كتاب عربي 21

"الإعلاميين بتوعنا"

محمد طلبة رضوان
1300x600
1300x600
قيمة التسريبات، ليست في تعريفنا بمادتها، فهي معروفة لكل متابع، يسمع ويرى، إنما تكمن قيمة التسريبات الحقيقية في توضيح ما هو واضح لهؤلاء المُصرين على تمثيل دور المخدوع، أو الأعمى، فحين تخبرنا التسريبات بأن رجال الدولة المحترمين، تحايلوا على القانون، وتدخلوا بالتوجيه المباشر في عمل القضاء، وفي عمل النائب العام شخصيا، ولفقوا تهما، وضربوا أوراقا، وزوروا أحرازا، وتباهوا فيما بينهم بذلك، فهي لا تخبرنا بجديد على مستوى الرصد الأولي لما يحدث على الأرض، إنما هي كلمة "اخرس" في وجه طبال جائر، يحاول إيهامنا بأن كل شيء على ما يرام، وأن الشمس في رابعة النهار ليست إلا خدعة بصرية مردها إلى المؤامرة التركية القطرية الصربية الأمريكية الصهيونية العالمية.

تسريب آخر، مكالمة بين مدير مكتب السيسي عباس كامل، والمتحدث باسم القوات المسلحة أحمد علي، يتحدث عباس بشكل واضح عن الإعلاميين التابعين للمؤسسة العسكرية، المطبلين لها، "المعرضين" بخصومها، السياسيين بطبيعة الحال، ويرسل عباس كامل إليهم ببعض التعليمات الجديدة التي اتفق عليها مع المشير، كما يقول، عن طريق المتحدث الرسمي.

التسريب، كالعادة، سمعه وتابعه عشرات الآلاف، ومع ذلك لم يأت ذكره في جريدة مصرية واحدة، أو أي نافذة إعلامية، باستثناء موقع "مصر العربية"، مع كل فضيحة مدوية للنظام العسكري، يصاب جميع من ملأوا الدنيا صخبا ومزايدات على الثورة، والنشطاء، والإخوان، والدنيا، والدين، بالسكتة الجرائدية.

يشاغب عليك بعض المهللين للحكم العسكري في مصر بوصفه الحل الوحيد والحتمي، بل والفطري الذي خلقنا الله عليه، لا نعرف سواه، ولا نستوعب إلاه، ولا يصلح لبلدنا بحكم الموقع والتاريخ، والتعود، عداه، يخبرونك أن ما يحدث في مصر صحي، وأن مصر على الطريق الصحيح، وأن العسكر ضرورة، وأن الجيش هو عمود الخيمة، وأن العساكر ليسوا كما يصورهم خصومهم، من المتآمرين بطبيعة الحال، فيما تخبرك التسريبات، بما يؤكد عكس ذلك كله.

مكاتب مخترقة، فاشلون، كذابون، لا يقدرون على حماية أنفسهم ويزعمون أنهم يحمون مصر بأكملها، يدعون الصدق، ويكذبون كما يتنفسون، يستأجرون إعلاميين رخائص، ويطلقونهم على خلق الله بالخرافات والدجل والشعوذة، يشوهون عقلية المواطن، ويستغفلونه، ويلبسونه العمة – كما يقول عباس كامل بنفسه في التسريب – ثم يخرجون عليه بوجوه باسمة، ويخبرونه بأنه نور أعينهم، وبأنهم يودون لو يقتطعوا له "حتة" من السما.

يتجاوز الأمر الكذب والنفاق والتدليس، والتزوير، إلى السلوك المقزز، والمقرف، تشعر وأنت تتابع أنك تريد أن تبصقهم، أن تتقيأهم، أن تتخلص من هذا العار التاريخي الذي ألحقوه بنا أن حكمونا فجعلونا مسخرة العالم، ولا أبالغ إذا قلت إنه في ظرف آخر لا يقتضي فضح هذه العصابة التي تحكم مصر تحت تهديد السلاح، لم يكن من الصالح أن تنشر مثل هكذا تسريبات، فالفضيحة تطالنا جميعا، هؤلاء من يحكموننا، ويرتضيهم بعضنا، بكل أسف.

