانت الثالثة من نوعها كهجوم واسع النطاق على قطاع غزة منذ يناير 2009، والثالثة أيضاً من حيث غياب منهجية للمساءلة أو المحاسبة. فبعد عملية الرصاص المصبوب على سبيل المثال، وبعد مقتل 1400 فلسطيني، كانت هناك 500 حالة يُشتبه في أنها انتهاكات ضد القانون، قادت إلى 52 تحقيقاً، وهو ما أدى إلى 3 اتهامات فقط! وأقصى عقوبة لهذه الاتهامات كانت أقل من عقوبة سرقة بطاقة ائتمان في إسرائيل!!
 
هذا السجل المليء بحالات الإفلات من العقاب، أدى بالمنظمات غير الحكومية الإسرائيلية البارزة إلى رفض الدعوات من الجيش الإسرائيلي للمساعدة في التحقيقات الجارية، وذلك، كما قالت منظمة بتسليم،  لتجنب أداء دور في “آلية تبييض الوجوه القائمة”. كما أشارت المنظمة إلى أنه، من بين مشاكل كثيرة أخرى، المدعي العام العسكري لديه “دور مزدوج”.
 
اقتباس: “إنه يعطي استشارات قانونية للجيش قبل وفي أثناء القتال، ورغم ذلك فهو المسؤول في اتخاذ قرارات باتهام أولئك الذين انتهكوا القانون. حيثما صدرت أوامر غير قانونية بعد استشارة المدعي العسكري، فسيصبح هناك تضارب متأصل في المصالح”
 
الأول من أغسطس، رفح

الكثير من التوترات التي انتشرت في الآونة الأخيرة في إسرائيل تتعلق بأسئلة بشأن تحقيق محتمل في مسيرة لواء جعفاتي في رفح، عقب اختطاف هادار جولدن من مقاتلي حماس في 1 أغسطس. أحد المعلقين الإسرائيليين وصف الحادث بأنه “الأكثر إثارة للجدل في الحرب والوحيد، الذي يمكن أن يحكم العالم على صلاحية التحقيقات الداخلية في جيش الدفاع الإسرائيلي”.
 
في ذلك الصباح، وبعد وقت قصير من وقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة، الذي كان قد دخل في حيز التنفيذ، واجه مقاتلو حماس جنوداً إسرائيليين يقومون بعمليات في رفح، اشتبكوا معهم وقتلوا ثلاثة، وأخذوا جسد غولدن. بينما قالت إسرائيل إنها تفسر شروط الهدنة بما يسمح لقواتها بمواصلة استهداف الأنفاق، اعترف مسؤولون في وقت لاحق أن حماس “لم تلتزم بأي اتفاقية هدنة مثل تلك، على الرغم من أن واشنطن قادت الإسرائيليين إلى التصديق بأن حماس قد وعدت بأن تلتزم بالهدنة”.
 
كان الجنود الإسرائيليون المتورطون من ضمن لواء جعفاتي بقيادة العقيد عوفر وينتر، وهو شخصية سيئة السمعة كان يقول لقواته قبل الغزو إنهم في معركة لمحو  العدو الذي يشوه الإله. وبينما أكد رئيس الأركان الإسرائيلي بيني جانتز الأنباء بأن جولدن قد فُقد. “تم إعلان توجيه هانيبال من وينتر”.
 
الأمر هانيبال
 
وُضع الأمر هانيبال في منتصف الثمانينيات، وكان مؤلفوه هم: الميجور جنرال يوسي بيليد، والعقيد غابي أشكنازي، والعقيد يعقوب عميدرور. ادعى بيليد أن الأمر سمح للجيش بأن يخاطر بحياة الجندي المخطوف لكنه ليس أمراً بقتله أو قتلها. وفي عام 2011 عادت القضية إلى دائرة الضوء بفضل إطلاق سراح جلعاد شاليط بعد التفاوض على إخراجه من الأسر. بعد الإفراج عن شاليط، قال جانتز في اجتماع لقادة الجيش الإسرائيلي، إنه عندما يتعلق الأمر بتوجيه هانيبال، ومنع عملية الخطف، فإنه “ليست هناك أجوبة صحيحة وأخرى خاطئة”.
 
اقتباس: “الأمر ليس مثل المدرسة. أنت مضطر لاستخدام حكمك الشخصي. كل منطقة لديها تعليمات خاصة بها، لكن التعليمات العامة هو أن الخطف هو من نوع الحوادث التي يجب منعها تماماً”
 
في سبتمبر الماضي، أكد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي وجود أمر هانيبال، ووصف ذلك بأنه إجراء داخل الجيش للتعامل مع حادث اختطاف على أي جبهة. وهو “يحدد الطريقة التي يتعامل بها الجيش الإسرائيلي في حالة وقوع حادث اختطاف بداية من الإعداد للاختطاف وحتى مرحلة إحباط الاختطاف أو فقدان الاتصال مع الخاطفين”.
 
هناك احتمال أن شخصاً ما داخل لواء جعفاتي سيتم تحميله مسؤولية ما حدث في أغسطس، وهذا ما تمت الإشارة إليه في تقرير أغسطس الذي قال إن “قائد لواء جعفاتي قام بتطبيق هانيبال دون إذن مباشر من فرقة غزة والقيادة الجنوبية للجيش”. ولكن من الواضح أن إعلان هانيبال في ذلك اليوم لا يمكن وصفه بأنه عمل يخالف أوامر الجيش.
 