الاستماع إلى التسريب جيدا، وهو من التسجيلات التي يحسن بك أن تستمع إليها أكثر من مرة، يقف بك عند حدود النظرة العسكرية، لكل من هم ليسوا بعساكر، ولو كانوا حلفاءهم، وأذرعتهم، وأرجلهم، وأحذيتهم التي يدوسون بها على أدمغة الناس.

يخبرك ظاهر الخطاب، دون حاجة إلى تحليله بقيمة العسكري عند نفسه، ورؤيته لشخصيته، ولما ينبغي للناس أن يعلموه عنه، ولا يتجاوزوه، ورؤيته لمفاهيم المختلفة عن المتفق عليه في أدبيات العلوم الإنسانية، السياسية بالأخص، وفي السائد بين الناس من تصورات عامة، حول المرشح الانتخابي، الحملة الانتخابية، المنافس، النقد، .... إلخ.

• المشير السيسي، وفقا لتعليمات مدير مكتبه للإعلاميين = رجل، شجاع، متميز، حر، مصري، وطني، وهو أيضا الحاجة الجميلة اللي لقيناها في حياتنا !!.

• العسكر = الناس المحترمة الذين لم نر منهم سوى كل خير، والذين لا ينبغي لأحد من الناس أن "يتخيل" أنهم "يخطئون"!!

• نقد السيسي = عيب، نكران للجميل، أساليب رخيصة، مؤامرة يشترك فيها كل الأطراف، ويجب على الشعب حماية مرشحه!!

• جوقة الطبالين المؤيدين للسيسي في كل شيء من القتل إلى الحكم، الذين يسميهم مدير مكتبه بـ "الإعلاميين بتوعنا" = الواد الحسيني، العيال بتوع أون تي في، وائل الإبراشي على إبراهيم عيسى، على أحمد موسى، كأنه يحصي غنما.

وأخيرا الشعب المصري، وحملات المرشحين الآخرين، وهذا أطرف ما جاء في مكالمة عباس مع أحمد علي، فهو يخبر المتحدث الرسمي بأنه على الإعلاميين أن يقولوا للناس: يرضيك كده يا شعبنا المصري، بقى هو ده اللي يستاهله الرجل ده منك، انزلوا احموا مرشحكم، انزلوا احموا حبيبكم!!

هذا الكم من الازدراء، لعقلية المصريين، والاستخفاف بمشاعرهم، وابتزازها، بشكل لا يتجاوز فحسب ما كنا نصفه في إعلامنا بـ الجرائم الانتخابية من شعارات دينية، وزيت وسكر، بل يتجاوز شحاذ حقير يدعي الفقر كي يخرج الجنيه من جيوب المتعاطفين.

الأطرف على الإطلاق، والكوميدي، هو وعي الباشا بحملات المرشحين المنافسين، ولا أعلم أين هم، لكن لا بأس، يخبرك عباس كامل، أن المشير السيسي لم يستخدم الأساليب الرخيصة للمرشحين المنافسين، الذين نزلت حملاتهم للناس، وهم يرتدون الكابات والتي شيرتات، وكما ترى، هذه جرائم متتالية، ومركبة، وتستوجب المساءلة، والتحقيق، ومع ذلك تركهم المشير السيسي في غيهم يعمهون، وكان طيبا معهم، ولم يفعل لهم شيئا، ولم يفعل مثلهم، بل استعفف، فهم والعياذ بالله، سمحوا لأنفسهم أن يكونوا مرشحين منافسين، ولم يكتفوا بذلك بل نزلوا إلى الناس، وليتهم نزلوا والسلام، لا، بل ارتدوا التي شيرتات، والكابات، أي خزي وأي عار، مرشح، وحملته ترتدي تي شيرتات، وكابات، ماذا تركنا للكائنات الفضائية إذن؟

لا يعرف سادة اللواء أن الانتخابات في دول لا يحكمها العساكر، هي كرنفالات، يتنافس فيها مخلوقات مثلنا، وفق قواعد ديموقراطية، يرتدي فيها الناس تي شيرتات عليها صور مرشحهم، ويحملون اللافتات، ويتواصلون مع الناس بكل الطرق، ويروجون لمرشحهم دون أن يعد ذلك جريمة في حق المنافس الآخر، لأنه بطبيعة الحال، مخلوق أرضي مثلهم يأكل ما يأكلون، ويشرب ما يشربون، وليس كائنا علويا من أصحاب الدم العسكري.