هذا لأن التوجيه هانيبال كانت قد تمت الموافقة عليه من أعلى مستويات الجيش الإسرائيلي، والأهم أن التوقع كان أن تنفيذ الأمر سيتم بناء على ذلك القرار الذي يتخذه القادة على الأرض في اللحظة نفسها. الشخصيات العسكرية الذين قابلتهم إسرائيل هايوم في 2011 وافقوا أن “القادة في الميدان هم من يقررون إلى أي مدى يمكن أن يذهب البروتوكول”.
 
رفح المدمرة
 
ليس هناك شك في أن توجيه هانيبال قد تم تنفيذه بالفعل. وقد أكد قائد السرية العقيد إيلي جينو كيف أعلنوا رسمياً تطبيق توجيه هانيبال على أجهزة الراديو بعد 20 دقيقة من الاشتباه في اختفاء غولدن. أحد القادة الآخرين لم يشعر بأي خجل وهو يقول “كل ما فعلته، حتى لو دمرت المنازل أو جرحت الفلسطينيين، كان بدافع من ثقتي بأننا نسير في طريق صحيح” وتابع “تماماً كما تعلمنا في الجيش”.

الميجور ديفيد تشين من لواء جعفات وصف الهجوم على رفح في الوقت نفسه بأنه “حاسم، وعدواني، لكي يضمن عدم تكرار مأساة جلعاد شاليط مرة أخرى”.
 
وكانت النتائج مدمرة. فوفقاً لتقرير صدر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإنه بحلول العاشرة صباحاً في يوم الثاني من أغسطس، كان الجيش الإسرائيلي قد أطلق 100 ضربة جوية، والمئات من قذائف الدبابات بشكل عشوائي، مدمراً العديد من المنازل دون سابق إنذار. ووصفت منظمة الميزان لحقوق الإنسان ما حدث بأنه “قصف مكثف بالمدفعية والطائرات”. وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه في الأول من أغسطس، أطلق الجيش الإسرائيلي أكثر من 1000 قذيفة مدفعية في ثلاث ساعات فقط، بالإضافة إلى قصف رفح بأكثر من 40 ضربة جوية.
 
أطلق الجيش الإسرائيلي “قوته الهائلة” بينما كانت “الجرافات تهدم البيوت”، وبينما كانت ”بطاريات المدفعية والدبابات والطائرات تفتح النار وتعزل منطقة الاختطاف، ويقال إنها استهدفت جميع المركبات المغادرة للمنطقة”. وصفت مصادر عسكرية إسرائيلية مجهولة المصدر الهجوم لاحقاً بأنه “العمل الأكثر عدوانية من نوعه الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي”.
 
ليس هناك نقص في الأدلة حول كمية النيران المستخدمة وكثافتها. وذكرت هآرتس أن “عشرات المدنيين الأبرياء قُتلوا في القصف”، معترفة بأن “كبار القادة الميدانيين أمروا بتنفيذ توجيه هانيبال بشكل كامل”. وأشارت الصحيفة إلى أن “الجيش علم بأن أبرياء ستتم إصابتهم نتيجة الاستخدام المفرط للقوة”.
 
الحصول على عدد الوفيات الدقيق نتيجة قصف رفح هو أمر بعيد المنال، وكالة أسوشيتد برس استشهدت بالمعلومات من تقارير مجموعات حقوق الإنسان الفلسطينية، التي قالت بمقتل 121 و 69 في يومي 1 أغسطس و 2 أغسطس على التوالي. كان من بين القتلى 55 طفلاً. وتحدث تقرير لوكالة رويترز في 13 أكتوبر عن أن “القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي في 1 أغسطس تسبب في قتل 150 شخصاً في غضون ساعات”، وهو ما أسفر أيضاً عن جرح 200 آخرين أغلبهم من المدنيين.
 
لخص  الكاتب في صحيفة هآرتس "أوري مسغاف" أحداث 1 أغسطس بما يلي: "ما حدث ضمن إطار توجيه هانيبال كان " سحقاً متعمداً، دون سابق إنذار، لمنطقة حضرية مكتظة بالسكان ".
لا يزال الكولونيل وينتر فخوراً بما فعله لواء جعفاتي الذي يقوده.: "كل شيء فعلناه كان نابعاً من إيماننا بقدرتنا على إعادة هدار غولدن إلى الحياة . وهذا هو السبب في استخدامنا لكل تلك القوة . أي شخص يقدم على الخطف يجب أن يعرف انه سيدفع ثمناً باهظاً لفعلته. لم يكن الانتقام غاية لنا ، لقد عبثوا مع اللواء الخطأ فحسب.
 
وكما كتب شعوان جبارين، رئيس مؤسسة الحق، فإن “الوجود الرسمي لتوجيه مثل ذلك، يدعو لقصف واسع النطاق للمناطق المدنية دون أي اعتبار لمبادئ القوة المتناسبة أو التمييز (بين المدني والعسكري)، هو صفة واضحة لجرائم الحرب”. وذلك التوجيه “يبدو أنه قد تم تنفيذه بدقة”.
الأدلة على ذلك ماحقة! كما أنها تدلل على الطبيعة الساخرة وغير الجادة لعملية التحقيق الداخلية في الجيش الإسرائيلي. من ناحية المساءلة وتحقيق العدالة للضحايا، ليس هناك من سبب أو مبرر لئلا يواجه المتورطون من المسؤولين الإسرائيليين أوامر اعتقال، وأن يتم وضعهم في نهاية المطاف في أقفاص الاتهام.



(نقلاً عن صحيفة ميدل إيست مونيتور)

https://www.middleeastmonitor.com/images/article_images/people/ben-white-2.jpg
التعليقات (0)