رغم ما يحمله التسريب من بؤس، على مستوى تحليل نفسية المتحدث، ونظرته إلى الناس، إلا أن كلام عباس كامل عن ضرورة الإسراع بالترويج لأكاذيب تتعلق بمؤامرات حول المشير السيسي تستهدفه، وتحاول النيل منه، ومقارنة ذلك بحجم الخطاب الناقد للسيسي بالفعل في ذلك الوقت، الذي لا يكاد يذكر أصلا، يخبرك إلى أي مدى يتصرف قادة الانقلاب العسكري بنفسية "اللص"، الذي يخشى من أي همسة بجواره، أي كلمة من أي طرف تفيد تورطه، يحسبون كل صيحة عليهم، رغم امتلاك كل ما نظنه نحن مصادرا للقوة، والتأثير، إلا أنهم يعلمون أكثر منا، ربما لأنهم ذاقوا، أن هذه الثورة لم تنته كما يروج اليائسون، وأنها كامنة في لحظة تاريخية ما، وأن استدعاءها ليس ببعيد، إذا لم يحكموا السيطرة على نوافذ الرأي، والتوعية، وهو ما يخبرك بحجم الجريمة الحقيقة التي يرتكبها كل إعلامي في موقع تأثير، مهما بلغ حجم هذا التأثير حين يساند نظاما إجراميا، بهذا الشكل، سواء بالترويج والتهليل، أو بإمساك العصا من المنتصف في لحظة أكثر راديكالية من أن يكون المسلك الإصلاحي سبيلا لمعالجتها، فإذا كان العسكر منتبهين لقوتنا إلى هذا الحد، فليس أقل من أن ننتبه مثلهم، ونحترم أنفسنا، ومنجزنا، ونفعلها.
التعليقات (3)
محمد رجب
الأربعاء، 04-02-2015 07:08 م
العسكري أبعد شخص عن الابداع و هذا ليس إنتقاصا من قدره فالمهام الجسام التي يكون مسئولا عنها بحكم كونه جنديا وطنيا تتطلب منه الالتزام بتنفيذ الاوامر و اليقظة و الانتباه لحماية الارض و العرض و يكون ذلك برؤية يحددها السياسيين المنتخبين . أما ان يتصدر العسكريون المشهد و يتبوأوا المناصب السياسية فإن علي الدولة السلام .
عمرو المراكبي
الجمعة، 23-01-2015 02:17 ص
يكشف التسريب الجديد عن كيفية إدارة النظام القائم للمشهد الإعلامي لخداع وتضليل الجماهير، وتمرير الرسائل الملغومة بما يتناسب ومصالح الذين يقفون خلفها. وذلك لتوجيه الرأي العام ودفعه لتبني مفاهيم وقناعات وخيارات تتناقض وتتعارض جذرياً مع مصالحه ومطالبه في الحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية، كي يظل رهينة في يد شبكات مصالح محلية وإقليمية ودولية تحتكر كل شيء لصالحها، ولا تدع له غير وهم الأمن والاستقرار. فهكذا تم استغلال حالة الاحتقان والغضب الجماهيري الناجمة عن أزمات طبيعية ومتوقعة بعد تراكم الفساد لعقود مضت، وارتفاع سقف التوقعات والمطالب بما لا يتناسب مع الموارد المتاحة، لتجييش الجماهير والدفع بها في 30 يونيو 2013، لاستخدامها كغطاء لإسقاط التجربة الديمقراطية الوليدة، وإفساح المجال للقوى المعادية للتغيير للقفز على السلطة بإسناد إقليمي ودولي، وتواطؤ سافر من أغلب التيارات والقوي السياسية السلفية والعلمانية من اليمين إلى اليسار. وهكذا يتم تشويه قوى المعارضة السياسية الرافضة للمسار الجاري، في إطار مخطط مرسوم سلفاً، يتم البرمجة له والترتيب والتخطيط المستمر لفصوله وفقاً لتطور الأحداث، لتدمير أي معارضة سياسية حقيقية، وبث روح الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، وعدم السماح بفتح أي أفق لحوار سياسي جاد يفضي إلى وفاق وطني. وهكذا يتم شيطنة تيار فكري يعبر عن حركة إسلامية وسطية التفكير شاملة المنهج والوسائل تأثر بها الملايين حول العالم، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، واستغلال موجة العنف والإرهاب التي فجرها الانقلاب الدموي الغاشم، وراح ضحيتها عدد كبير من ضباط وجنود الجيش والشرطة، لشن حملات مسعورة عليها وإثبات علاقة لا وجود لها بينها وبين التنظيمات الإرهابية، التي هيأ لها وئد التجربة الديمقراطية ظروفاً مثالية للعيش والتطور، عبر إفساح المجال لدعاة العنف والتعصب والكراهية العمياء. فالاستبداد هو المولد الرئيسي للعنف والتطرف، الذي دائما ما يتبع الاستبداد كظله، ويوفر له الغطاء لتبرير أفعال البطش والقمع. فالنظم المستبدة لا تسيطر على السلطة فقط بقوة السلاح (فهناك دائماً حدود للقوة)، إنما تسعى إلى السيطرة على الجماهير وتغييب معايير العقل والمنطق لديها، باستخدام أساليب التمويه والتعمية والتضليل والإغراق في متاهات الجدل والسفسطة، وزرع الأباطيل ونشر الأكاذيب، وخلط الأوراق والرؤى، من خلال القصف الإعلامي المستمر لمحترفي التدليس والتضليل من النخب الفاسدة المتسيدة للساحة السياسية والإعلامية. وذلك حتى تتمكن هذه النظم من تعطيل ملكة التفكير لدى الجماهير، وتسهيل زرع أي فكرة فيها، ومن ثم التحكم بسلوكها وبردات فعلها، وتمرير ممارستها وسياساتها الحمقاء، كي يصبح التعايش مع الفساد والاستبداد أمراً واقعاً ومسلماً به. خاصة وأن أمخاخ بعض البشر مهيأة لزراعتها بما يناسب جهلها ويعززه، مع إقناعها بأنها باتت متميزة وذات قدر وقيمة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، بعد أن اتخذ الفساد والاستبداد بنية أخطبوطيه لا يمكن معالجتها ... أين ذلك من إعلام يستهدف الوعي، واحترام الحقوق والحريات، وعقلنة تسيير المؤسسات، ومحاربة الفساد، وترسيخ الديمقراطية وآليات دولة القانون؟ أين ذلك من واقع لا يتحول فيه القادة إلى صفوة متسلطة متحكمة، بل يظلون في مواقعهم البسيطة يساعدون الناس على تبين حقائق واقعهم، ويدفعونهم الى التحرك الإيجابي نحو طريق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؟ إلا أن موجات الغضب والسخط والتذمر التي اخترقت فئات عريضة من الشعب، بعد أن فضح الواقع كافة الوعود والشعارات البراقة التي تم استخدامها للتعمية والتضليل، تشير من جديد إلى سقوط العديد من الخطوط الحمراء، وإدراك أن الوعود الفضفاضة واعتماد المكر السياسي لن يقود البلاد إلا إلى المزيد من الاحتقان. بما يؤشر لانبثاق وعي جديد بأن طريق الخلاص الضامن لتحقيق شروط التقدم المادي والمعنوي، ووقف تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو المشروع الديمقراطي القابل للتطور وفقاً لتطور المجتمع وقدرته على تمثل قضاياه، والتعامل مع التحديات الجسيمة التي يفرضها الواقع. لأنه المشروع الكفيل دون سواه بتمكين السواد الأعظم من الشعب من تحقيق طموحاتهم الأساسية في الحرية العدالة الاجتماعية والمساواة والأمن واسترجاع الأمل في المستقبل، بعيداً عن عصابة القتلة والمزورين والمدلسين الحاكمة وأذرعها الأخطبوطية.
محمد عثمان
الخميس، 22-01-2015 12:43 ص
هذا هو التحدى الاكبر ... مفتاح السر وحل اللغز . . . ما هو مقدار قوتنا الحقيقيه . . وكيفية توجيه هذه القوه .. ومدى فاعليتها .. ثم مدى تأثيرها . . . هل سنعيش طويلا فى حالة المد الثورى ..... متى سندرك اننا اصحاب القوه الاعظم . . . علينا ان نتحول من حالة المد الثورى الى حالة الثوره . . . . وعلينا ان نعلم انه ما من ثوره متفق على ميعاد لها مسبقا . . . وقت ما تكون جاهز ( اضرب )
بسام الخواجا
الأربعاء، 21-01-2015 06:57 م
مقال رائع ومتعمق.. بارك الله فيك